آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

رسالة دحباشي إلى فلاسفة الحراك..

وصلني هذه الأيام الكثير من السب والشتم والاحتقار.. بعضه سمعته مباشرة من أفواه إخواني في جنوب الفؤاد.. والبعض الآخر قرأته متناثراً في كل المواقع اليمنية وغير اليمنية.

لقد كرهت نفسي بالفعل، أإلى هذه الدرجة أنا سيئ وهمجي وحقير ومتخلف وخانع ولص وجبان وكذاب؟! إلى آخر هذا القاموس الذي أشعرني بالذل والدناءة أمام كل عربي أحسب أنه قرأ هذه الصفات عني..

لم أحاول الرد.. حاولت التأكد من انطباق كل هذه الصفات على حدة، وجدت بعضها منطبقاً عليّ، وبالذات الجبن. وهذا لا يطعن في إيماني بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جباناً، قال نعم. وقوله عليه الصلاة والسلام: "الولد مجبنة مبخلة".. وعيالي كثير.

ووجدت صفات أخرى منطبقة بنسب متفاوتة على أناس في قريتي، وفي أي مجتمع ذهبت إليه، ففي كل بيت حمّام، وكل مجتمع لا يخلو من الصالح والطالح، ويختلف نصيب كل مجتمع من هذه الصفات من فترة لأخرى، حسب التعليم، والوعي، والتناصح، وروادع الزمن.

ربما كان خطأي أنني انزويت عن الاحتكاك بإخواني الذين عرفتهم في الجنوب أثناء عملي نادلاً في كورنيش عدن، أو صاحب بسطة في المكلا، أو سمسار جمرك في شحِن.

بالكاد، كنت أجد من يقبلني مستأجراً.. وفي المكلا قام أحدهم، بقطع الشجرة التي كنت أستظل بها أنا و"عربيتي".

لم أكن أجد أين أنام، أحياناً. ويوم أن نمت في سطح عمارة مهجورة حديثة البناء، صحوت على اتهام لي، بأني "أغازل العوائل"، وأنا لا آوي إلى الفراش (إن وجد) إلا منهكاً وقلبي معلق بابنة العم في جبل بعيد، المشغولة بأبنائها السبعة، والتي أؤوب إليها كل رمضان، لأجدها أصبحت أكثر ابتعاداً عن ملامح الأنوثة.. جراء الاحتطاب ونقل الماء وطبخ الطعام وغسل الثياب.

لست سيئاً إلى هذا الحد.. هذا ما أريد قوله..
مشكلتي أنني أكافح فقري، وأظن بأن اليمن كلها بلادي.. عملاً بقول الله تعالى: "فامشوا في مناكبها"..

إن جئت أشكو لأخ لي في الجنوب وجدته متحفظاً لأذكر حينها، أنه يحسبني من الأمن. وضابط الأمن الحقيقي، شمالياً كان أو من أبناء الجنوب، منهمك في تخليص المعاملات في هذه الأرضية أو تلك لصالح الطرف هذا أو ذاك.

كلنا، نحن أبناء اليمن، عرف الغربة في كل أرجاء الله.. وتمنيت أن أعامل في بلدي كما يتمنى أي واحد من أبناء يافع أو الغيل أو حبان أو الشعيب أن يعامل في بلاد الآخرين.

أنا "الدحباشي" الذي لا جمل لي مع السلطة، ولا ناقة لي مع الأحزاب ولا راحة لي في سنوات كفاحي الطويل.. مثلكم.. غير أني إذا توقفت عن الكد فإن أطفالاً تجوع، ولا أحد سيعطيني شربة ماء. هب أنني همجي كما تقول، وكائن متّسخ، وجبان، وحقير.. غير أن مصارحتك لي بهذه الصفات، أخي الحبيب، لا تجعلك أفضل مني. كلنا تخرجنا بلا مدرسة. ووجدنا أنفسنا مجرد أصوات في حساب الأحزاب وأرقام في برامج التنمية ودافعي "فرْق" للمشائخ ومتحملي إتاوات وضرائب وفواتير ورشاوى وجرع.

أتمنى أن يكون ابني أفضل مني، وأتمنى أن يكون أولادكم أفضل منكم، وأتمنى أن نراجع أنفسنا، أنا وأنت.. إذ لا شيء يدعو لكل هذه الكراهية والتقزز. يقول الله عز وجل: "إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا".. ويقول عليه الصلاة والسلام: بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.

ويقول الشاعر:
يا أخي لا تمل بوجهك عني ... ما أنا فحمةٌ ولا أنت فرْقدْ

ويقول آخر:
ومن هاب الرجال تهيّبوه .. ومن حقر الرجال فلن يهابا

هنالك أشخاص محدودون وحمقى، أساءوا لي ولك، وهم ليسوا من منطقة واحدة، فكما أن الإرهاب ليس له دين، كذلك اللؤم ليس له وطن.. ووطنه الحقيقي هو القلوب التي جف فيها ماء الحب، وتجذرت فيها أشواك التعالي والكراهية.

أحبابي، لم أكن لائقاً لأصبح صديقكم، ولتعزموني في بيوتكم، لتكتشفوا كم أنا بسيط ومقهور ونقي وخطير.. أشعر أن صدري يجيش، وأن في عيني دمعة توشك أن تقول.

أحبابي الذين كرهوني لأن المولى، له الحمد، أودع في بعض ترابهم النفط.. وأصبحت في نظرهم قذى، وفي ذكراهم أسى: لا ذنب لي، إلا علي عبدالله صالح والنخبة المتحكمون بمصائرنا، سلطة ومعارضة.. الذين تركوا البلاد بلا روح، وتركوا الشعب بلا دليل.. فالمناطقية مرض، أحياناً يكون ما بين قبيلة وقبيلة، وحينما تصطلح القبيلتان يتحول المرض إلى كراهية أبناء قبيلة ثالثة أو محافظة.. وعندما يتعافى أبناء محافظتين متجاورتين من مرض المناطقية، يتحول إلى مناطقية بين الأقاليم، مطلع ومنزل، حضارم وتهائم.. وعندما يتعافى شعب ما لأسباب موضوعية من مرض المناطقية فيما بينه، يتطور إلى عنصرية باتجاه الشعوب الأخرى.. يحتقر اليابان إخوانهم الكوريين، والفرس يحتقرون العرب، والألمان يحتقرون باقي أوروبا.

المناطقية مرض.. يتطلب علاجاً يستأصل الداء، وليس إعادة توجيهه وتنويع ضحاياه، والتعميم ظلم دائماً.. وكلنا في اليمن، لازلنا نتحرر بصعوبة وكفاح من بقايا أسلوب الإمامة البغيض، الذي زرع بيننا التشاحن والتباغض، وسلط بعضنا على رقاب بعض، وأمدنا بالكهنة، والمشعوذين، وحرمنا من الدفتر والدواء. الإمامة هي التي مجّدت في بعض اليمانيين مفاهيم المعراصة، والموغادة، والملعنة، والبعساس، والزنقلة..

إخوتي فلاسفة الحراك: لكل ذي روح على وجه الأرض كرامة، ولكل مغلوب قصته الكبيرة وملفه المآساوي، حتى اللصوص، هم أيضاً مرضى حرمان، وإلا فلا شيء في الدنيا يعدل دمعة أمي التي سكبت بعد خطاب البيض خوفاً على الوحدة.. والله هو الرزاق ذو القوة المتين.

اسمعوها مني أيها الأحباب: لم نعرف بعضنا جيداً، والله تع إلى يقول: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا".. وحينما انعدم التعارف، كان الازدراء وسوء الظن هو البديل الوحيد. وبدون إعادة اكتشاف بعضنا البعض؛ فلن يكون لوحدتنا معنى، ولن يكون لانفصالنا فلاح.

وعادة ما يلحق الفقراء الأذى ببعضهم البعض.. يتواطأ الضحية مع الجلاد حينما يسترسل في الاستكانة، لكي تكتمل في نفسه دورة الحقد، فيتحول الضحية، من ثمّ، جلاداً شديد الوطأة.. وهكذا نفعل؛ منذ دهر ونحن نتبادل السياط فيما بيننا من فترة لأخرى، وبقية خلق الله يخترعون وينتجون ويتقاسمون أرغفة العشاء بينهم بسعادة غامرة.

أحبابي، تبدأ كل مشكلة كبيرة بلفظ خبيث وعناد أخرق. الكلام الطيب مطلوب حتى لكي ينجح الانفصال.. (أي انفصال سيبقى إذا عرفنا الطريق السليم إلى شغاف القلوب!!). فلنضع مشاكلنا على الأرض.. ولننظر إلى البعيد، ولنناقش معاً آراءنا حول منهجية النضال، بإحساس متقدم بنوعية العواقب، لكي نجعل أبناءنا يشعرون إزاءنا بالفخر.. لأن الأحقاد أيضاً تورث، وما لم يتم معالجة الأخطاء بواسطة تغيير المفاهيم فإن كل الحلول ليست سوى مسكّنات يعود المرض بعدها أعتى وأعنف.. إنه ألمي وحبي، يجعلني الفيلسوف الفقير الذي يتابع الأحداث وهو واثق أنه هو وأخوه الضحية الحقيقية حينما تتناطح القرون.

فداؤكم علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض.. حافظوا على اليمن.. وإذا أنتم مصرون على اسم "الجنوب العربي" غيرنا اسمها من الطرف للطرف.. كلنا جنوب.. وكلنا يمن.. حتى قواميس اللغة تقول هذا الكلام. حيث اليمن كل ما كان جنوب الكعبة، والشآم العكس.. ووجهك باتجاه المشرق وانت في كعبة الله قلباً موصولاً بسابع السماء:

اللهم اجعل هذا البلد آمناً، وارزق أهله من الثمرات، واكتب لنا البركة، وادخل بيننا المحبة والود، وارزقنا خشيتك، ولا تخزنا يوم يبعثون.

زر الذهاب إلى الأعلى