زرت اليمن مرتين، كانت الأولى رسمية عام 1974 لإنجاز مهمة عمل للجامعة العربية، وجاءت الثانية بعد 36 عاماً بدعوة من المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية للمشاركة
في فعاليات مؤتمر “العلاقات اليمنية -الخليجية الحاضر وآفاق المستقبل” الذي انعقد مؤخرًا، وكان من دواعي سروري أن ألتقي وأتعرف إلى الدكتور “محمد الأفندي” رئيس المركز ووزير الزراعة اليمني الأسبق، والذي أدار فعاليات المؤتمر باقتدار، ذلك الإنسان والعالم الذي يتمتع بهدوء يفتقد إليه الكثير . يفكر قبل أن
يجيب . ولمست تقديراً واحتراماً له من مستوى الحضور الذي كان يمثل الطيف السياسي في اليمن كافة . وبالمناسبة، ومع أن المركز اليمني للدراسات مركز متواضع، إلا أنه يضم مكتبة تكفي من يرغب في اللجوء إليه للبحث، حيث تحوي الكثير من المعلومات والوثائق، فضلاً عما يمارسه من أنشطة تدريبية تسهم عائداتها في تمويل جزء من أنشطته، والجزء المتبقي من تبرعات وهبات رجال الأعمال وميسوري الحال في اليمن، ولا يقبل معونات أجنبية غير عربية .
على أية حال، ألقى المؤتمر، عبر أربع جلسات رئيسية وجلسة مائدة مستديرة، الضوء على قضية باتت تحظى باهتمام كبير على الصعيدين الخليجي واليمني، ألا وهي العلاقات اليمنية -الخليجية، والتي أصبحت محاطة بالكثير من التحديات والعقبات التي يمكن أن تؤثر فيها بالسلب إن لم تتم دراسة إشكالياتها وإيجاد الحلول الناجحة لها سريعاً .
ومن خلال المناقشات والأوراق التي طرحت لمست اهتمام اليمنيين بهذه القضية، ودلل على ذلك الحضور النوعي الكثيف الذي شهده المؤتمر من الجانب اليمني، من مفكرين وإعلاميين ومسؤولين وسفراء، إلى جانب أعضاء من مختلف القوى والأحزاب السياسية والنواب، إذ لاحظت مدى حرصهم على مناقشة قضية حيوية وهي أن ينال اليمن عضوية مجلس التعاون الخليجي .
وما زاد من أهمية المؤتمر أنه عُقد في ظل تطورات أمنية وسياسية سلبية يمر بها اليمن والمنطقة، منها: التمرد الحوثي وما يسمى “الحراك الجنوبي”، ونشاط تنظيم “القاعدة”، وكلها أمور لعبت دوراً مهماً في فتح ملف العلاقات اليمنية - الخليجية وجعله أكثر إلحاحاً بالنظر إلى تأثيرها المباشر والخطير في أمن دول الخليج . . وذلك أمر يؤكده أن السعودية إحدى دول المجلس وجدت نفسها طرفاً فيما يجري في اليمن بعد أن اخترق “الحوثيون” أمنها باجتياز حدودها، وكذلك إعلان توحيد تنظيم “القاعدة” في كل من الرياض وصنعاء تحت مسمى واحد هو “القاعدة في الجزيرة العربية” .
لقد حرصت في ورقة مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية والتي جاءت بعنوان “العلاقات اليمنية -الخليجية . . من منظور خليجي” على تأكيد عدد من الحقائق، إيجابية كانت أم سلبية، يمكن عرضها كالتالي:
الحقيقة الأولى: أن اليمن كدولة عربية يتمتع بمورث حضاري ضارب في عمق التاريخ، فهو من البلدان القليلة في المنطقة التي شهدت قيام دولة ذات سلطة مركزية مستقلة، ونشاط اقتصادي يتسم بالتنوع، وكان على مدار تاريخه القديم والحديث رقماً صعباً في حركة التفاعلات الإقليمية، كما كان لشعبه دور مهم وإيجابي في معظم الأحداث التي مرت بها المنطقة، إذ دائماً ما كان في المقدمة لتقديم التضحيات من أجل أمته العربية وتضامنها .
الحقيقة الثانية: أن هناك عوامل مشتركة مؤثرة في العلاقات بين الجانبين، مثل: التواصل الجغرافي الذي يجعل كلاً منهما يتأثر بأية تطورات يمكن أن يشهدها الطرف الآخر . والأهمية الاستراتيجية لموقع اليمن باعتباره يتحكم في مضيق باب المندب المهم لتجارة النفط الخليجية المتجهة إلى أوروبا وأمريكا عبر البحر الأحمر وقناة السويس، هذا غير عامل تفاوت الثروة الذي يجعل دول الخليج بحكم فوائضها المالية مصدراً لليمن لإمداده بالمساعدات وتمويل مشاريعه التنموية .
الحقيقة الثالثة: أن علاقة اليمن بدول الخليج كدول مستقلة بدأت في مرحلة مبكرة مع السعودية، إلا أنها بالنسبة لبقية الدول بدأت مع الكويت في أوائل الستينات وبقية دول المجلس في أوائل السبعينات، وكان التعاون هو سمة العلاقة بين الجانبين، حيث قدمت دول الخليج المساعدات الاقتصادية لليمن، بينما كان للعمالة اليمنية دور في خدمة البرامج التنموية لهذه الدول .
الحقيقة الرابعة: أن العلاقة بين الطرفين على مدارها لم تخل من منغصات، كان أبرزها تأييد النظام اليمني غزو “صدام حسين” واحتلال الكويت عام ،1990 وهي الواقعة التي ترتب عليها تجميد العلاقات اليمنية الخليجية، وأفضت إلى وقف المساعدات الاقتصادية الخليجية، والاستغناء عن معظم العمالة اليمنية بدول الخليج .
الحقيقة الخامسة: أن التطورات الأمنية التي يشهدها اليمن خلال العقد الأول من الألفية الثالثة شكلت مصدر قلق لدول مجلس التعاون، خصوصاً أن التدهور في الأوضاع الأمنية صاحبه تدهور اقتصادي، وكل ذلك خلق قناعة خليجية بخطورة سياسة عزله وتهميشه، ودفعها لانتهاج سياسة أكثر عملية تجاهه تقوم على احتضانه ومحاولة دمجه في محيطه الإقليمي، من خلال تطبيق سياسة ذات مستويين، جماعي (بتقديم الدعم السياسي بالحفاظ على وحدته، وتمويل خططه التنموية، فضلاً عن انضمامه لبعض هيئات ولجان المجلس) وقطري، حيث أضحت دول الخليج الشريك التجاري الأول لليمن، كما أصبح المستثمرون الخليجيون يحتلون المرتبة الأولى في حجم الاستثمارات الأجنبية بقطاعاته غير النفطية .
الحقيقة السادسة: أن قضية انضمام اليمن إلى عضوية مجلس التعاون، مازالت محل جدل بين المعنيين في ظل وجود معارضين لهذه الخطوة، يستندون إلى أوضاعه الاقتصادية المتدهورة ومواجهته تحديات سياسية عديدة (كانعدام الثقة بين النظام وأحزاب المعارضة، والأزمات الخاصة بضعف الأجهزة الإدارية والمؤسسية)، هذا غير المشاكل الأمنية المشار إليها آنفاً، إضافة إلى التحفظات الخاصة باختلاف طبيعة النظم السياسية، وما تثيره مسألة الانضمام من إشكالية قانونية مرتبطة بضرورة تعديل النظام الأساسي للمجلس، فضلاً عن الاختلاف الشاسع في مؤشرات التنمية والصحة والتعليم بين الجانبين .
كان واضحاً وجود زخم في الأفكار والطروحات التي تضمنتها أوراق بقية المشاركين، أعرض لبعض اليمنيين منهم، فالدكتور ياسين نعمان أمين عام الحزب الاشتراكي شدد في ورقته حول “القواعد المنظمة للعلاقات اليمنية الخليجية المتطورة”، على أهمية الشراكة وتعميق المصالح المتبادلة بين الجانبين، داعياً إلى أهمية تجاوز سلبيات الماضي، مع إعطاء دور مهم للعلاقات على المستوى الشعبي وعلى مستوى النخب الثقافية والسياسية، وغيرها من القوى الفاعلة في الجانبين .
في الوقت الذي توقع الدكتور مطهر السعيدي عضو مجلس الشورى وأستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء في ورقته حول “الأبعاد الاستراتيجية لانضمام اليمن لمجلس التعاون” أن تظل العلاقات بين الجانبين في ظل حالة عدم الوضوح وعدم اليقين محكومة بالتردد الذي يزيد من تعقيد بيئتها العامة، كما توقع أن تستمر العلاقة ميالة إلى المجاملات والمراوغة السياسية على حساب المصالح المشتركة . وبالنظر إلى الأهمية التي يحظى بها البعد الأمني في العلاقات بين اليمن ودول الخليج العربية، فقد حرص الدكتور جلال فقيرة أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء والوزير السابق، في ورقته المعنونة “الأبعاد الأمنية للعلاقات اليمنية الخليجية” على الإشارة إلى الموقف الإيراني من سياسات الأمن في الخليج واليمن فوصفه بأنه “مقلق للطرفين”، كما أوضح أن اندماج فرعي “القاعدة” في اليمن والسعودية يؤشر لاستمرار التنسيق بين البلدين وارتفاع وتيرته، بالإضافة إلى التنسيق في مواجهة التمرد الحوثي الذي يحتل أولوية لدى صانعي القرار في الجانبين .
وبصفة عامة، كانت المناقشات والمداخلات فرصة جيدة للتعليق على بعض القضايا المهمة المرتبطة بالعلاقات بين الطرفين، وهو ما يعيد إلى مسألة المعوقات الخاصة بانضمام اليمن إلى عضوية مجلس التعاون، وذلك التركيز على مسألة المعوقات للقول بعدم إمكانية التحاقه بالمنظومة الخليجية، يجب ألا ينسينا أن هذا البلد يتمتع ببعض المزايا والإيجابيات التي تعظم من أهميته بالنسبة لدول الخليج، وتجعل انضمامه لمجلس التعاون أمراً مرغوباً فيه، فهو من ناحية -كما سبقت الإشارة- يتمتع بموقع استراتيجي فريد، إذ يمسك بمفاتيح الباب الجنوبي للبحر الأحمر، ويربط حزام أمن الجزيرة والخليج العربي، ابتداءً من قناة السويس وانتهاء بشط العرب، كما يتحكم في طرق الملاحة البحرية الصاعدة إلى آسيا عبر بحر العرب، وبالتالي فإنه يمثل أحد الشروط الرئيسية لاستقرار المنطقة، ويشكل مع دول مجلس التعاون كتلة استراتيجية واحدة، ولهذا فإن عزله قد يؤدي إلى وجود اختلالات عميقة في المنطقة يصبح معها الحديث عن أمن الخليج فاقداً لأي قيمة أو مضمون . ومن ناحية ثانية يمتلك جيشاً قوياً قادراً على استيعاب أنماط الحروب الحديثة والمتطورة لو أحسن تدريبه وتأهيله، وقد يسهم ذلك في إنشاء جيش خليجي قوي يكون فيه الجيش اليمني أحد مكوناته الرئيسية، وهو توجه يتعزز في ظل اختلال التوازن الاستراتيجي إلى جانب اختلال التوازن الديموغرافي اللذين تعاني منهما دول المجلس، في الوقت الذي يملك اليمن عمقاً ديموغرافياً قد يؤدي إلى إحداث التوازن المطلوب في الخليج بين قدرات دوله وقدرات دول أخرى في المنطقة مثل إيران، أي ان انضمامه قد يشكل توازناً استراتيجياً وديموغرافياً مع إيران وغيرها من الدول . ومن ناحية ثالثة يمتلك الاقتصاد اليمني -رغم ما يمر به من أزمات- بعض خصائص وإمكانات التكامل الإقليمي، أبرزها: منظومة التشريعات الاقتصادية، وأطر آليات العمل الاقتصادي، واستقرار واتساع سوق العمل، ووجود إمكانات بشرية هائلة مع انخفاض أجورها، فضلاً عن توافر مصادر رخيصة للطاقة ووجود بنى تحتية متكاملة، وجميعها مقومات لو تم استغلالها الاستغلال الأمثل يمكن أن تسهم في تحقيق التكامل الاقتصادي بين اليمن ودول المجلس على المدى البعيد . تلك المميزات التي تظهر أهمية اليمن لدول الخليج، وتكشف عن امتلاكه لإمكانات تؤهله للانضمام إلى مجلس التعاون، لا ينبغي أن يقلل من شأنها الحديث عن اختلاف طبيعة الأنظمة بين الجانبين، أو الحديث عن إشكالية قانونية مرتبطة بالنظام الأساسي لمجلس التعاون، فاختلاف الأنظمة بين ملكية تقليدية بدول الخليج وبين نظام جمهوري رئاسي في اليمن لا يشكل عائقاً، بدليل أن الاتحاد الأوروبي، أنجح التكتلات الاقتصادية، يضم تحت مظلته أنظمة ملكية وجمهورية، ولم يمنع الاختلاف من تعاون واندماج دوله على مختلف الصعد، كما أن الإشكالية القانونية ليست بالعقبة الكأداء التي يمكن أن تحول بين انضمام اليمن إلى المنظومة الخليجية، لأن قادة دول الخليج الذين وضعوا واعتمدوا النظام الأساسي للمجلس بإمكانهم تعديله بما يسمح بضم أعضاء آخرين .
وإذا كان ما سبق يعني أنه لا إشكال في انضمام اليمن لمجلس التعاون، فإن الكرة تبقى ملقاة في ملعبه، خصوصاً وأنه مطالب بالوفاء ببعض المستلزمات ليكون مؤهلاً للانضمام، منها أن يكون هناك نظام سياسي وحكومة قوية قادرة على فرض كلمتها وإرادتها على القبائل، وعلى النهوض بمسؤولياتها وفي مقدمتها حُسن التعامل مع الملف الأمني (التمرد الحوثي وخطر “القاعدة” والحراك الجنوبي) وإصلاح الهياكل الاقتصادية والإدارية، والقضاء على الفساد وانتشار السلاح، وإعادة تأهيل العمالة اليمنية لتستطيع المنافسة في السوق الخليجية . ولكن لابد من الاعتراف في المقابل بأن دول الخليج مطالبة بمشاركة جارها في حل مشاكله عبر تدشين مبادرة لإنقاذه من خلال قمة طارئة تبحث أزماته وتساعده على الخروج منها، خاصة وأنها أصبحت خبيرة في إدارة أزمات هذه الأمة وحل مشاكلها، كدور السعودية في وضع حد للحرب الأهلية اللبنانية من خلال اتفاق الطائف ،1989 وكذلك دور قطر في حل أزمة الفرقاء اللبنانيين عام ،2008 والوساطة من قبل بين الحكومة اليمنية و”الحوثيين”، وحبذا لو كان هناك جهد عربي أشمل بما يعني تعريب الأزمة، وليس تدويلها الذي يعني تدخل القوى الكبرى في شؤون اليمن والمنطقة تحقيقاً لمصالحها .
ووفق رؤيتي، فإنه من المتوقع أن تشهد العلاقات اليمنية الخليجية تطورات إيجابية تؤثر في مسارها في ضوء قرارات القمم الخليجية وخاصة الأخيرة منها، والتي قررت دعم اليمن مالياً والمشاركة بفاعلية في تعزيز موقفه ومساعدته على الخروج من مشاكله، وتأهيله لمزيد من الاندماج في المنظومة الخليجية من خلال اعتماد انضمامه لمزيد من اللجان والهيئات التابعة لمجلس التعاون .
وقد جاءت توصيات المؤتمر لتصب في مجملها في هذا الاتجاه . أي في خانة العمل على حل أزمات هذا البلد وتعزيز علاقاته مع دول الخليج . فالأولى: دعت دول الخليج إلى دعمه اقتصادياً وتنموياً، والعمل على القضاء على مشكلة الفقر الذي يولد العنف والإرهاب . والثانية: طالبت بالعمل على تشجيع اليمنيين على الحوار الجاد من أجل حل أزمات بلادهم، باعتبار ذلك الطريق الآمن لتجنيبها وجيرانها مخاطر التدويل والتدخلات الخارجية وتأثيراتها السلبية، وذلك الحوار يستلزم بالضرورة إجراء مصالحة وطنية وسياسية شاملة، وإعادة هيكلة النظام السياسي اليمني، والحد من الفساد، وتحسين بيئة الاستثمار باعتبارها متطلبات جوهرية لدخوله مجلس التعاون . والثالثة: طالبت بدمجه في المجلس وفق شروط مسبقة من قبل دول الخليج لإتمام ذلك، مع مراعاة أن معايير الانضمام الأمنية والسياسية والتنموية لا تتم إلا بدعمها . أما التوصية الرابعة فتدعو إلى تشكيل لجنة مشتركة من اليمن ودول الخليج لبحث معوقات انضمامه، والعمل على تسهيل انتقال الاستثمارات ورؤوس الأموال بين الجانبين .
وإجمالاً، شهد المؤتمر حرية في التعبير والنقاش المسؤول لم أكن أتوقعها ولا نجدها في كثير من دولنا العربية، إذ لم يكن هناك تجريح أو تطاول، بل نقد واقعي لا تستطيع معه إلا أن تحترم الناقد والدولة التي تسمح بنقدها . كما أنه -وهذا هو الأهم- حدد وبوضوح المكانة والأهمية التي يحظى بها اليمن بالنسبة لدول الخليج، وكيف أنها تعتبر استقراره ضرورة أساسية من أجل استقرارها ورفاهيتها . ومن هذا المنطلق، مطلوب مساعدته على حل أزماته الاقتصادية والأمنية، وحبذا لو بدأ ذلك بإيجاد نوع من الشراكة بين الجانبين تمنح بمقتضاه دول الخليج اليمن وضع الدولة الأولى بالرعاية، وهذه صيغة لا تحتاج إلى تعديل النظام الأساسي للمجلس، ولا تتطلب إجراءات تستلزم تغييراً جذرياً في أنظمة وقوانين هذا البلد، وذلك كمقدمة لتأهيله اقتصادياً وقانونياً وإدارياً لدمجه كعضو كامل العضوية بمجلس التعاون الخليجي في المستقبل، ففي ذلك قوة لدول الإقليم .
(*) سفير جامعة الدول العربية في لندن ودبلن سابقاً