واكب الشهيد الأستاذ محمد أحمد نعمان -وهو في الحادية عشرة من عمره- نشوء حركة المعارضة الوطنية لأسلوب حكم الإمام يحيى، بشكلها التنظيمي حزب الأحرار اليمني ثم الجمعية اليمانية الكبرى، داخل مدينة عدن.
حيث ارتبط بهذه المدينة وأهلها، خاصة أولئك الذين يعدون مدداً بشرياً لحركة الأحرار اليمنيين، وعرف عنهم وشهد دورهم المؤازر للحركة يقيناً من وطنيي اليمن بشماله وجنوبه بناءً على «الإجماع المنعقد عند كل المستنيرين يومها بأن خلاص الشمال من محنته هو سبيل خلاص الجنوب» لحتمية إعادة الوضع الطبيعي لليمن، لذا ظل يصر في خطابه السياسي أيام توليه وزارة الخارجية عام 1973م على القول بأن «عزمنا يشتد مضاءً في سبيل تحقيق إعادة توحيد اليمن وليس توحيد اليمن، لأن الوحدة هي الأساس وهي القاعدة، والانفصال هو الاستثناء وهو الشاذ».
وبنشوئه في مناخ وحدوي عفوي خلال أربعينات القرن العشرين رسخ بوعيه وحدة المصير وأسلوب التكامل والارتباط العضوي بين مستنيري الشطرين، وكرس هذه الممارسة الوحدوية الواعية بإحداث التنسيق بين الاتحاد اليمني والمؤتمر العمالي بعدن في الخمسينات من خلال توصيته لزملائه، ومباشرته بنفسه، معالجة قضايا العمال والارتباط بمشاكلهم والدفاع عنها ليتحقق التعاون والتضافر في إشاعة وجهة النظر الخاصة بموضوع اليمن المستقلة، ولما تبوأ بعد انفجار ثورة السادس والعشرين من أيلول 1962م مهاماً سياسية مختلفة منها سفيراً بألمانيا الغربية ويوغسلافيا ثم وزيراً لشؤون الرئاسة، فنائباً لرئيس المجلس التنفيذي (مجلس الوزراء)، ومندوباً دائماً بالجامعة العربية وسفيراً متجولاً أسهم من مواقعه في الدفع بقضية تحرير واستقلال الجنوب اليمني الذي أصر على (يمنيته) أكثر من (عربيته) وخاض من أجله المساجلات الفكرية والمعارك السياسية قبل الثورة، وأشرك معه العمال اليمنيين في مدينة عدن، بالتصدي لل(عدننة) أو «التعدين» باعتبار (عدن لليمنيين)، فهي «يمنية بقدر سورية حلب ومصرية الإسكندرية»، ولأن «شعب اليمن حين يجد نفسه حقيقة ويبني حكومته المتحدة المتحررة لن يتجه لغير سبيل الوحدة العربية الكاملة».. بل وجعل الدعوة على لسان العمال وأعضاء الاتحاد اليمني إلى «إعادة الوحدة اليمنية على أساس الجمهورية الشعبية»، بدلاً من اتحاد شطر منه مع قطر عربي آخر يطيل في انفصال الشطرين أكثر «ولكن بشكل (عربي) و(قومي)».
حتى عند قيام الوحدة المصرية- السورية عام 1958م، وما تبعها من تداعيات أفضت إلى الانفصال 1961م، توقع حدوثها مبكراً لوعيه بالأساليب التي تُمارَس من مركز القوة الكبيرة وجعلت "الابتلاع معنىً للوحدة"، زيادة على ما بين القطرين السوري والمصري من «أبحر وجبال» كما يقال، ومسافات وأبعاد أكبر مما هي في بلد واحد، اسمه واحد، ولا يتناقض فيه بشكل حاد غير نظامي حكم شطريه سواء قبل الاستقلال والثورة أو بعدهما ما أفزر مشاعر «كبرياء محلية»، في البلد الذي شدد نعمان الإبن في تصريحاته على واحديته، وأن إعادة توحيده على «أسس ديمقراطية» لا تحدد هوية الرئيس الجديد لهذا اليمن الواحد بل توجب «المحافظة التامة على الديمقراطية الشعبية والتمسك بمبدأ الفصل بين السلطات حتى لا يتسلط على اليمن الموحد إمام جديد بشكل رئيس جمهورية»، واستحسن وقتها «التخلي عن فكرة الحزب الواحد المتناقض وأسلوب الغرب المؤمل عونه للجنوب المستقل، حين رأى «الشحوب مسيطراً على الموقف» العام في الجنوب اليمني، ورأى عام 1973م أن «إنجاز صنعاء لتنظيم سياسي يحاور الأشقاء في عدن سبيلاً موصلاً إلى صيغة يمنية جديدة للعمل السياسي الموحد».
كان سعيه من مواقعه المختلفة إلى إعادة الوحدة، محاولة للمداواة من «الألم التاريخي المحض بأن يظل اليمن يمنين» الذي لم يفارقه، وسخر طاقته ومواهبه لتجاوز هذا «الإحساس الأليم» بوعي تام لما يعنيه «بروز كيان اليمن الموحد» وهو: إعادة التوحيد على «حساب» إحدى إيديولوجيات الشطرين، لقابلية الأوضاع للتغيير «وعدم استمرار أي وضع على ما هو عليه نتيجة المصالح الضاغطة والراغبة في استقرار الأوضاع على ممرات النفط الدولية»، وبناءً على ذلك انتزع تأييد أهم قوى إقليم الجزيرة العربية والمنطقة العربية عموماً وقتها، لإعادة وحدة اليمن، ولأن حق الجوار يفرض إطلاع الجار السعودي اللصيق والشقيق على المستجد من الشأن اليمني ويتعدى بآثاره الحدود المصطنعة القائمة، كُلِّف رسمياً -على الرغم من عمله سفيراً بباريس- بالسفر إلى الرياض، حيث قال عن تطبيع علاقة الشمال به عام 1970م أنه لا يتعارض ألبتة مع إعادة الوحدة مع الجنوب، لمقابلة جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز وأطلعه بتوجيه من الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني على تطورات الأمور في اليمن، لما يشاطرهم الفيصل من هم بالنسبة لليمن وحاضره ومستقبله، فنقل رسالة مفادها أن «العلاقات بين البلدين ستبلغ أفضل مستوياتها في ظل الدولة اليمنية الواحدة»، وأن «الذاتية اليمنية أشرق وجهها الناصع بتلقائية وهدوء الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) وهو يوافق على نص الشريعة الإسلامية مصدر التشريع»، بعد أن دار نقاش في طرابلس «بدّد الوحشة» القائمة بين أبناء اليمن الواحد، ونبه إلى أن «ما جاء اليمنيون لأجله أكبر من أن يُسِف فيه أحد»، «فيعلو –بذلك-الحس الوطني عند اليمنيين فوق الحساسيات التي ولدها الانفصال الطويل».
القاهرة: 5 يوليو/ تموز 2009م
[email protected]