عندما قررت مارغُري رانسم، الباحثة والدبلوماسية الأميركية السابقة، العودة إلى اليمن عام 2003، كان ذلك لأسباب عديدة، من ضمنها "النسيان"، وليس فقط البحث في أسرار حلي الفضة اليمنية وصناعتها.
توفي زوجها في نهاية ذلك العام وبشكل مفاجئ، بعد أكثر من ثلاثة عقود عاشاها معاً في دول عدة في الشرق الأوسط، كجزء من عملهما في السفارات الأميركية، ومن ضمنها اليمن. التقتها "العربي الجديد" في نيويورك على هامش محاضرة بمركز "ألوان" حول كتابها الصادر أخيراً باللغة الإنجليزية، تحت عنوان "كنوز الفضة من أرض سبأ" (Silver Treasures from the Land of Sheba) عن الجامعة الأميركية في القاهرة.
لا تخفي الباحثة الأميركية شغفها بحلي الفضة وجمعها لها منذ عقود، مذ سكنت اليمن لأول مرة في ستينيات القرن الماضي. لكن الهواية تطورت إلى البحث في أسرار صناعة الحلي والحرفيين والمشترين. توثق مارغُري رانسم تلك الرحلة بأكثر من ثلاثمائة صورة ملونة وبجودة عالية لقطع حلي، بعضها نادر، إضافة إلى صور وقصص لنساء ورجال يمنيين يتزينون بها. لكن بدايات الرحلة، بعد حصولها على منحة بحثية من "مركز دراسات اليمن الأميركي" في واشنطن، لم تخلُ من المخاوف، كما تقول "كنت متخوفة من حاجز اللغة، وأن معرفتي باللغة العربية لن تكون كافية للحديث مع النساء، بشكل خاص، ومحاورتهن. لم أكن أعرف كيف سيستقبلني الناس... لكنهم فتحوا لي بيوتهم وشاركوني قصصهم، وفي كل المناطق التي سافرت إليها داخل اليمن".
مشغولات الفضة بين الشمال والجنوب
وتنعكس تركيبة اليمن التاريخية والجغرافية على صناعة الحلي ومشغولات الفضة، التي تختلف في شمالها عن جنوبها، بحكم التأثيرات السياسية كذلك. تقول رانسم "اتسمت مشغولات الفضة في شمال اليمن بدقة عالية وتصاميم معقدة، تأثرت بالحلي والتصاميم التركية، وإلى حد أقل الهندية. اعتمدت على تقنيات التخريم والبرغلة والتحبيب". وعن المقصود بتقنيات التخريم والتحبيب، تضيف "التخريم: يصنع بمساعدة أسلاك، ويسحب إلى أن يصبح ناعماً. أما التحبيب: فيصنع بمساعدة الأسلاك الناعمة كذلك، ويتم تسخينها على سطح حار إلى أن تتحول إلى حبيبات ناعمة. وتخلط الطريقتان في صناعة الحلي، بحيث يتم صنع تصاميم جميلة على شاكلة زهور ونباتات، تتميز بدقة عالية كذلك".
أما في جنوب اليمن، فقد "تميزت مشغولات الفضة وتصاميم الحلي ببساطتها، مقارنة بمثيلاتها من الشمال. واتسمت بتصاميم بارزة ونافرة، أخذت شاكلة فلق أو شقوق. كما تأثرت بالتصاميم الهندية بشكل رئيسي".
ولا تشكل مشغولات الفضة في اليمن، بأشكالها المختلفة، مجرد أشكال للزينة. فبعضها يحمل رموزاً قديمة، وأخرى رموزاً ونقوشاً دينية أو من الشعر العربي القديم، كاقتباسات من قصيدة البردة للبوصيري الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي في شمال أفريقيا.
حرفة تندثر مع وفاة صناعها
تؤكد الباحثة الأميركية أن صناعة مشغولات الفضة في اليمن محصورة، في الغالب، في عائلات دون غيرها، وتتوارث مهنتها منذ أجيال. إلا أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية، جعلت الكثيرين يُحجمون عن مزاولة المهنة. "في الستينيات من القرن الماضي بدأت مكانة حلي الفضة تتضعضع مقابل الذهب. وخسرت الفضة من قيمتها، فلم تعد مدخراً نافعاً، كما الذهب، للعائلات، حيث إن حيازة كمية أقل من الذهب تكون قيمتها المادية أكبر. الأمر الذي يسهّل كذلك عملية التخزين". وتؤكد أن أولويات الناس بدأت تتغير كذلك. حيث "بدؤوا يستثمرون في أمور أخرى، كبناء البيوت، وشراء السيارات، لتسهيل التنقل، بدلاً من شراء حلي الفضة". كما أصبحت حلي الفضة بنقوشها التقليدية "دقة قديمة" للكثير من الشباب، لتصبح منتشرة بصورة أكبر بين النساء الكبار في العمر.
أما التحديات الأخرى التي تواجه هذه الصناعة، والتي أدت كذلك إلى اختفاء عدد لا بأس به من الحلي، فتعود إلى حاجة أصحابها إلى صهرها وبيعها، هرباً من الفقر والحروب، في بلد لا تغيب عنه النزاعات والحروب. تلك الحروب التي أدت كذلك إلى غياب السياحة، والتي شهد البلد، بتراجعها، تراجعاً إضافياً في القوة الشرائية لمشغولات الفضة.
تتحدث مارغر رانسم بشغف عن النساء اللواتي قابلتهن في اليمن، الذي زارت أغلب مناطقه وترصد في كتابها حبها للمكان وأهله وثقافتهم. وفي الوقت الذي يشكل فيه كتابها شهادة مصورة وقوية ومهمة لجزء من ثقافات اليمن المهددة بالنسيان والاندثار، لا يخلو من نقص في تفسير أعمق لبعض تلك الرموز والمعاني التي تحملها تلك المشغولات من الفضة.