مصر واليمن، دعم تاريخي ومسؤولية مشتركة
نجيب السعدي يكتب: مصر واليمن، دعم تاريخي ومسؤولية مشتركة
عندما قررت مصر عبدالناصر الوقوف مع الشعب اليمني ومساندة ثورته الفتية في 26 سبتمبر المجيدة، كان قرارًا نابعًا من بُعد قومي عروبي يتمثل في مساندة شعب عربي مضطهد أخرجه حكم الإمامة من سياق التاريخ. فكانت النصرة والمساندة ليستعيد هذا الشعب العربي مكانته ويصبح ترسًا فعالًا في الماكينة العربية المناهضة للإمبريالية والاستعمار العالمي.
كما أنه لم يكن غائبًا عن ذهن مصر عبدالناصر العلاقة بين النظام الإمامي في اليمن والكيان الإسرائيلي الغاصب الذي احتل الأرض العربية الفلسطينية قبل 14 سنة من قيام ثورة سبتمبر، وما قدمه نظام الإمام من دعم متمثل في طرد وإجلاء اليهود اليمنيين من اليمن وترحيلهم إلى إسرائيل ليشكلوا في المستقبل أحد روافد جيش الاحتلال الغاصب.
لقد كانت مصر عبدالناصر تضع نصب عينيها أمن مصر القومي، والذي يبدأ من باب المندب، وكانت تدرك أن سقوط نظام الإمامة وقيام نظام جمهوري يطل على مضيق باب المندب يمثل انتصارًا كبيرًا للوجود العربي في مدخل البحر الأحمر. كما أن الجمهورية الفتية ستشكل خنجرًا في خاصرة التواجد البريطاني في جنوب اليمن وسواحل الخليج. وقد كان لمصر ما أرادت، حيث انتصر المشروع العربي في جنوب اليمن وصولًا إلى الكويت، فعقب ثورة سبتمبر ومن آثارها خرجت بريطانيا وهي صاغرة من كل الجزيرة العربية، وهو الأمر الذي اعتبره اللواء سعد الدين الشاذلي في مقابلته مع الجزيرة (شاهد على العصر) من مكاسب التدخل المصري في اليمن.
كانت القيادة المصرية بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر تعتبر أن التدخل في اليمن هو جزء من المسؤولية القومية والإنسانية تجاه شعب عربي مسلم يعاني من ظلم وطغيان الإمامة، لذلك لم نسمع يومًا خطابًا أو موقفًا ينطلق من منطلق التعالي وصاحب الفضل.
كما أن الدعم المصري لليمن لم يكن عسكريًا فقط، بل كان تدخلًا في جميع مناحي الحياة. فقد رافقت كتائب الجيش المصري في اليمن كتائب من الإداريين الذين أسسوا للنظام الإداري والمالي، وكذلك كتائب من التربويين الذين وضعوا اللبنات الأولى للتعليم، وكتائب هندسية للبناء وشق وتعبيد الطرق. كما أن المساندة المصرية لم تكن من قبل الدولة فحسب، بل كانت مساندة من قبل الشعب المصري بكافة فئاته. ولعل الفن والشعر هو أصدق تعبير عن هذه المساندة، حيث غنى كثير من الفنانين لليمن وللثورة اليمنية. لم تكن أغاني الفنانين المصريين لثورة اليمن أغاني عامة تتحدث عن الثورة وقيمها فقط، بل اندمجوا مع الشعب اليمني وغنوا لمدن اليمن ومناطقها.
غنوا للمقاتل المصري الذي شارك إخوانه اليمنيين ثورتهم من أجل العزة والكرامة كما تحكي ذلك أغنية (يا حبايب بالسلامة) للفنان الكبير عبدالحليم حافظ، كما غنى لأفراح اليمنيين في صنعاء وصعدة بسقوط الحكم الرجعي الفنان ماهر العطار في أغنيته (فوق الجبل أفراح).
كثير من الفنانين المصريين غنوا لليمن وثورة اليمن، وكان ذلك تعبيرًا عن الزخم الشعبي الصادق في مصر المساند لثورة اليمن.
لقد اهتمت مصر بكافة تفاصيل اليمن وعملت على حشد كافة اليمنيين ليصبحوا خلف ثورتهم. وهناك الكثير من القصص التي تناولها الكتاب والسياسيون في كتاباتهم، كما أن هناك قصصًا أخرى تروى من قبل الآباء والأجداد الذين عاصروا فجر الثورة. إحدى هذه القصص في محافظة تعز، عندما زار الزعيم عبدالناصر مدينة تعز والتقى بمشائخها ووجهائها. كان من بين من التقاهم أحد مشائخ المسراخ وهو أحد أقارب المناضل الكبير الشيخ محمد علي عثمان. وأثناء الحديث بين عبدالناصر وهذا الشيخ، طرح عليه هذا الشيخ أن منطقته بحاجة إلى مشروع مياه ليشرب الناس ويسقوا الأراضي الزراعية. فرد عليه ناصر بالترحيب ومضى كل لحال سبيله. كان الجميع يسخر ويعتبر أن الحديث مع عبدالناصر بموضوع كهذا يعتبر مضيعة للوقت والجهد، فعبدالناصر لديه من القضايا والهموم الكثير وهو من يواجه الشرق والغرب. تمضي الأيام وبعد شهرين يخرج فريق فني وهندسي إلى منطقة المسراخ ليقوم بعملية مسح، وبعد ذلك تنزل المعدات ويتم حفر بئر ارتوازية ليشرب الناس ويسقوا أرضهم.
فتحت مصر عبدالناصر الجامعات العلمية والكليات العسكرية للطلاب اليمنيين الذين درسوا وعادوا بعد سنوات قليلة ليصبحوا نواة للكادر الوطني الذي سيبني مؤسسات الدولة ويدير شؤونها ويقود جيشها بعد انسحاب الجيش المصري من اليمن عقب انتكاسة 67. وهذا بلا شك لم يكن تخليًا من مصر عبدالناصر عن دعم ومساندة اليمن، فقد انسحب المقاتلون المصريون بعد أن اطمأنوا لقدرات الجيش اليمني الجمهوري، واستمر الدعم والإسناد المصري لليمن وثورته بكتائبها الإدارية والفنية والتربوية وغيرها.
لقد حاول البعض النيل من دور مصر في اليمن، وأثير كثير من اللغط مستغلين بعض الأخطاء هنا وهناك، وتشكَّل داخل الثورة تيار مناهض للدور المصري في اليمن. ولكن الأيام الحالية أثبتت، وبما لا يدع مجالًا للشك، صوابية وجهة نظر القيادات اليمنية التي وُصفت بأنها موالية لمصر عبدالناصر.