ذا كانت اليمن، كل اليمن، حلقة أساسيّة في حضارات المشرق، والذاكرة العربيّة المترنّحة تحت أعباء واستحقاقات العصور الحديثة، التي تركتها، أو تركها أبناؤها ونخبها الحاكمة، في منطقة التطلّع والطموح، التي استطالت منذ بدايات القرن العشرين، حتى البرهة الراهنة، التي لا تعمل إلا، على وأد وتدمير ذلك الحلم في التطلع إلى تجاوز الأزمات الطاحنة المهيمنة على مجمل التركيبات والأوضاع العربيّة..
اليمن جزء عضوي من هذا المسار العربي وهذه الصيرورة القاسية. لا يكاد هذا البلد العريق، أن يفتح نافذة على حلم وأمل ينتشله من الوضع الذي يرفس فيه منذ انجاز الاستقلال السياسي، إلا وتتناسل العقابات والمجازر والأعداء من الداخل والخارج..
أمام هذا القدر التراجيدي، وتلك التركيبة القبليّة المعقدّة التي أحالت “الماركسية اللينينيّة” أو الماويّة، إلى جزء من هذا الفلكلور لعصبيّات القبائل والمناطق وعنفها المقنّع بما يندرج في سياق المفارقات الساخرة..
أمام هذا الوضع التراجيدي الراعب، أتذكر أصدقائي اليمنييّن منذ مطلع السبعينات حين كنا نتهجى أبجديات ثقافة محتملة، رغم الرؤية الوثوقيّة، في السياسة والاجتماع، التي ستقلب أوضاع التخلف الحضاري رأساً على عقب، وسيبدأ التاريخ مسيرته الحتميّة المظفرة!
***
ما أثار لواعج الشوق والألم نحو اليمن، ليس فقط نشرات الأخبار الكارثيّة، حول دماء اليمنييّن التي أضحت تشكل رافداً متدفقاً في نهر الدماء العربيّة المسفوكة، من “الوريد إلى الوريد” والعبارة لغادة السمان، فبجانب ذلك، يبزغ ضوء قليل التأثير في مسار هذا التاريخ الصعب، لكنه دال وعميق، وعلى سبيل الصدفة، أجلس هذا الصباح على طاولة مكتبي، المعبأة كالعادة بالفوضى والبعثرة، آخذ في لملمة الأوراق والكتب، بعد عودتي من (صلالة) المزهرة بالخريف وجمال الطقس، المتاخمة للحدود اليمنيّة، حيث أجد كتباً، أبدعتها الأقلام اليمنيّة شعراً ودراسة وفناً.. أحمد باكثير، عبدالعزيز المقالح، أحمد الصياد، هدى أبلان، آمنة النصيري، عمر عبدالعزيز، الرازحي، الساخر الحزين، شوقي شفيق الخ..
هؤلاء جزء من النخبة اليمنيّة التي تشكل ذلك الضوء الراشح عبر الجثث والمجازر واسطبلات الظلام الكاسح..
وتعود ذاكرتي إلى أولئك اليمنييّن الذين شكلوا بهاء الحلم ومحطة وعي نقدي عبر أرجاء الجزيرة والوطن العربي..
رغم خذلان التاريخ لهم، مثلما خذل المشروع النهضوي العربي بمختلف تمظهراته وتجليّاته الفكرية والسياسيّة.