أكثر من ثلاثين عاماً مرت على رحيل الرجل البسيط الرئيس المقدم إبراهيم محمد الحمدي رحمه الله، والذي كان قد بدأ يُحقق الحلم الساحر للوطن والمواطنين.. وتخطى بإعجاب متزايد من الأجيال التي عايشت فترته وهي الآن تصارع قساوة العيش وفساد الحكم والفقر المطبق على الجيل السابق والجيل اللاحق.
عندما صعد المقدم الحمدي إلى الحكم في شمالي اليمن بعد الانقلاب الأبيض يوم 13 يونيو 1974م، كانت البلاد في ذلك الوقت تضج بالفساد والفوضى السياسية والأمنية في حكم سابقه القاضي العلامة عبدالرحمن بن يحيى الإرياني, وبعدها بدا واضحاً طموح الرجل يترجم في إقامة الدولة الحديثة التي يحكمها القانون.
كان القائد المحنك الشاب الحمدي يمتلك سليقة منطلقة في الخطاب السياسي وربما هو الرئيس اليمني الوحيد الذي يمتلك هذه الخاصية المهمة للقائد والذي مكنته من حشد غالبية فئات الشعب حول حركته التصحيحية ومشروعه التحديثي, وكان بذلك يلامس آمال الفئات العريضة من الفقراء والمساكين والمهاجرين في الخارج الذين يتطلعون لمستقبل جديد مزدهر لليمن..
وفي الوقت نفسه كانت خطاباته السياسية توافقها العمليات التنفيذية على الواقع العملي, والتي شكلت الوجه الأول للدولة اليمنية الحديثة, وما زال كثير من تلك البنى الأساسية لعدد كبير من المرافق الحكومية والمنشات الجمالية رغم التغييب الحاصل والمتعمد له وإزالة ومحو أي ذكريات شاهدة على عصره, لازالت تخبر القاصي والداني بلسان حالها بأنها من منجزات الراحل إبراهيم الحمدي رحمه الله..
هناك الكثير من الإنجازات والطموحات في عهد الحمدي والتي تستحق الوقوف عندها والتي أعادت التوهج للثورة وأعادتها أيضاً لخطها المستقيم والذي أراد له البعض الانحراف والانجراف إلى سبل كادت توصل إلى اليمن إلى النفق المظلم منذ عهد مبكر من اليوم.
سيخبرك الكثير من اليمانيين أن أيام (إبراهيم) كانت أياماً أكثر حركة وتنظيماً وتحديث أوسع, والذاكرة الشعبية لا زالت تدّخر صورة نقية عن الراحل الذي تثير ذكراه في العقول إلهاماً كالسحر وأحدثت فترته مكانا في الذاكرة لا يمكن أن ينسى.
ستجدهم يخبرونك أنه كان تحت أجواء ليالي من الشتاء البارد يخرج ويتنكر ويقود سيارته ماراً بعدد من النقاط الأمنية يعرض على أفرادها رِشاً ليمتحن نزاهتهم فلا أحد يقبل خوفاً من أن يصل خبره إلى الحمدي فينزل به عقاباً رادعاً ويصير عبرة لمن لا يعتبر.
الجندي اليمني برتبته العسكرية العادية كانت له قيمته المعتبرة، ودرجة المقدم كان من الصعب الوصول إليها، فهي أكبر درجة في البلاد آنذاك وهي التي عاد إليها إبراهيم بعد أن تولى الحكم وهو في مرتبة أعلى منها (عقيد)..
لن نستطيع هنا أن نحصر ولو جزء قليل من إنجازات تلك المرحلة البسيطة والتي لم تتجاوز الأربع سنوات في شتى الميادين والأصعدة, وهذا لايعني أننا ننكر إنجازات الآخرين، لكن يجب القول ان من الحق علينا والواجب أيضاً أن نقف إجلالاً واحتراما لذلك الرجل الذي مهما تذكرنا له وحاولنا تغييبه قسراً، إلا أن الحاجة والوضع القاتم يحتم علينا تذكره، وخاصة فيما يتعلق بالفساد ومحاربته, فالرجل لم يكتفِ بتشريع القوانين وإنشاء الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة فقط وإنما شرّع القوانين وطبقها على الواقع العملي.
ولن تجد مواطناً يمنياً أو عربياً شريفاً يسمع اسم الحمدي إلا ويترحم عليه ويتحسر على زمان كان للمواطن اليمني قيمته في دول الجوار حسب ما يتناقله الجميع ممن عيشوا تلك الفترة، في حين أن الكثير من المغتربين وخصوصاً في دول الخليج هذه الأيام يعانون الأمرين من المعاملة السيئة التي يلاقونها من مايُسمى بالكفلاء حالهم كحال الآسيويين من البنغال والهنود والبتان والبوذيين، بل إن الكثير منهم في السجون الخليجية دون أي تحرك من السفارات والجاليات والوزارات اليمنية المختصة لإنقاذهم وإخراجهم من الوضع السيئ الذي يعيشوه.