السعودية تعلم السياسة: مناهج دبلوماسية بالخط الكوفي المُذهب!

السعودية تعلم السياسة: مناهج دبلوماسية بالخط الكوفي المُذهب! - فتحي أبو النصر
السعودية تعلم السياسة: مناهج دبلوماسية بالخط الكوفي المُذهب! - فتحي أبو النصر

فتحي أبو النصر  يكتب: السعودية تعلم السياسة: مناهج دبلوماسية بالخط الكوفي المُذهب!

طبعا عندما تهبط الطائرة الإيرانية في جدة، لا يبدو أن ما يدور هو مجرد زيارة دبلوماسية. بل هناك في السماء شيء ما يتثاءب من الضجر، فيما الأرض تتهيأ لاستقبال ضيوفها بكامل الوقار، وكأنها تقول: "هلموا إليّ... فقد عدتُ المركز، عدتُ القضية، وعدتُ الدولة التي تعلم العالم كيف يُدار الشرق الأوسط بأيدي لا ترتجف."

نعم: فجأة، إيران في جدة. فجأة، الوفود تتقاطر، والأكف تتصافح، والألسن تتبادل المجاملات... وكأن الذي كان بالأمس لم يكن. 
ترى هل هذا انقلاب في الزمن؟ هل أصابت طهران رصانةٌ غير متوقعة؟ أم أن المشهد ببساطة لا يُفهم إلا من بوابة اسمها المملكة العربية السعودية؟

تذكروا قبل أيام قليلة فقط، كان ترامب يلمع ربطته الحمراء استعداداً لزيارته للشرق الأوسط، مبتدئاً من السعودية، لا من تل أبيب، ولا من الدوحة، ولا من جنيف، بل من الرياض التي طالما كره الإعلام الغربي بروزها، لكنه اليوم مضطر لركوع ناعم أمام بواباتها.

بالتأكيد ليس سرا أن المملكة، في السنوات الأخيرة، أصبحت من يُمسك بمفاتيح المزاج الإقليمي. فبينما تنشغل بعض العواصم في تدريب ميليشياتها على النواح الطائفي، تنهمك الرياض في تدريب دبلوماسييها على إتقان لغات العالم... لا فقط من أجل التفاوض، بل من أجل أن يسمعهم العالم ويفهم أن من هنا تُكتب الفصول الجادة من كتاب الشرق الأوسط الجديد.

بمعنى أدق من كان يتخيل أن تطرق إيران باب المملكة بوفد "رفيع المستوى"؟ ومن كان يتخيل أن إيران تُسقِط من خطبها كل نبرة عداء فجة، وتبدأ فجأة باستخدام لغة تشبه لغة المراسلين في نشرات الأخبار؟ 
على إنه المشهد الذي يجعل المُشاهد لا يملك إلا أن يبتسم... ليس سخريةً من طهران، بل إعجاباً بجدة التي نجحت في جعلها تتحدث كالبشر.

وها هو ترامب، من جديد، يقرر أن يبدأ جولته من الرياض. لا من باريس، حيث الحلوى، ولا من لندن، حيث المتاحف، بل من هنا، حيث القرارات، حيث تُرسم حدود العلاقات، وتُعاد برمجة الدول الصغيرة التي كانت تظن أن صراخها هو سيادة.

ولأن السخرية حلالٌ في السياسة، دعونا نتخيل أن وزير الخارجية الإيراني وقف على كورنيش جدة، يلتقط سيلفي وخلفه البحر الأحمر، ثم يكتب: "السلام عليكم من أرض العروبة." شيء كهذا كان ضرباً من الخيال قبل أعوام، لكنه اليوم في متناول الكاميرا الدبلوماسية.

والشاهد إن السعودية لا تكتفي بإدارة المشهد، بل تكتبه على مهل، بالحبر الذي يُصنع من مزيج الهيبة والمصالح والمكانة. بلدٌ لا يرفع صوته كثيراً، لكنه حين يتكلم، يصمت خصومه. بلدٌ لا يصفّق لنفسه، لكنه يرى العالم يُصفّق له.

كذلك ليست القضية مجرد زيارة، بل درس في الهيبة. درسٌ في ضبط التناقضات، في جعل الحذر الإيراني يتوسل الابتسامة، وفي جعل الكبار يبدؤون من هنا حين يقررون أن يتحدثوا عن السلام أو الحرب.

والحال إن الرياض، ببساطة، لم تعد مجرد مدينة. إنها المدرسة. أما الآخرون، فلا بأس... ليواصلوا صراخهم في الزوايا، فالدروس الكبرى لا تُشرح في الأزقة، بل في القصور التي تعرف تماماً متى يُفتح الباب، ومتى يُقال: "أهلاً وسهلاً... تفضلوا على بركة الله.!