في عالمنا اليوم، يُعتقد عادة أن القوة الناعمة لأميركا تكمن في شعبية أفلام هوليوود والكوكاكولا وماكدونالدز وستاربكس بمختلف أنحاء العالم. ولكن تظهر الحقائق شيئا مختلفا عن ذلك. وفي استطلاع رأي أجري مؤخرا وشمل 43 دولة، قال 79% ممن استطلعت آراؤهم إن أكثر ما يعجبهم في الولايات المتحدة هو ريادتها في مجال التقنية والعلوم. وجاءت الأعمال التي أثمرها قطاع الترفيه الأميركي في المرتبة الثانية ولكن بفارق كبير.
وكطالب أجنبي شاب خلال السبعينات من القرن الماضي، كان أكثر شيء يثير الإعجاب لدي ذي صلة بالولايات المتحدة، هو ما يقدره الكثيرون في العالم لأميركا في الوقت الحالي، فقد أعجبتُ بالثقافة الفكرية المنفتحة وجامعاتها العظيمة وإمكانياتها في مجال الاكتشاف والإبداع.
وعبر تسخير القوة الناعمة للعلوم لخدمة الدبلوماسية، يمكن لأميركا أن تؤكد رغبتها في استخدام أفضل ما في تراثها وثقافتها لبناء علاقات أوسع وأفضل مع العالم الإسلامي وما وراءه.
وقد شعرتُ بجدوى هذه القوة الناعمة عندما جئتُ إلى الولايات المتحدة عام 1969 لبدء دراسات عليا في جامعة بنسلفانيا. واكتشفتُ حينها كيف تمثل العلوم لغة عالمية، إذ يمكنها إيجاد روابط جديدة بين الأفراد وفتح العقول أمام أفكار تتجاوز نطاق الفصول الدراسية. وغرست الفترة التي قضيتها أتعلم خلالها داخل أميركا في داخلي تقديرا أكبر لقيمة الخطاب الأكاديمي واستخدام الوسائل العلمية من أجل التعامل مع قضايا معقدة. وبُذرت حبوب جديدة من التسامح السياسي والثقافي، ونمت هذه البذور.
ولكن، ربما يتمثل أهم شيء أقدره في مدى ما تجسده العلوم من القيم الأساسية لما سماه المؤسسون الأميركيون «حقوق الإنسان» وفقا لما هو موجود في الدستور الأميركي: حرية التعبير والتفكير وهما عنصران ضروريان للتطور الابتكاري في العلوم، بالإضافة إلى الالتزام بتوفير فرص متكافئة لأن الإنجاز العلمي لا علاقة له بالخلفيات العرقية والثقافية.
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، وبعد أن عينني الرئيس الأميركي باراك أوباما كأول مبعوث علمي لأميركا داخل منطقة الشرق الأوسط، بدأت جولة دبلوماسية إلى مصر وتركيا وقطر. وقابلت مسؤولين من كافة المستويات الحكومية ومسؤولين بالأنظمة التعليمية في هذه الدول، بالإضافة إلى علماء في الاقتصاد وأقطاب في القطاع الصناعي وكتّاب وناشرين وممثلي وسائل إعلام. واكتشفت في هذه الجولات أشياء مقلقة، ولكن عثرت على أسباب هامة للتفاؤل.
وتمثل الجانب المقلق في حقيقة أن التعليم داخل الكثير من الدول ذات الأغلبية المسلمة لا يرتقي إلى مستوى المعايير الدولية على نحو خطير. ويمثّل القصور في نظام التعليم والعوائق الاقتصادية المنتشرة وقلة فرص العمل المتاحة أمام الشباب مصدر إحباط ويأس في مجتمعات مسلمة كثيرة. ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى الحكم الضعيف والفساد المتنامي، بالإضافة إلى الزيادة السكانية.
ولكن، كانت هناك أيضا الكثير من الإشارات الإيجابية، حيث تقطع دول بها أغلبية مسلمة، مثل ماليزيا وتركيا وقطر، خطوات كبيرة هامة في مجال التعليم وفي مجال التنمية الاقتصادية والتقنية. وتعد مصر والعراق وسورية ولبنان والمغرب وإندونيسيا نماذج للدول التي لا تزال غنية بالمواهب الشابة.
وفي الوقت الحالي، تميز الكثير من المسلمين الموجودين في الغرب في مجالات متنوعة، بدءا من العلوم والتقنية والتجارة إلى الفنون والإعلام. ويمكن أن تساعد هذه الإنجازات، والقيم التي تمثلها، العالم الإسلامي على استعادة جزء من إرثه العظيم كرائد في العلوم من خلال تكملة الجهود والتطلعات المحلية.
ومن المؤكد أن تعزيز العلاقات مع هذه الأغلبية المعتدلة سيصب في صالح الولايات المتحدة، حيث تجد هذه الأغلبية نفسها محصورة في صراع مع أقلية من المتعصبين. ويؤمن معظم الناس الذين قابلتهم في منطقة الشرق الأوسط بنوايا الرئيس أوباما، التي أوضحها في خطابه من القاهرة العام الماضي، ويرحبون باحتمالية وجود شراكات تعليمية وعلمية أقوى مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، هناك من عبّر عن بعض الشكوك. وقال لي مسؤول بارز: «لقد أدلى الرئيس أوباما بخطاب رائع داخل القاهرة، ولكن هل يسمح المناخ السياسي داخل الولايات المتحدة، ولا سيما الكونغرس الأميركي، له بالعمل على تحقيق ما تعهد به؟».
ويجب البدء بالتأكيد على ثلاث نقاط تُعزز من احتمالية النجاح في ذلك.
أولا: تحتاج الولايات المتحدة إلى تحديد سياسة شاملة متساوقة لاستخدام الدبلوماسية العلمية مع الدول ذات الأغلبية المسلمة. وعلى الرغم من الكثير من الجهود التي تبذلها منظمات خاصة وعامة، فإن مبادراتها لا تزال شيئا بسيطا.
ثانيا: يجب أن يركز جهد أكثر تكاملا على تحسين التعليم وتعزيز البنية التحتية التقنية والعلمية التي ستفضي إلى مكاسب اقتصادية حقيقية وتقدم سياسي واجتماعي. ومن وسائل إيجاد ثروة بشرية في مجال العلوم، على سبيل المثال، أن تقوم الولايات المتحدة بتشجيع ودعم مختبرات بسيطة لعلوم الأرض داخل المدارس الابتدائية مع توفير التدريب اللازم للمدرسين. وبالنسبة للطلاب الأكبر سنا، أقترح برنامجا جديدا وهو برنامج «إعادة تشكيل التعليم والتنمية». وسيكون له أهمية بالنسبة للمسلمين. ومن خلال هذا البرنامج يمكن للولايات المتحدة دعم بناء مراكز التميز في العلوم والتقنية لتخدم المراكز التعليمية للطلاب الموهوبين في المدارس الثانوية والجامعة بمختلف أنحاء المنطقة.
ثالثا: يجب أن تكون هذه الجهود تتمة، وليس بديلا، للجهود الأميركية من أجل تعزيز حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي في العالم الإسلامي. ويجب على الولايات المتحدة أيضا الاستمرار في السعي من أجل الوصول إلى حل عادل للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي يعتمد دولتين تنعمان بالأمن، مع العمل على جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية.
وستمضي هذه الجهود في طريقها من أجل تحفيز التقدم وإعادة توجيه طاقات المنطقة إلى قنوات جديدة بناءة تعود بالنفع المشترك. وبهذا، يمكن لقوة العلوم الناعمة أن تعيد صياغة الدبلوماسية العالمية. وإذا تمكنا من تحقيق الرؤية التي حددها الرئيس أوباما في القاهرة، ربما يسجل التاريخ هذا الخطاب كمدخل إلى مرحلة من التغيير التحوّلي.
يحب الأميركيون مقولة «الأفعال أعلى صوتا من الأقوال»، وما نريد في الوقت الحالي هو الأفعال.
* عالم مصري أميركي حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 لما قام به في مجال كيمياء الفيمتو. كما عُيّن مبعوثا علميا للرئيس الأميركي باراك أوباما بمنطقة الشرق الأوسط. ويعمل أستاذ الكيمياء الأول في معهد لينوس بولينغ وأستاذ الفيزياء في معهد كاليفورنيا.
* خدمة «غلوبال فيوبوينت» خاص ب«الشرق الأوسط»