الإمامة في اليمن.. النشأة والحكم (1 - 3)
كانت ثورة 26 سبتمبر 1962م خلاصة موسم طويل جداً من النضال المتواصل ضد المشروع الإمامي الذي حاول أن يدفن عزة هذا الشعب ويؤبد مواته وانحساره عن ساحة الإسهام في بناء الحضارة وتقدم الإنسانية.
وإنه لمن قبيل الضرورة أنه ما لن يتم معرفة السواد الحالك الذي ثارت عليه الثورة ومدى كونه مشروعاً خبيثاً كان هدفه أن لا يستيقظ هذا الشعب من جديد. ولكن هذا الشعب استطاع أن يكلل كفاح القرون بثورة سبتمبر المجيد، وأن يعلن للعالمين أن لم يزل حياً.. وأنه الآن على أعتاب استعادة دوره الحضاري من جديد. فبمجرد أن تم طرد الإمامة والاستعمار استعاد اليمنيون وحدتهم.
في هذا المبحث أحاول هنا تسليط الضوء على الثورة اليمنية الخالدة معرجاً في البداية على تقديم صورة ملخصة عن طبيعة المشروع الكهنوتي الذي ثار عليه اليمنيون في الـ26 من سبتمبر 1962م لأدلف بعد ذلك للحديث عن معركة الانعتاق الكبير الذي تكللت صبيحة يوم الخميس قبل 46 عاماً من اليوم. وصولاً إلى جزء ثالث يتحدث عن العمليات الدائبة التي بذلها مخلفات التيار الإمامي في تشويه وتغييب ثقافة الثورة.
ارتكزت فكرة الإمامة في الفكر الشيعي الجارودي على استحقاق البيعة لمن يخرج من أبناء الحسنين داعياً لنفسه عالماً مجتهداً قوياً، وأضاف بعضهم: وخالياً من العيوب الجسدية والعاهات وأن يخرج شاهراً سيفه ويدعو إلى الحق. وجوّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة، وإن كانا في قطرين انفرد كل واحد منهما في قطره ويكون واجب الطاعة في قومه. ولو أفتى أحدهما بخلاف الآخر كان كل واحد منهما مصيباً، وإن أفتى باستحلال دم الآخر(1).
ظل اليمن في كنف الدولة الإسلامية المركزية، منذ أن اعتنق اليمنيون الإسلام على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، واستمر كذلك حتى بدايات القرن الثالث الهجري حين بدأت ملامح الضعف والشيخوخة تظهر على الدولة العباسية. حينها انسلخ اليمن عن بغداد.. وتأسست الدولة اليعفرية على يد الإمير يعفر، الذي خلفه ابنه محمد بن يعفر وقد وحّد اليمن وحكمها مدة عشرين عاماً وقتل في 270ه، انقسمت اليمن وتفرقت في عهد ابنه أبي يعفر إبراهيم بن محمد والذي قتل في عام 279 ه، وأصبحت حينها اليمن بلا راعٍ...
في ظل تلك الفوضى والشتات استجلبت الإمامة من الحجاز فحلّ الإمام يحيى بن الحسين على صعدة وقبائلها سنة 284ه، ولقب نفسه بالهادي وبدأ يدعو إلى الإمامة والتشيع بخوض الحروب الطاحنة ضد اليمنيين.. بينما وفي الجهة الاخرى في عام 268ه هبّ القرامطة وأعلنت الدعوة القرمطية في الغرب والجنوب واحتدم الصراع بينهم وبين اليمنيين(2).
الإمامة التي "استجلبت" من الحجاز لتصلح بين قبليتين متصارعتين وتحقن الدماء راحت تبث دعوتها وتكرّس عقيدة التشيع بين القبائل ثم تدفع بهم للجهاد "في سبيل الله" ضد من يمتنع عن البيعة لأحفاد النبي، صلى الله عليه وسلم. وتَشَكّل للإمامة كيان نسبي في عهد أسرة شرف الدين وولده المطهر اللذين حاربا الحكم والوجود العثماني في اليمن، تلك الأسرة مهدت لقيام الدولة الإمامية في اليمن.
قامت دولة الإمامة الجارودية في اليمن مرّتين: الأولى الدولة القاسمية التي أسسها القاسم بن محمد ثم أبناؤه من بعده واستمرت منذ العام 1006ه - 1598م وحتى مجيء العثمانيين للمرة الثانية إلى اليمن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أما دولة الأئمة الثانية فقد قامت على يد الإمام يحيى حميدالدين بن محمد من نسل الأسرة القاسمية واستمرت 44عاماً (إلى قيام الثورة اليمنية 1962).
مجموع السنوات التي قضتها الدول الإمامية منفردةً بحكم اليمن 233 سنة(3)، منها 44 سنة حكمت فيها الجزء الشمالي فقط. بينما كان الجزء الجنوبي مستعمراً من قبل الانجليز. فيما بقية الألف عام، الشائع، لدى الكثير من الناس، فإنهاكانت إمامة متواصلة متداولة بين الأسر الهادوية ولم تكن إمامة حكم ذات عاصمة وراية ونشيد؛ فخلال بقية تلك الفترة الممتدة (ألف ومائة وخمسون عاماً تقريباً) كانت الإمامة ذات طابع قروي، تمتد في أحسن حالاتها لتشمل مدينة صعدة وما جاورها، سنوات قليلة ثم تعود أدراج الريف.
والمطّلع على سيَر الأئمة يدرك أن نطاق "فتحوحات" الأئمة كان على مستوى القُرى، فنرى كتّاب السِّيَر يبالغون في وصفها حتى لتظنَّ أن (السامك، القفلة، بني جل، الشطّ، العرضي والصافية العدنية، والعصيمي، وبيت معياد...) مدن متباعدة، أو أقاليم يبعد بعضها عن الآخر مئات الأميال فيما هي أحياء وقرى شديدة التجاور والقرب.
وإحدى أحسن الحالات التي وصل إليها الأئمة بعد أنهار من الدماء، هي نتائج صلح دعّان مع العثمانيين، والذي اعتبره الأئمة إنجازاً باهراً، وانتصاراً مؤزراً امتد بموجبه نفوذ الإمام يحيى، وفق ما يذكر مؤلفه عبدالكريم مطهر، "من حدود عمران إلى صعدة، ومناطق بالمشاركة مع الأتراك، من عمران إلى سمارة، وثالثة للأتراك خالصة من سُمارة إلى الراهدة إضافة إلى منطقة تهامة"(4).
الدولة الإمامية.. النشأة والحكم
يبدأ تكوُّنُ مشروع الدولة الإمامية، عادة،ً بحالة من الانتعاش المادي تشهده الأسر الهادوية، يتبعه حلقات من التواصل الحميم فيما بينها، والدعوة إلى التماسك وطيّ ملفات الماضي، ينشأ على إثر ذلك حركة مزدوجة فكرية وسياسية؛ الأولى تعزف على وتر "الزيدية" بمنظورها الجارودي المفضي إلى حق البيت العلوي في الحكم، والأخرى سياسية تتكفل بمهمة التغلغل في أجهزة ومرافق الدولة المراد إسقاطها والعمل على تفكيكها، في نفس الوقت التركيز على مظاهر الضعف والتحلل في أوصالها والتبشير بسقوطها، والدعاية المستمرة عن انحراف الدولة أخلاقياً وفساد رجالها، وعن "محاربتهم للدين والصلاة وشربهم الخمر جهاراً نهاراً وحبهم الغلمان" إلى آخر ما هنالك..
هذا الإعداد لا يكتب له النجاح وحده ما لم يكن ثمة عزف على وتر تهديد خارجي محدق بالأمة، وبالتالي يتم حشد القبائل الغيورة على أساس من التحرك الوطني، سواء كما حدث مع العثمانيين(5) أو كما هو الحاصل الآن من قبل الحركة الحوثية عبر رفع الشعار المستبطن عمالة الآخرين لأمريكا وإسرائيل.
قيام الدولة الإمامية:
جرت العادة الإمامية أنه وبمجرد دخول العاصمة صنعاء، فإن الدولة الإمامية تستفتح عهدها بثلاثة أحداث مميزة هي كالتالي:
أولاً: حالة نهب واسعة من قبل جحافل الفتح الجارودي للعاصمة تسرق وتنهب وتدمر ثم يذَروها قاعا ًصفصفاً، ويقول مؤرخو الأئمة دائماً عقب كل نهب: "وذلك حدث دون علم من الإمام ولا رضاه".
المرات التي أبيحت صنعاء فيها للقبائل أضعاف المرات التي قامت فيها دولة إمامية، ذلك أن العاصمة كثيراً ما كانت عرضة للسلب والخراب، سواء قبل إقامة الدولة على صورة غارات بغرض "الفَيْد"، أو بعد قيامها على هيئة مكافأة من الإمام تجاه نصرة القبائل له كما حدث في العام 1948.. الأمر الذي قلص منازلها من 100 ألف بيت إبان ظهور الإسلام إلى العدد الذي انتهت إليه أيام ثورة 1962... "صنعاء وغارات قبائل الأئمة" كتاب مهم يحتاج إلى مؤلف..
ثانياً: شروع أسرة الإمام في تصفية رموز الأسر الهاشمية الذي يُتُوقّع منهم التنافس. ونجد أن القاسميين، وفور قيام دولتهم العام 1598م، قاموا بتصفية وملاحقة أبرز ثلاث أسر هاشمية هي: بنوشمس الدين، والحمزات، وأبناء القاسم العياني(6).. كذلك فإن الدولة المتوكلية قد قامت في بداية عهدها بتنفيذ حكم الموت في رموز من الهاشميين من آل أبي الدنيا والقاضي جغمان وغيرهم.
ثالثاً: تصفية القبائل المناوئة أولاً، ثم بعد ذلك يأتي دور تصفية القبائل المناصرة التي يتم وصفها بعد قيام الدولة بأقذع الأوصاف وبما يناقض الأوصاف الأولى التي عادة ما يتم حشدهم وفقها.
من ذلك مثلاً كما يحدث مع إحدى أكبر القبائل التي تُمدح بداية بأنها "قبيلة آل البيت وأنصاره وأن الله قد سخرها لخدمة آل البيت كما سخر الشياطين لسليمان"(7) وتدبَّج في فضائلها الأحاديث والأخبار، لكنه بعد النصر، وبعد تنصل الإمام من التزامه تجاه القبيلة (سواء عن غدر أو عن عدم مقدرة بالإيفاء) فإن مؤرخه يذم إلحاحها ويستهجن مطالبها قائلاً: "وأما قبيلة (فعلان) فقد أجمع الإنس والجان أن لهم طبعاً أخس من النسوان"(8). وهذا التنكر لا يحدث فقط بعد قيام الدولة بل أحياناً عند عدم الاستجابة أثناء مراحل الإعداد والتهيئة.
....يتبع