من الأرشيف

الإمامة والتجييش

وفقا للعديد من مصادر التاريخ، تعتمد الإمامة في تجييشها للقبائل على ثلاث وسائل:

- الأولى: "بدونتها" أي جعلها ذات طابعٍ بدويٍّ تصبح فيه "أرزاقها في أسنة رماحها"، تتركز فيه المكانة الجهوية للشيخ على مقدار مقتنياته من فيد الغزوات على "أعداء الله"، وجعل مثل هذا السلوك حاجة مستدامة لدى هؤلاء، وذلك بغرس ثقافة تحتقر المهن وتزدري أصحاب الحرف وتحط من قيم الإنتاج والكسب باليد والكد.. الأمر الذي تميّعت فيه، لدى بعض القبائل، حرمة أموال الآخرين (دولةً أو أفراداً) في تراكم مقعد مسنود بسند فقهي أعوج نعاني آثاره حتى الآن متمثل ب"العرط من ظهر الدولة" وفي سلب حقوق المواطنين بغير وجه حق..

هذا الأمر أدى، من جهة ثانية، إلى توقف عجلة الإنتاج الأسري في المناطق القبلية المتاخمة للمشروع الجارودي، وانتقال بعض الحرف إلى فئة اليهود كصياغة الفضة والنحت..

- الوسيلة الثانية لحشد القبائل كانت تقوم على عامل التجهيل وعدم السماح لأية نسائم تفتح خلايا العقل القبلي المناصر للأئمة إلا بالقدر الذي يعظّم فيهم الشعور بقدسية آل البيت، وواجب نصرتهم، وكأنه الدين كله، محصنين إياهم من مجرد الاستماع لأفكار "النواصب" وأساليبهم (الخطيرة) في التضليل، ويتم ذلك في عملية تلقيح متواصلة صارت أشبه بالزاد اليومي. وأساس العلم والمناهج التي تدرس في الهجر المتناثرة في مناطق القبائل، منذ ظهورها على يد الأسرة الحاكمة من أبناء الرسي التي وفدت إلى اليمن وحتى اليوم، هو "الإمامة، ومن هم أصحابها"، واختلفت أحكامهم على المعارضين لتلك النظرية بحسب ظروفهم في كل مرحلة..

فالمعارضون تارةً كفار أو عاصون، والكفر عندهم نوعان "كفر صريح" و"كفر تأويل"، وحتى لو كان هذا المعارض من أتباع زيد، رضي الله عنه، والمؤمنين بتعاليمه كفرقة "المطرفية"، إحدى الفرق الزيدية (بل هي الزيدية الحقة، كما أسلفنا) التي لا تشترط حق الإمامة في أبناء فاطمة الزهراء، مما دفع بالإمام عبدالله بن حمزة الرسّي إلى إصدار حكمه بتكفيرهم، فقَتَل منهم ما يزيد على مائة ألف، وخرّب مدنهم وقراهم وسبى نساءهم وذراريهم، ومنعهم من دخول المساجد. حتى أنه كتب على واجهة مسجده الذي بناه في ظفار:

أقسمتُ قسمة حالفٍ برٍّ وفي لايدخلّنك ما حييتُ "مطرفي"(1).
ثالثة هذه الوسائل: استغلال النخوة الوطنية لدى القبائل وذلك بجعل نصرة دولة الإمامة وكأنها دحر لعدو كافر مقيم أو عدو كافر مرتقب، وإن لم يكن العدو عثمانياً أو أمريكياً، وكان من أبناء اليمن فهو "أمويّ" ممن قتلوا الحسين وناصبوا أهل البيت العداء أو هو "لغلغي، ذليل، محروم الهداية".. لأنه شافعي المذهب.

والتحريض دائماً سهل.. الصعب هو أن تغرس المحبة والاعتدال؛ فكما يقال "داعي الفساد مُجاب" و"الدبور مشجَّع"، خصوصاً إذا كان أرباب التحريض على قدرٍ من المهارة والخطابة والاستحثاث عديم المسؤولية.. وكل دعاة التيار الإمامي يجيدون هذه المهارة ويتفنّنون فيها حدّ الإغواء، وحدّ التخدير المحكم الذي يُلقي صاحبه راضياً في دروب التهلكة.

وقد وصف أحد الأحرار "اليمن الأعلى" الخاضع لسلطان التشيع بأنه ورغم كونه ساخطاً على الوضع، ناقماً على الحكم والأعوان، "ولكنه سرعان ما ينقلب سخطه رضا عندما يسمع أبناء النبي وبناته يستنصرونه ويطلبون نجدته، وهنا ينسى كل شيء، ينسى جروحه الدامية وآلامه السود، وقيوده التي حطمت أقدامه وغلّت أيديه، ينسى كل ذلك، ويقوم منتصراً للآل والمال ويغضب لا للكرامة ولا للفضيلة، ولكن لأجل أن يستولي على صنعاء وما في بيوتها ودكاكينها"(2).

هذا المنهاج الإمامي في حشد القبائل سرعان ما ينقلب عبئاً عليهم بمجرد قيام الدولة فتسعى إلى استئصاله واغتيال مشائخ القبائل وزعمائها حتى لا يعنَّ منهم نحو الرئاسة ابنُ أُُمّ..

فترة الحكم:

من الناحية النظرية، لا تقول الإمامة الجارودية بمبدأ الوراثة؛ لذا، وبمجرد قيام الدولة، فإن أحد الحالين التاليين هو الذي يصبغ مسألة انتقال السلطة وهما:

- إما الانقلاب على مبدأ الخروج وتطبيق مبدأ الوراثة في أسرة الإمام الحاكم. وفي هذه الحالة يكون ثمة صراعان؛ الأول بين أسرة الحكم ذاتها، والثاني بين أسرة الحكم والمنافسين من بقية الأسر الهاشمية الذين يتحولون بدورهم إلى ثوار. وبذلك تؤول الأمور إلى ما صارت عليه بوفاة المؤيد عام 1054ه ابن مؤسس الدولة القاسمية، إذ قام "المتوكل على الله" من (ضوران) ودعا لنفسه، وقد عارضه كل من أخيه صاحب "شهارة" وعمه صاحب "تعز" وثالث من "صعدة".. فانتزعها من أخيه بقوة السيف، وأخذ منه البيعة بعد عقد مناظرة صورية بينهما، وتنازل له عمه مقابل إبقائه على تعز وإطلاق يده عليها وعدم التدخل في شؤونها.. وتولى من بعده أخوه على تعز، أما المنافس الثالث فتارة يبايع وتارة يجدد دعوته ليضمن عدم تنحيته عن صعدة.

كما خرج على المتوكل إسماعيل وتنازع الملك ثلاثة أمراء ودارت معارك طاحنة إلى أن رست الإمامة على أحدهم. وكذلك بوفاة المهدي "صاحب المواهب" 1092ه تنازع الإمامة 8 أشخاص من بيت القاسم كل شخص منهم يدعو للإمامة من المنطقة التي يحكمها وثم توزع اليمن بينهم كما تقسم التركات..

وعلى هامش ذلك تتحرك الجيوش وتندلع المعارك وكل قبيلة تعتدي على الأخرى، وجميعهم يقتتلون مدفوعين في صف هذا أو ذاك من المتنافسين على الإمامة.. فتخرب الديار وتضرب الأعناق دون وازع أو ضمير، وتنهب الأموال، وتنتهك الأعراض وتمتلئ السجون، ثم توزع البلاد إقطاعات وترضيات للمنافسين من أسرة الحكم(3).

وفيما يتعلق بالدولة المتوكلية فيعد انقلاب 1955م خير شاهدٍ على طبيعة التنازع داخل الأسرة الحاكمة.

- وإما أن يتم تطبيق مبدأ الخروج وتؤول الأمور على الحال الذي آلت إليه بعد وفاة الإمام المهدي سنة 1351ه - 1835م. ففي شهور معدودات بلغ من نودي به إماماً وخُلعت عليه ألقاب الفخفخة واللاهوتية والكهنوتية أربعة عشر إماماً وزيادة على ذلك، ومنهم: على بن المهدي انتصب إماماً أربع مرات وفي كل مرة له لقب خاص. ثم الناصر عبدالله ثم المتوكل الهادي والمهدي محمد بن المتوكل ثم المؤيد عباس، ثم ابن شمس الحور من ولد المتوكل اسماعيل، والقاسم ثم المنصور الويسي، ثم المنصور محمد الوزير، ثم المتوكل محمد بن يحيى مرتين، ثم ولده الهادي غالب بن محمد، ثم المتوكل محسن بن أحمد (شوع الليل)، ثم حسين الهادي"... إلخ(4). "حتى لقد عُدمت ألقاب الإمامة وصارت في منزلة يتندر بها أهل صنعاء في مجالسهم ومنتدياتهم في ذلك العهد"(5)..

وكثيراً ما كان يحدث أن يوجد أكثر من إمام ينتصب كل واحد منهم إماماً على منطقته. من ذلك ما حدث في عهد الهادي شرف الدين، ومحمد بن قاسم الحوثي الذي أعلن دعوته في جبل برط، يقول المؤرخ علي بن عبدالله الإرياني: "... إلا أن دعوة محمد بن قاسم الحوثي في جبل برط، كانت لها آثارها على عهد الهادي شرف الدين، أما الإمام المنصور بالله، فقد نجح في حصر إمامة الحوثي في منطقة برط، بل وفي مبايعته من قبل أفراد عائلته فقط"(6).

وسواء عند تطبيق مبدأ الخروج أو تجاوزه إلى الوراثة فإن المشروع الإمامي عادةً يعتبر محرقةً للأسر الهاشمية الشيعية على يد بعضهم البعض، يساقون إليها كما تساق فراشات الليل إلى فتيل النار. وتؤكد إحصاءات التاريخ أن الاغتيالات التي تعرض إليها رموز الأسر الهاشمية كانت من إخوانهم وأبناء عمومتهم الهاشميين، وهي لا تقارن بأية حال مع ما حصدته الصراعات بين الهاشمية وغيرها.

 

لقراءة المقال من صفحة الكاتب، اضغط

">هنا.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى