تعز
يحتار المرء في تبرير دوافع الحملة العسكريّة التي قادها الحوثيون خارج صنعاء بعد استيلائهم عليها في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤ ولم تتوقف حتى وصلوا إلى مدينة عدن، وفي مقال نشرته في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ ٨ مارس ٢٠١٥ بعنوان (الحوثيون وخطر الفتنة المذهبيّة في تعز) كتبت (اليوم، يواصل الحوثيون حصارهم النفسي وحملاتهم المذهبيّة على تعز غير عابئين بما يختزنه أبناؤها من تاريخ لا يحتمل الحملات الطامحة للسيطرة عليها، ولم يحملوا السلاح إلا تحت راية الدولة، وكانوا في مقدمة المقاتلين دفاعاً عنها في الستينيات حتى اشتدّ عودها، وبعدها عادوا إلى طبيعتهم المسالمة وتفرغوا لأعمالهم ومهنهم التي لم يتمكن أحد من ملء فراغها فانتشروا في كل زاوية في اليمن من المهرة حتى صعدة يقتاتون من جهدهم النزيه.. وفي مواجهة كل الحملات الظالمة التي واجهتها المدينة التي يسميها أبناؤها «الحالمة» كان مواطنوها يلجؤون إلى سياسة المقاومة بالحيلة كي يتفادوا ظلم حملة السلاح الذين لم تتوقف محاولاتهم لإخضاعها).
تحوّلت المحافظة إلى ساحة قتال شرس ولم ينجُ من بنيتها التحتيّة شيء وأصبح قلب المدينة أطلالاً ستظل شاهداً مؤلماً على عبثيّة وحماقة هذه الحرب، وانساق الشباب للقتال كلٌ لسبب. ولكن ما جمعهم هو كراهية الوافدين المسلحين ليس لأنهم ينتمون لمنطقة جغرافيّة مختلفة ولا لكونهم يتبعون مذهباً دينياً آخر ولكن لأن القادمين المسلحين دخلوا المدينة كفاتحين لا كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات.
مثل دخول المسلحين تحت شعار (المسيرة القرآنيّة) تحولاً كارثياً دمر النسيج الاجتماعي لتعز التي تعايشت معه من زمان طويل وكانت المدينة التي اختارها الإمام أحمد رحمه الله مقراً لحكمه منذ كان ولياً للعهد وحتى يوم وفاته قبل حركة سبتمبر ١٩٦٢، وفجأة ازدهرت الساحة بالمحرّضين من الطرفين الذين أمعنوا وأصرّوا على تحويل الأمر إلى أبشع مظاهر الاختلاف: (الخلاف المذهبي) الذي صارت تغذّيه جماعات متطرّفة من خارج الحدود.
إقحام العامل المذهبي أعاد التذكير بمآسي قرون مضت عانت منها المنطقة الشافعية، وكان منطلق التحوّل الذي استغلته كل الأطراف لحشد الشباب وإرسال التعزيزات من كل مكان للقتال تحت راية حماية المذهب والخلاص من سيطرة الشمال (صاروا يطلقون عليه مصطلح الهضبة بسبب ارتفاع المنطقة عن سطح البحر مقارنة بتعز) وارتفعت الأصوات الداعية للخروج ضد تحكم صنعاء بما تمثله من رمزيّة سياسيّة ومركز حكم على مدى قرون، واضطرت تعز لأن تنزع عن وجهها الروح المدنيّة التي ميزتها مع صنعاء وعدن عن باقي المدن اليمنيّة وانصهرت فيها جميع الأسر ودفنت في أعماقها لردح من الزمن جروح قرون ماضية، ولكنها انفجرت كبركان ممتلئ بالأحقاد والكراهية وشكل هذا المناخ ساحة مثاليّة للمتطرّفين للتجنيد.
لا شك أن الأحزاب السياسيّة خاصة تلك التي تنطلق في رؤاها وبرامجها من إرث ديني مذهبي لعبت دوراً محرضاً لأنها وجدت الساحة متقبلة لمثل هذه الطروحات التي حوّلت أهداف الحرب في تعز بالذات من رغبة في السيطرة إلى سعي لتهجير الفكر المقابل، فصار الحوثيون وأنصارهم يدمغون كل من يعارضهم بأنه (داعشي) وفي المقابل صار كل حوثي متهم بأنه ممثل ل (الروافض المجوس). وارتفعت نبرة الشحن المذهبي والمناطقي وخرجت إلى السطح روايات التاريخ القديم الذي كنّا نظن أنه اختفى من سنين طويلة، ومن الملاحظ أن وتيرة العنف في تعز ومشاهد القسوة لا تتسق مع طبيعة المدينة وأبنائها وهنا مكن الخطورة في أن تستغلّ الجماعات المتطرّفة رغبة الانتقام لتزيد من جروحها وتزداد الفجوة النفسيّة بين أبناء تعز.
لقد لاحظت انتشار مجموعات كثيرة في مواقع التواصل الاجتماعي تحمل عناوين جميلة تدعو إلى السلام والمحبة لكن الخطاب السائد بين المشاركين فيها أبعد ما يكون عن الهدف الذي يسعى إليه أغلب المشاركين، ويوحي ذلك التبادل اللفظي عن مخزون من النقمة والكراهية سترتفع مناسيبه مع كل يوم تستمرّ فيه هذه الحرب الملعونة التي ما كان لها أن تبدأ ولا أن تستمرّ لولا الغرور والحماقة اللذان ميزا تصرفات جماعة أنصار الله - الحوثيين منذ دخلوا العاصمة كفاتحين لا كمواطنين.