يبذل السياسيون اليمنيون ومعهم المغربي جمال بن عمر (الوسيط الأممي) والرعاة الإقليميون والدوليون؛ جهود الساعات الأخيرة لإطلاق صافرة انطلاق مؤتمر الحوار الوطني الشامل؛ الذي تتركز حوله الآمال الرسمية والشعبية لطي صفحة الماضي بكل مساوئه وأخطائه، وتدشين مرحلة جديدة في تاريخ اليمن.
وبين يدي مؤتمر الحوار الوطني تنتصب عدد من التحديات التي تتفاوت في صعوبتها وخطورة التحدي الذي تشكله أمام الفرصة التاريخية والأخيرة لإعادة إنقاذ اليمن.. فقضايا صعدة، والجنوب، وتهيئة الأوضاع الأمنية والسياسية المعروفة إعلاميا: بإعادة هيكلة مؤسستي الجيش والأمن وتوحيدهما، وإخضاعهما لقيادة واحدة تستمد توجيهاتها من الرئاسة الشرعية للبلاد.. كل ذلك يشكل حقل ألغام ليس فيه مجال لاحتمال الخطأ والمجازفة، والنجاح أو الفشل في تفكيك هذه الألغام ونزعها من طريق الحوار هو مؤشر حاسم على إمكانية انعقاد المؤتمر من عدمه!
وكما أسلف؛ تتفاوت خطورة هذه القضايا وتعقيداتها.. فبسط هيمنة مؤسسة الرئاسة على الجيش والأمن تتمثل صعوبتها في أن الطرف الذي تمثله جبهة الرئيس السابق علي صالح وحلفائه تجد في توحيد هاتين المؤسستين نزعا مهينا لأبرز مصادر القوة لديها.. ومع أن الرئيس اتخذ قرارات مهمة على طريق هيكلة الجيش والأمن إلا أن أصعب هذه القرارات المفترضة تتعلق بإعفاء ما تبقى من القيادات الموالية لصالح وخاصة ابنه المهيمن على جزء مهم من قوات الحرس الجمهوري، التي عمل (صالح) طوال السنوات الماضية على إعدادها لتكون الجيش الحقيقي لليمن مع إبقاء الوحدات الأخرى في أقل قدر ممكن من التسلح وعدم الجاهزية استعدادا للتخلص منها بعد رحيل قادتها المخضرمين الذين يشكلون مصدر الخطر الحقيقي على مشروع توريث الرئاسة من الأب إلى الابن!
ومع اقتراب موعد مؤتمر الحوار الوطني فإن انعقاده في ظل استمرار حالة الانقسام في الجيش والأمن يعني عند قوى الثورة الشعبية –وحتى الرئيس هادي نفسه- أن مستقبل البلاد سيظل مرهونا بقوة السلاح الذي سيسمح لمن يمتلكه أن يضع (فيتو) على ما لا يتفق مع مصالحه، أو تعطيل تنفيذ الحلول التي سيتوصل إليها المتحاورون إن فشلت تدابيره داخل المؤتمر، أو خشي مواجهة غضب الرعاة الدوليين ضد الرافضين لحل الأزمة وفق نتائج الحوار!
ومع ذلك؛ فإن اتخاذ قرارات حاسمة لتوحيد مؤسستي الجيش والأمن للتهيئة لانعقاد مؤتمر الحوار يحمل في طياته معضلة لا تقل عن عدم اتخاذه من ناحية أنه قد يؤدي إلى اضطرابات أمنية وربما تمردات هنا أو هناك تؤدي بالضرورة إلى تعطيل انعقاد المؤتمر إلى أجل غير محدد! ولعل هذا المأزق قد يجعل الرئيس هادي يبتكر صيغة ما توفق بين الاتجاهين: أي إجراء تغييرات جذرية لا تسمح للمتضررين بمبررات كافية لإثارة القلاقل، وفي الوقت نفسه ترضي قوى الثورة الشعبية بإزاحة بعض من المتنفذين الكبار من أقارب الرئيس السابق مطلوب تغييرهم لتمهيد الطريق لعقد المؤتمر!
تشكل قضية صعدة أحد الألغام المزروعة على طريق مؤتمر الحوار؛ ليس لتعقيداتها السياسية ولكن لغموض المشروع الحوثي السياسي؛ فحتى الآن لا يمكن القول إن الحوثيين قدموا مشروعا واضحا يحدد رؤيتهم ومطالبهم الحقيقية، فإذا علمنا أنهم يرفضون حتى الآن الانخراط في العمل السياسي من خلال تكوين حزب فيمكن استنتاج أنهم يتجنبون بذلك إظهار أهدافهم الحقيقية، ويستريحون للحالة القائمة التي تجعلهم يتوسعون على الأرض، ويحكمون قبضتهم على المناطق التي يسيطرون عليها ويديرونها بمنطق الدولة دون أن يدفعوا ثمنا سياسيا للآخرين أو يتحملوا مسؤولية عرقلة أي حل!
لا يحظى المشروع الحوثي بقبول شعبي واسع باستثناء التعاطف والدعم الذي يجده في بعض المناطق ذات الإرث الشيعي القديم، كما يمكن القول إنه فقد جزءا كبيرا من التعاطف الشعبي الذي حصل عليه أثناء الجولات الأولى من حروبه مع النظام السابق، وهو غير قادر حتى الآن على إعلان توجهاته السياسية المعروفة تاريخيا عن المذهب الذي ينتمي إليه، لكن مصدر قوته الحقيقية يكمن في أنه نجح خلال السنوات الثماني الماضية في تكوين جيش صغير مسلح بعتاد ثقيل لا يمتلكه إلا الجيوش الرسمية، وقد أتاح له الدعم الخارجي وتحالفاته الجديدة مع جزء مهم من أجهزة الرئيس السابق العسكرية والأمنية أن يعيد إنتاج الحضور العسكري لحزب الله اللبناني في بعض المناطق التي سيطر عليها.
هذا الغموض الذي يكتنف المشروع الحوثي الحقيقي يجعله بامتياز أحد الألغام داخل مؤتمر الحوار؛ فلا شك أن أي حل حقيقي لن يسمح ببقاء أمراء الحرب والكيانات العصبوية: جهويا أو طائفيا أو قبليا، ولن يكون بإمكان الحوثيين أن يظلوا مهيمنين على صعدة بهذه الصورة القائمة الآن، والتي يتحكمون فيها بكل شيء دون أي حدود أو قيود فهم الدولة، والتنظيم الحاكم، والجيش والأمن، ومصدر السلطة في مكاتب السلطة المحلية التي تدير المناطق كما يشاءون بل ووفق أدبيات مناهجه المذهبية التي تمس الحريات الشخصية والدينية للمواطنين، والتي وصلت في رمضان الفائت -كما جاء في الأخبار- إلى درجة مضايقة من يؤدون صلاة التراويح في المساجد باعتبارها بدعة وفق المذهب الهادوي.. كما تعرض مواطنون لمضايقات بسبب منع سماعهم للأغاني على الطريقة الطالبانية المعروفة، ومنع الركوب خلف سائقي الدراجات النارية إلا بطريقة معينة لضمان الحشمة!
على أن أخطر تطور في تحالفات الحوثيين الراهنة هو ما صار ملموسا في تفاهماتهم الشائعة في الشارع السياسي اليمني مع جزء من النظام السابق، كما يظهر في اتساق خطابهم السياسي والإعلامي مع الخطاب السياسي والإعلامي لما يطلق عليه في اليمن: بقايا نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح، واتفاق الطرفين في تركيز عدائهما لحزب التجمع اليمني للإصلاح والقادة العسكريين الموالين للثورة الشعبية وخاصة اللواء علي محسن الأحمر.
فكلا الطرفين يجد فيهم العدو الأول، والقوة القادرة على التصدي للمشروع الحوثي وإفشاله كما حدث عند التصدي لمشروع توريث السلطة تنحية صالح من رئاسة الجمهورية الذي كان أبرز الأهداف المتحققة للثورة الشعبية. ومن الواضح أن هذا التحالف المذكور أو التفاهمات والتنسيقيات تشكل مصدرا محتملا لإضعاف مؤتمر الحوار أو تفجيره من الداخل بأي حجة أو مبرر يمكن افتعاله والاتكاء لتبرير العرقلة أو الانسحاب!
أما القضية الجنوبية فتمثل معضلة أكثر خطورة من الناحية الوطنية؛ لأنها تشكل خطرا وجوديا على اليمن الموحد المعروف بشكله الراهن منذ 1990، والمترسخ في الذهنية اليمنية والعربية منذ زمن أبعد. وربما أعقد ما في هذه القضية أنها مزيج من الأحاسيس بالمظالم الشعبية، والإقصاءات الحزبية، والرغبة الحثيثة للاستفادة من حالة ضعف الدولة واضطرارها للسكوت أو التغاضي عن مشاريع سياسية ترفض أي دولة في الحالة الطبيعية أن تتعاطى معها فضلا عن أن تقبل بالجلوس معها للحوار!
وعلى العكس مما هو حال الحالتين أو اللغمين السابقين؛ فإن القضية الجنوبية لا تتمتع بميزة وحدة القيادة ولا وحدة الأهداف ولا وحدة الوسائل.. ومع أن المجتمع الدولي وفرقاء السياسة اليمنية لا يمانعون من جعل القضية الجنوبية على رأس جدول الأعمال في مؤتمر الحوار؛ إلا أن جموح بعض أطراف القضية الجنوبية؛ وخاصة القيادات القديمة؛ وتصلبها في اشتراطاتها للمشاركة تهدد بأن يكون لغم القضية الجنوبية الأكثر قابلية ليكون الأداة التي تعرقل انعقاد المؤتمر أو تفجره من الداخل إن حضر المتطرفون وأصروا على أن الهدف هو تفكيك اليمن بالحسنى فقط وليس الحوار حول إمكانية بناء يمن جديد يضم الجميع!
تتسم النخبة القيادية في القضية الجنوبية بقدر كبير من اللاتفاهم، والتنافس الشرس على الزعامة، والغيرة، وعدم الثقة التي نشأت من سنوات الصراع الدموي الذي شاركت فيه هذه القيادات ضد بعضها. وبصورة تنقسم التوجهات الرئيسية في القضية الجنوبية إلى فريق أكثر جموحا وتطرفا ورغبة في انتهاز هشاشة الوضع السياسي اليمني، ويتزعمه نائب الرئيس السابق علي سالم البيض وحسن باعوم، ويرفض أي نوع من الحوار إلا إذا كان بهدف تحقيق الانفصال.
والفريق الثاني يتزعمه الرئيسان السابقان علي ناصر محمد وحيدر أبو بكر العطاس، وهو وإن كان يقبل مبدئيا المشاركة في مؤتمر الحوار إلا أنه يشترط أن يكون حوارا بين ممثلي دولتين وليس حوارا بين قوى وطنية، على أن يؤدي إلى إقرار حق تقرير المصير للجنوبيين بعد فترة انتقالية على النمط السوداني تتحول فيها الدولة الواحدة إلى دولة فيدرالية بين شطري اليمن السابقين.
أما الفريق الثالث –الذي يتعرض لإرهاب فكري وسياسي وإعلامي من قوى الحراك السابقة- فهو يدعو لإصلاح شامل للدولة ومعالجة مشاكل ومظالم الجنوبيين ولكن في المحافظة على الوحدة اليمنية في إطار فيدرالي متعدد يصل إلى أربعة أو خمسة كيانات فيدرالية.
وإلى جانب هذه القوى البارزة سياسيا وإعلاميا؛ هناك قوى أصغر تحصر اهتمامها على أجزاء معينة من جنوب اليمن مثل دعاة إعادة تأسيس الدولة الحضرمية وقطع صلتها بالشمال والجنوب على حد سواء؛ وفي الحد الأدنى تطالب بعض هذه المكونات بخصوصية لإقليم حضرموت تشبه الحكم الذاتي، وهؤلاء أعلى أصواتا ويمتلكون وسائل إعلامية كثيرة، ويستندون إلى تاريخ قديم لدولتهم لم يختف إلا قبل أقل من نصف قرن وبالقوة المسلحة.
وفي هذا الإطار هناك –أيضا- دعاة تمييز (عدن) بخصوصية سياسية عن باقي مناطق الجنوب لكن نقطة الضعف لديهم أنهم لا يشكلون تجمعا قويا سياسيا وإعلاميا، وينعكس وجود أعداد غير قليلة من المنتمين للمناطق الجنوبية سلبا على دعوة الخصوصية العدنية، كما أن الأطراف الأخرى وخاصة دعاة الانفصال الفوري والآجل لن يقبلوا ببساطة الإقرار بحق سكان عدن بأي تمييز سياسي وقانوني على نمط المطالب الحضرمية؛ لعلمهم أن الجنوب بدون عدن لا يساوي شيئا كبيرا.
يبقى التحدي الأمني الذي تشكله المجموعات المقاتلة الموالية لتنظيم القاعدة لغما في مواجهة مؤتمر الحوار لكنه يظل تحديا من الخارج لا يهدد انعقاده من حيث المبدأ؛ وإن كان يمكن أن يشوش على أجوائه ومساراته إن نجح في تنفيذ عمليات نوعية من النوع الثقيل!
على الرغم من كل هذه التحديات التي تواجه مؤتمر الحوار الوطني إلا أن هناك عوامل عافية يمكن لها أن تشكل توازنا يسوق الحوار إلى طريق سالكة تقرب النهاية السعيدة له.. وربما كان في مقدمة ذلك أن تنجح القوى صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة الشعبية الشبابية في تقوية تحالفاتها القائمة، ومعالجتها مما لحق بها خلال الفترة الماضية، وتشكيل كتلة تاريخية تسند رئيس الجمهورية المشير عبد ربه منصور هادي، وتعينه على رعاية حوار ناجح يجمع اليمنيين حول القواسم المشتركة، ويعترف بالتنوع، ويتجاوز أطروحات التطرف من كل منشأ وخاصة أن دواعي الحرص على مشاركة الجميع في الحوار قد اقتضت القبول بمبدأ أن لا خطوط حمراء ولا ممنوعات ولا محظورات في مؤتمر الحوار.