اليمن في تاريخ وحوليات الوشلي
لا داعي للتوقف طويلاً إزاء الرسالة المؤرخة التي تلقاها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وهل أنت من اليمن أم من فارس؟ فذلك لا يعني حقاً أن العرب لم تعرف التاريخ. صحيح أن التاريخ كمفردة لم يرد في الكتاب وفي السنة، ولكن جنوب الجزيرة ووادي الرافدين ومصر قد شهدت تدويناً مبكراً للوقائع والأحداث يعود إلى ما قبل الميلاد بمئات السنين، كما أن شمال الجزيرة أيضاً قد عرف طرائق معينة تتناسب والظروف التاريخية ذات التركيبة القبلية والبدوية التي شهدتها أواسط الجزيرة، فالناس يصنعون تاريخهم.
تشهد الآثار والتماثيل والسدود والمقابر والقصور والمدرجات والفن الهندسي المعماري الراقي والمعابد وخط المسند الحميري الموغل في القدم والذي يعود في الاكتشافات المتأخرة إلى ما يقرب من ألف وخمسمائة عام (معبد المقة) في مأرب. وفي صدر الإسلام كانت أخبار وهب بن منبه وعبيد بن شرية بداية التأسيس للرواية العربية عن التاريخ والمتخيل للعرب قبل إسلامهم. ويمثل كتاب أبو محمد الحسن بن أحمد الهمداني الإنجاز التاريخي الضخم للجزيرة العربية بعامة واليمن على وجه التحديد، وجاء مؤرخو العصور الوسطي ليواصلوا الرحلة في رصد التاريخ، وتفنيد سيرة الإمام الناصر، والجهود الكبيرة لشيخ المؤرخين اليمنيين الجندي، ومن بعده الخزرجي، ومسلم اللحجي، وعمارة، وابن الديبع، والبدر حسين الأهدل، و(حوليات يمانية) للحرازي، و(حوليات) صنعاء ليحيى بن الحسين المنتزع من تاريخه الشهير (أنباء الزمن بأبناء اليمن)، وتظافرت جهود كبيرة للمؤرخين المتأخرين أمثال زبارة، ومحمد بن علي الأكوع، وأحمد شرف الدين، والثور، والحضرمي، والدكتور حسين العمري.
وأسهمت حضرموت بجهود رائعة في رفد وتدوين جوانب من التاريخ اليمني: بامطرف، محمد عبد القادر بافقيه، وبامخرمة، والحامد، والشلي، وعلوي بن طاهر الحداد. كما كان للمراكز العلمية في صنعاء وذمار وصعدة وعدن وزبيد وضمد وصبيا وحضرموت دور كبير في تدوين التاريخ، ويكون تاريخ العلامة إسماعيل بن محمد الوشلي جوهرة ثمينة في عقد التاريخ الذي تواصل ولا يزال.
والواقع أن ( نشر الثناء الحسن) يمثل الجو الدافئ والمثمر بين صنعاء وزبيد وضمد، وهو معطى من معطيات الحوار الأدبي والديني، فالتجديد الديني عند الوزير وتلاميذه قد أثر عميقاً في المدرسة الزيدية، ومس بشكل جوهري وأساسي نظرية الإمامة في المذهب، لينقلها إلى عصبية أوسع (العصبية الدينية) كما عند ابن خلدون، وعصبية قريش كما عند أهل السنة، أو الأتقى كما عند نشوان بن سعيد الحميري، وقبله النظام وبعض الخوارج والمطرفية.
والحقيقة أن جل الأحرار والمؤرخين للإحياء الديني لا يتجاوزون ابن الوزير والشوكاني والمقبلي وابن الأمير والجلال، فهم كمن يحاول التعرف على النهر من المصب ولا يعود إلى المنبع، والمنبع هنا هو تمازج المدارس الإسلامية في صنعاء وذمار وضحيان وصعدة ومكة والقاهرة وزبيد وحضرموت؛ فالإمام محمد بن إبراهيم الوزير(775-840/1373-1436م)، وهو المجتهد المطلق قد رحل إلى تعز وتهامة ومك،ة وأخذ العلم على أفضل علمائها وشيوخها يومذاك. فهذا التلاقي والتلاقح والانفتاح على المذاهب المختلفة هو الذي جعل منه إماما في السنة، وعلما من أعلامها الكبار. ورحل محمد بن إسماعيل الأمير( 1099-1182/1688-1769م) إلى مكة والمدين،ة وكان تواصله عميقا مع علماء السنة في مصر وزبيد وبلاد الشام؛ فقد شرح التيسير لابن الديبع، والجامع الصغير للسيوطي، والعمدة لابن دقيق العيد.
ويمثل آل الشوكاني، وبالأخص شيخ الإسلام، ذروة هذا التلاقي الروحي والمعرفي، ومن يقرأ كتاب (النفس اليماني في إجازة بني الشوكاني) لعبد الرحمن بن سليمان يدرك عمق ما أشرنا .
وميزة تاريخ الوشلي أنه يؤرخ لهذه المدارس الفكرية والدينية والأدبية؛ فنشر الثناء يسير على نهج (تحفة الزمن)، و(بغية المستفيد)، للديبع و(النفس اليماني في إجازة بني الشوكاني) و(نفحة المندل) و(الإجازة الكبرى) .
يبدأ المؤلف من الأدنى فالأعلى، عكس مدوني التراجم الذين سبقوه؛ فقد بدأ بتراجم آل القديمي فآل الأهدل. والكتاب مدونة حافلة بالأخبار، والأسانيد، والفتاوى الدينية، وكرامات الصوفية، والأشعار، والأنساب، والمناطق، والمدارس العلمية في تهامة، وهي المدارس التي حفظت لنا الدين واللغة والقيم الزاكية ونسيج المجتمع اليمني الذي حافظ على هويته الإسلامية والعربية، وإذا كان جانب الأنساب يشغل حيزاً كبيراً من حجم الكتاب الضخم، فإن القيمة المعرفية تتمثل في الإجازات العلمية، وتوارث المعارف، والتواصل المستمر مع البيوتات العلمية في طول اليمن وعرضها .
إن (نشر الثناء الحسن) يتضمن ثلاثة مجلدات الأول يهتم بأنساب الأشراف الحسنيين والحسينيين، ثم المجلد الثالث ويترجم فيه لعلماء تهامة وقضاتها وصوفيتها. والوشلي يعود إلى مؤلفات البدر حسين في (تحفة الزمن) وإلى (تحفة الدهر) و(الدرة الخطيرة) و(نفحة المندل) لأبي بكر بن أبي القاسم، ولمؤرخي ضمد كآل البهكلي وعاكش. ويكرس (الذيل) لرصد الوقائع والأحداث.
والكتاب جهد علمي ومعرفي لقراءات الأنساب والمدارس الفكرية والأدبية والصوفية والأحداث التاريخية والوقائع؛ فهو عالم جليل أمين، وموضوعي في رصد الوقائع وتدوينها وإبداء الآراء بخصوصها . ولم يكن الرجل معزولاً عن العصر وأحداثه الكبرى؛ فهو يدون التحاق أمريكا بالحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء، كما يدين بصورة صادقة وقاطعة انجلترا ودورها الاستعماري في المنطقة. ونقطة الضعف الخطيرة هو الثناء العاطر على الإمام محمد بن علي الإدريسي، وكان شديد العاطفة إزاءه، ولكن المؤلف قد تحول للولاء إلى الإمام يحيى بعد انهيار الدولة الإدريسية .
قام هذا العالم الجليل برصد الإنجازات الصناعية الضخمة كالبوارج والقطارات والطائرات وآلة الحرب الضخمة من المدافع والقنابل والغواصات ووسائل الاتصالات الحديثة كالتفلون وإشارات المورس – البرق-، وهناك إشارات واضحة للربط بين تحركات الانجليز وتمرد الزرانيق. ولديه رأي مهم في حركة الزرانيق فهو كعالم دين مجتهد ومجدد مع الوحدة، ومع رفض الحروب والفتن الداخلية، وهو شديد الإدانة لها.
لقد تعرض (الذيل)، وهو الجزء الخاص بالتاريخ، للتشويه والبتر في طبعته السابقة، وقد قام الأستاذ إبراهيم أحمد المقحفي بنسخ المخطوطة، وبذل جهودا مشهودة وحقيقية للتغلب على ضعف النسخة المصورة والتدقيق فيها. ويقينا فإن الباحث الجاد الأستاذ إبراهيم المقحفي قد أعطى جزءاً ثميناً من وقته وجهده وتفكيره لتحقيق المخطوطة – الكنز – وقام بتحقيقها رغم عائق عدم وضوح الصورة وفقدان النسخ الأخرى المساعدة، مما جعل جهده حاسما في جلاء سقم المصور من النسخة.
إن تحقيق وطباعة (نشر الثناء الحسن) تحية طيبة لتاريخ لا يزال مطموراً، ويتعرض للتجاهل والإهمال والنسيان. إن أعمال ابن عجيل علامة اليمن المجدد والمجتهد، ومحمد حسن فرج، ومكتبة السيد محمد أحمد عبد الباري، وأبو بكر بن أبي القاسم والبجلي والحكمي والحضرمي وبلغيث بن جميل وابن علوان والبرعي والناشري ومدرسة ضمد والزيدية بحاجة إلى تظافر الجهود للبحث والتنقيب عنها، وإعادة الاعتبار لمدرسة التصوف في تهامة التي لعبت أدوراً عظيمة في نشر المعرفة والثقافة والحفاظ على هوية شعب وتاريخ أمة، وكان أثرها مشهودا في حركة التجديد الديني الذي صبغ تاريخنا الحديث والمعاصر.