من أعجب وأغرب الحوادث التي مرت بي وتدل دلالة بينة أننا لم نعد (أمة لا تقرأ) فحسب، بل وأوشكنا أن نكون (أمة تكره القراءة)، وذلك أنني كنت أقرأ موضوعاً ما في كتاب أو صحيفة (الشك من عندي).. فأعجبني ذلك الموضوع بما فيه من إثارة ومعلومة جديدة..
وحباً في أن تعم الفائدة أردتُ أن أري أحد الأصحاب ما أثارني وأعجبني في تلك المعلومة، وحينها قرّبت أمام ناظريه الكتاب أو الصحيفة ليطلع عليها بكل سرور، فما كان منه إلا أن رفض القراءة في تقزز وكره، وطلب مني أن أقرأ له فحوى ما جاء في المعلومة التي أعجبتني.
لا أخفيكم سراً أن الموقف كان كالصاعقة على نفسي، وتناسيت بعده الفرحة بتلك المعلومة وذهلت عنها، وأخذت أفكر وأتأمل في نفسي: هل أصبحنا نمقت القراءة إلى هذا الحد الكبير، ولا نطيق حتى مجرد النظر في أسطر معدودة وكلمات محددة، وكيف بصاحبي هذا إذا طُلب منه أن يقرأ كتاباً أو مجلداً أو سِفراً ؛ هل تراه سينتحر هرباً من هذا التكليف الصعب والأمر الجلل الذي لا يطيقه البتة؟ ولهذا تنازعتني الهموم وأصبحت أفكر في الأسباب التي جعلت منا أمة تنفر من القراءة كنفور الحمر الوحشية إذا رأت قسورة.
وبالصدفة وجدت مذكرة تتحدث عن أساليب القراءة الموجهة للطلاب، فقلت في نفسي: ما أحوج الكبار إلى تعلم أساليب القراءة الموجهة منه إلى الطلاب وصغار السن! ومن بين ما وجدته فيها ذكره لمجموعة أسباب (عند العرب والمسلمين عموماً) للنفور من القراءة والذهول عنها، حيث تحدث عن هذه الأمر كظاهرة وذكر أسباباً لها سأذكرها بتصرف واختصار:
1- الانهماك في متابعة الإعلام (المرئي والمسموع)، والاعتقاد بالحصول على المعلومات الكافية من خلال هذه الوسائل.
2- الجهل والأمية، والمقصود به أمية التفكير وضحالة المستوى الثقافي، ناهيك عن تقاعس الحكومات الكبير في محاربة الأمية بتعليم الناس مبادئ القراءة والكتابة.
3- عدم دخول مهارة القراءة ضمن أهداف المناهج الدراسية، وعدم وجود ما يحث الطلاب على القراءة والمطالعة.
4- كثرة وسائل الترفيه المختلفة من ملاعب ومقاهي وصالات وألعاب إلكترونية وغيرها، مما جعل المجتمع غارقاً في اللهو واللعب صباحاً ومساءً.
تقول نتيجة دراسة وإن كانت صادرة قبل مدة، حيث أجريت هذه الدراسة بهدف معرفة معدل قراءة الشعوب في العالم، فجاءت النتيجة: أن معدل قراءة الرجل الياباني (العادي) وهو العامل في المحلات والأعمال الحرفية، معدل قراءته (40) كتاباً في السنة، وأن معدل قراءة الفرد في أوروبا (10) كتب في السنة، في الوقت الذي كان فيه معدل قراءة الفرد في الوطن العربي عُشر (1/10) كتاب، أي بمعنى آخر أن الفرد في الوطن العربي يقرأ في العام (20) صفحة من كتاب مكون من (200) صفحة، يا للعجب والألم في آنٍ واحد!!
حتى الكتب التي نصدرها تناسبت تناسباً طردياً مع مستوى تدني القراءة والعزوف عن الاطلاع لدينا، وصرنا من أقل دول العالم إصداراً للكتب بل وفي ذيل القائمة إن رضي بنا الذيل!، فقد أشار تقرير التنمية البشرية لعام 2003م، واستناداً إلى إحصائية اليونسكو التي سجلت لدول العالم العربي مجتمعة إنتاج (6500) عنوان وذلك في عام 1991م مقابل (42000) عنوان في أمريكا اللاتينية، و(102000) عنوان في أمريكا الشمالية، ثم أخذ التقرير بعد ذلك يعرض حقائق مؤلمة، فيسجل لليهودي الواحد قراءته (40) كتاباً في العام، وللأوروبي (35) كتاباً، مقابل كتاب واحد يقرؤه عربي واحد من كل ثمانين عربياً!!.
أن ما ورد من الحقائق والمعلومات السالفة الذكر تشير وتدل دلالة واضحة أننا لم ولن نتغير أو نتقدم خطوة إلى الأمام إلا إذا جددنا العهد مع القراءة والكتاب، وجددنا العهد مع ديننا الذي يحثنا على القراءة في أول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم،) اقرأ (أمر نزل على ألا وهو قوله تعالى:.
أتمنى من أعماق قلبي أن نعود كما كنا رواداً للعالم في الثقافة والحضارة، وفي نفس الوقت أخوف ما أخاف أن يأتي ذلك اليوم الذي يُقال عنّا فيه: أن أمة (إقرأ) لم تعد تقرأ.
هل هي حقاً أرض التنابز بالألقاب.. وإمبراطورية الجلسات والدكك والقيل والقال؟
التنابز بالألقاب داء مهلك ينخر في المجتمع كم راعني وأفزعني أن يكون مجتمعي الحبيب إلى قلبي مليئاً بالألقاب السيئة، والقليل القليل منها طيب ومقبول، بالطبع أنا لا أعني بالألقاب اسم(القبائل) بل ما اصطلح عليه من إطلاق وصف على الآخرين مع وجود أسماء لهم، إلى حد أن الشخص لا يُعرف باسمه لطغيان اللقب عليه ؛ والطامة الكبرى إن كان اللقب سيئاً وقبيحاً، فإذا كنت تصلي في مسجد ثم بعد الصلاة يُعلَن عن موت فلان فيُذكر (باسمه) فلا تكاد تلتفت إلا وترى الكثير يتهامسون ويتململون لعدم معرفتهم بالشخص المتوفّى، فإذا ما أُخبروا عن لقبه عرفوه وانهالت دعوات الرحمة عليه منهم بعد ذلك، وهذا شخص غريب قدم إلى منطقة ما يسأل عن أحد الأشخاص باسمه فلا يدله أحد عليه لأنه لم يشتهر إلا بلقبه، وربما تكون في مجلس ما فتذكر فلاناً بخير لا بشر فلا يعرفه أحد، بل ربما أنكروا معرفتهم به حتى يضطروك اضطراراً لذكر لقبه رغم تحفظك عن ذكره إن كان اللقب غير مناسب.
طبعاً لا أستطيع الاستشهاد بعدد من الألقاب ذات الدلالات الفظيعة حتى لا أُحرِج نفسي وأجعل القارئ يدخل في دوامة من البحث عن صاحب اللقب خاصة إن كان من النوع الفضولي، وحسبي أن أشير إلى أن الكثير منها أي الألقاب يحمل معاني سيئة وسمجة وقبيحة قد أطلقت وأُلصقت بأشخاص بأعيانهم أو على أسر أو عوائل، أنا واثق كل الثقة أنها لم تأتِ من فراغ بل لها أسبابها الغير المبررة، ولعل من أبرزها التراشق بالاتهامات والاختلاف مع البعض والرغبة في الكيد والإضرار بالآخرين ولو نفسياً ومعنوياً، مما ساهم في ظهور مرض قاتل وظاهرة مزعجة أرقت كل ذي فطرة سوية وقلب سليم.
كم أعرف من أناس يمتعضون إن دُعُوا بألقابهم القبيحة فكأني به إن سمع لقبه يُدعى به دون اسمه كأنه يُطعن في قلبه طعنة نجلاء، وهم لا يستطيعون تبديل الواقع لعجزهم عن ذلك وتمكن تلك الألقاب منهم بل قد تلازمهم طوال حياتهم، فلا يملكون حينئذ إلا أن يحملوا الحزازات والحقد الدفين والضغينة المكبوتة لمجتمع ينعتهم بألقاب لا يرتضونها لأنفسهم، والأدهى من ذلك أنهم يرمونها عليهم بكل برودة دم واستهتار غير عابئين بمدى الدمار النفسي الذي يسببونه، ولا يحسون أو يدركون قدر الانعكاس السيئ والآثار السلبية على نفسية الشخص الملقَّب، وربما أدى ذلك إلى شعور صاحب اللقب بالنقص والعجز وخصوصا إذا كان اللقب ناجم عن صفة قصور فيه، وقد ينقص من عزيمة المخاطب ويضعف أمله في التفاعل مع المجتمع يحبط روح الأخوة لديه.
وقد أكد علماء النفس أن ذكر صفة غير لائقة في شخص ما تولد اليأس والتشاؤم والشعور بالنقص في نفسه، وكل الذين دعوا إلى نشر القيم الأخلاقية في المجتمع من أنبياء ورسل وفلاسفة وحكماء اعتبروا التنابز بالألقاب من الأمور القبيحة ولو كان اللقب صفة في الملقب، ولقد نعت الإسلام الإنسان الأعمى بالبصير احتراما وتعظيما له ونهى بشدة عن تحقير الآخرين إلا إذا كان الشخص راض بتلك الصفة وذاك اللقب، ورجح في هذه الحالة الألقاب الحسنة فان تأثيرها على خلاف الألقاب السيئة.
و من المعلوم الجلي عند كل ذي دين وعقل سليم أن التنابز بالألقاب يحدث عداوة سامة بين أبناء الأمة الواحدة، ومن شأنه أن يقطع أواصر الأخوة الإسلامية ويفسد المودة ويولد الأحقاد والعداوات لذا جاء الإسلام بتحريم هذه الصفة القبيحة وهذا الخلق الذميم لأنها تتنافى مع مقاصده المتمثلة في نشر المودة بين المؤمنين، الذي هو مراد من مرادات الله، فالإسلام يريد من الإنسان أن يكون صالحاً في نطقه، ومهذباً في كلامه، بعيداً كل البعد عن فعل ما يتنافى مع مقتضيات شرعه القويم.
يقول الله تع إلى في سورة الحجرات، الآية (11): (و َلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُم وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ صدق الله العظيم
.للأسف الشديد أصبحنا نُعرف بهذه السلبية (القيل والقال) وكثرة الكلام عند الآخرين من مناطق أخرى، وقد التصقت بنا هذه الصفات حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ممارساتنا وسلوكياتنا وثقافتنا سواءً علمنا ذلك أم لم نعلم، اعترفنا بذلك أم لم نعترف، أقررنا بذلك أم لم نقر، وأنا في اعتقادي إن كانت تلك في نظرنا تهمة أُطلقت علينا جزافاً ومن دون تروي وربما حملت نوعاً من الحقد والحسد على مدى التفوق والتميز الذي نبديه عنهم إلا أنه كان لزاماً علينا أن ننبذ عن أنفسنا هذه السلبيات ونسعى إلى تجاوزها أو على الأقل نحاول تهذيبها وتوجيهها التوجيه الصحيح من حيث التناقش والتحاور فيها في قضايا تهم المجتمع ويتم ترتيب تلك القضايا من حيث أولويتها وأهميتها والخروج بمقترحات وحلول مثمرة.
لماذا لا يتم تعميم هذه الثقافة حتى تصبح ديدننا في كل جلساتنا وسمراتنا؟ لماذا لا نضرب بيد من حديد كل من يريد حرف هذه الجلسات عن مسارها المفروض أن تكون عليه ليعمها بكل أسف القيل والقال والغيبة والنميمة والبهتان والافتراء والاستهزاء بالآخرين و(التنكيت) على الناس؟ لماذا لا نلمس دوراً للمثقفين الذين يمعنون في إغراقنا في بحور استعراضاتهم اللغوية والثقافية دون أن يولوا هذا الواقع شيئاً من اهتماماتهم.
ما قلته ليس ثورة على المجتمع بقدر ما هو حب عارم وشديد ورغبة جامحة في السعي لانعتاقتنا من تلكم السلبيات والنقائص، بحق هي كلمات صريحة وهموم بالقلب مكظومة أحببتُ أن أنثرها بين أيديكم، وإن علمتُ أن ما قلت سيوغر عليّ بعض الصدور وسيؤلب عليّ بعض الإخوة ممن لن يفهموا كلامي، ولكن هي الصراحة، والقلب مفتوح والنفس في وسع لأن تسمع كل نقاش وتستقبل كل ردود، ويحبذا من الإخوة في هذا المنتدى الرائد أن يعملوا على تثبيتها لكي تنال حقها من النقاش ويتم إشباعها حواراً وتفاعلاً وهذا ما أتعشمه من الجميع.
لا أخفيكم سراً أنه تنتابني في كثير من الأحيان وساوس أو مشاعر سلبية تهتف بي: لماذا تتعب نفسك في كتابة كل هذا؟ أنت لن تغير من الوضع شيئاً وهذا لن يجدي نفعاً مع قوم قد استحكمت فيهم هذه السلبيات وأطبقت على القلوب؟ لكني أنفض عن نفسي كل هذا وأذكر قول الله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر…) ويتنامى إلى مسمعي طيف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، وأترنم بقول الشاعر:
وما من كاتب إلا سيفنى ***** ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء ***** يسرك في القيامة أن تراه