يسهل إلقاء اللوم.. يسهل استعراض البجاحة.. يسهل إثبات القدرة على النيل المادي والمعنوي من الآخر سواء كان هذا الآخر آثماً أو لم يكن.
يسهل التحريض والحشد وقرع الطبول ونفخ البورزانات وصناعة مصطلحات الاستحقار والاستهماج والازدراء.. يسهل إيغال الصدور بأصناف المواجع، يسهل استعراض قواميس البذاءة وإثبات سوء التربية، ويسهل تعداد الهموم وإحصاء المآسي وإخلاء الطرَف وإبكاء الذات وإسالة دموع المظلومية والقهر..
ليس هذا فحسب، بل يسهل كذلك حشد الآيات والأحاديث والشواهد التاريخية التي تعزز (تأويلاً واعتسافاً) وجهة نظر الداعين إلى يوم الحمار.
لكن هذا لا يحدث إلا في المجتمعات المتخلفة، ولا يزدهر إلا حينما يغيب الربانيون وينكمش العقلاء، تماماً كما حدث بداية عهد ملوك الطوائف في الأندلس الذين أضاعوا دولة العرب والإسلام هناك ثم عادوا يبكون كما تبكي النساء..
ما أسهل أن يتحول الناس إلى "رُباح".. وما أسهل أن تقود الناس إلى حتفهم راضين مطمئنين.. لكن إجادة مثل هذا الأمر ليس مجداً، ولا شرفاً، ولا بطولة..
أقول: الذين سول لهم الشيطان إشاعة موجة انفصالية عنيفة في بعض المحافظات الجنوبية والشرقية من اليمن قاموا بداية بأمرين: الأول، إشعار أبناء تلك المناطق بأنهم مهزومون.. والثاني، إشعارهم أنهم محتقرون.. وتم توجيه أصابع الاتهام باتجاه الوحدة.
بالطبع كانت خطة داهية، إذ الشعور بالهزيمة ولّد رغبة جارفة في إظهار القوة والتوحش غسلاً لعار الهزيمة.. والشعور بالاستحقار نزع من القلوب الأدب والرحمة والحب، وجعلها مهيأة لإنتاج الإساءة وصناعة العدو..
هكذا يحدث في اليمن، جواباً على أكثر من عشرين مقال في الصحف العربية بعنوان واحد: "ما الذي يحدث في اليمن": غابت الدولة فحضرت الدويلات، وصمت العقلاء فتحدث السفهاء، وغاب الخطاب الراشد فحضر الخطاب المنفلت، غابت ثقافة الثورة فعادت ثقافة الإمامة والاحتلال، وغابت ثقافة الوحدة فحضرت ثقافة التمزيق.. والشعب هنا عاطفي لدرجة هائلة.. الانفصال هو حالة هيستيرية 100% .. والأزمة اليوم تكاد تعصف بكل شيء جميل وبكل معنى فاضل في هذه البلاد، والبعض يتمترسون بناء على أحكام جاهزة أخبرتهم بالغريم الخطأ!
في أزمة اليمن اليوم تغيب الكلمة الصادقة المسؤولة الحكيمة، ويغيب التحليل العميق، ويغيب النبل.. ويسترسل كل هذا بلا رادع أو ضمير.. علينا إعادة الاعتبار للعقل الذي كرمنا به المولى عز وجل عن باقي الحيوانات.. إصلاح الأوضاع أسهل ألف مرة من حدوث الانفصال.. وأصحاب المظالم قد ينجحون تماماً في خسارة القضية، بسبب استخدامهم الخاطئ للغة، وقبولهم اللاواعي لتأصيلات تعبث بالمفاهيم وتمزق الشعب.
إخواني أرباب الكلمة والقلم والمنبر والصيت: من لم يقل في هذا الأيام كلاماً يجمع الشمل ويقرب القلوب ويزيل سوء الفهم ويعمل على صيانة الأرواح والممتلكات فليسكت.. وله خالص الشكر.
((لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)) [النساء : 114]