لا شك أن المشهد التونسي في الأيام الفائتة كان مشهدا دراميا مكتنزا.. المعاني كانت تنثال من كل زوايا المشهد، القراءات حافلة، الصور المقبلة من هناك مكتظة بغير قليل من الرمزية.
عدد من الصور تداعت من هناك، وتداعى إثرها كم هائل من المعاني والدلالات والرموز. عدد من الصور استوقفني في المشهد المتكامل:
الصورة الأولى بالطبع كانت صورة الشاب محمد البوعزيزي تتثعب منها ألسنة اللهب، مغطاة بقروحها المشعة وأنينها الفجائعي. محمد البوعزيزي أيقونة الإنسان العربي المكتظ بالإحباط واليأس والنار والغضب على حدٍّ سواء، الإنسان الذي أصبح إشعال جسده وسيلته الوحيدة للتعبير عن قهره واعتراضه واحتجاجه على ظروفه المعيشية والسياسية في الآن ذاته، الإنسان الذي يرى أن كل السبل المؤدية إلى الحياة مسدودة في وجهه، وحدها السبيل المؤدية إلى الموت ممهدة ومعبدة ومفروشة ببساط من نار. في الصورة رسالة قوية مفعمة بالدلالات على الرغم من صمتها القاتل.
الرسالة بالطبع قد وصلت إلى من أرسلت إليه حسب تعبير «حاكم قرطاج»: «وصلت الرسالة». لكن استجابة قصر قرطاج للرسالة كانت متأخرة جدا، لم يعد من الممكن تلافي الحريق الذي اندلع في جسد البوعزيزي، ولا الحرائق الكثيرة التي اندلعت في الجسد التونسي، ولا الشرر الذي تطاير من هناك إلى بعض أطراف الجسد العربي الكبير. يخطئ من يظن أن الصورة موجهة إلى «حاكم قرطاج» وحده أو من يظن أنها موجهة إلى غيره من الحكام المستبدين. الصورة أعمق مغزى من مجرد اختصارها في رسالة إلى حاكم؛ لأن الحاكم مهما عظم ما هو إلا رقم في مصفوفة من الأرقام المهولة في منطقتنا التي تحتاج أرقامها إلى مراجعات عدة. لقد عرت الصورة معادلات لا متناهية من الأرقام، ليس في الحقل السياسي وحده، على أهميته، بل في حقول اجتماعية وثقافية واقتصادية طاغية الحضور في هذا الجزء من العالم. حتى الصورة الأخرى للبوعزيزي التي كانت ملتفة في الشاش الأبيض في المستشفى وإلى جوارها «حاكم قرطاج» الذي بعثت الصورة / الرسالة أصلا إليه كانت مكتنزة بالرموز. هل أرادت الصورة أن تجمع المرسل والمرسل إليه في الإطار ذاته؟ هل أرادت الصورة الملتفة بالشاش الأبيض أن تقول للصورة الأخرى إلى جوارها: إن قدرتي على اجتراح فعل الموت هي أكبر من قدرتك على اجتراح فعل التغيير، وإن «إقدامي» على فعلي سببه «إحجامك» عن فعلك؟ هل كانت الصورة تريد أن تحاكم «الحاكم» محاكمة رمزية على يد الجثة الملقاة على السرير؟ وهل تقول الصورة: إن الحاكم جاء زائرا مطمئنا على المحكوم، أم أنه جاء طالبا العفو، مستجديا بقايا حياة بقايا حكم؟ وهل جاء «الزين» ليعيد للبوعزيزي في الصورة عربته التي صادرتها بلدية بوزيد، أم جاء ليقايض البوعزيزي عربة، أصبحت رمزا عالميا، بكرسي أصبح من غير سلطات أو رموز؟
الصورة الثانية في إطار مشهد الصور التونسية المنثالة خلال الأيام الماضية هي صورة سيدتين إحداهما محجبة والأخرى من دون حجاب، وقد اتحدت وجهتاهما، وانضفرت صرخاتهما في نفير واحد. تعضدها صورة أخرى إلى جانبها لشاب يحمل صورة «جيفارا» ويصرخ: «الله أكبر». هل أرادت الصورة توحيد مكونات الفعل الشعبي للوصول إلى نهاية المشهد؟ هل أرادت الصورة إخراج «نسخة إسلامية» من جيفارا، أم أرادت عولمة الفعل الإسلامي ليصبح جيفارا جزءا من النسيج الصارخ في برية الأحلام والثورات، أم أنها البوتقة الكبرى التي صهرت كل عناصر الصورة ووجهتها الوجهة التي تتوخى منها إذابة الفوارق الشكلية في خضم الهدير الذي أطلقته الحناجر الصارخة التي خرج صراخها مضرجا بدماء وقروح الجثة الراقدة هناك على سريرها تحاكم أنظمة الحكم والمعارضة على حد سواء، تحاكم الناس والأشياء والظروف التاريخية التي سلبت منها عربتها ولقمتها وروحها في الآن ذاته؟ هذه الصورة تشي بواحدية الفعل الشعبي التونسي في جوهره وعفويته بعيدا عن التنظيمات السياسية والتيارات الفكرية التي تحملها نخب مختلفة يسارية كانت أو إسلامية، قومية أو ليبرالية، نخب انعزلت بعيدا عن محمد البوعزيزي وتركته يتضور جوعا أو يشبع نارا، لا فرق.
الصورة الثالثة هنا هي صورة مواطن تونسي شاء حظه النكد أن يقع فريسة لمجموعة من الجنود بعد أن أوقعه أرضا أحد العناصر الأمنية الذي كان يتزيا بزي مدني، ثم انهالت عليه الركلات والهراوات من كل صوب وعلى كل مكان من جسده النحيل الذي شبع جوعا وإهانة وركلات. لست أدري لماذا دعت إلى ذهني هذه الصورة صورة أخرى غير تونسية، هي صورة فتاة إيرانية شاء حظها النكد أيضا أن يوقعها تحت رحمة هراوة أخرى وركلة أخرى أمام عدسات التلفزة العالمية أثناء احتجاجات الإيرانيين على نتائج الانتخابات الأخيرة هناك. الفارق الوحيد بين الصورتين، مع توحد الجوهر الهمجي لهما، هو أن الهراوة التونسية كانت هراوة «علمانية» تتوخى الظهور بالمظهر العصري، بينما الهراوة الإيرانية هي هراوة «إسلامية» تتوخى الاتشاح بجبة آيات الله العظام. وإذا كانت رسالة الصورة الثانية المذكورة في هذا السرد توحي بواحدية الفعل الشعبي العفوي في جمعه بين صورة «جيفارا» وصرخة «الله أكبر»، فإن الصورة الثالثة توحي أيضا بواحدية «الفعل السلطوي» في بطشه وجبروته ووحشيته وإن ظهر بلبوس «إسلامي» في طهران أو «علماني» في تونس.
ترى ما مصير الشاب التونسي الذي ذهب به الجنود؟ وما دلالات الصورة التي شوهد صاحبها وهو يحاول دفع الهراوات عن وجهه ورأسه بيديه العاريتين؟ هل هذه الصورة تنفتح على معاني تعرية القبح والوحشية والقمع، أم أنها كانت أيضا صرخة استغاثة في برية الكبت والديكتاتورية والظلام؟
صورة أفراد من الجيش التونسي يحيون المتظاهرين، وصور بعض المتظاهرين يعانقون بعض أفراد الجيش لها رمزيتها الخاصة، لا تمر هذه الصورة من دون أن تبقي بعضا من رمزيتها على حواف الشاشة المكتظة بالصور والرموز. تبعث الصورة بمعاني الانعتاق النسبي بالطبع، انعتاق المكبلين، سواء أكانوا من المواطنين العاديين أم من الجنود المحسوبين على النظام وهم أصلا من ضحاياه. الصورة تريد أن تقول: إن العسكري الواقف على ظهر الدبابة هو أقرب إلى المدني الذي يمشي إلى جانبها، وإن أداة القمع ربما كانت أولى بالرأفة والتعاطف من المقموع نفسه. إنها تشي بحس إنساني عميق يعتمل تحت مظاهر القسوة البالغة في الجنود الذين كانوا يبكون في الصورة من دون أن ندري نحن هل يبكون على ما سلف أم يبكون خوفا مما هو آت أم أنهم يبكون من فرحتهم لأول مرة أتيحت لهم الفرصة للبكاء! مهما كان من أمر، فإن بكاء الجنود ذو دلالة خاصة، دموعهم غير الدموع، ورمزيتها غير بقية الرمزيات. في الصورة يبدو حذر «المدني» الممسك بصرخته ورغبته في تحييد «العسكري» الممسك ببندقيته، ورغبة الاثنين في العناق بعد طول الفراق.
الصورة الأخيرة في المشهد التونسي هي صورة ذلك الذي استقل طائرة وركب بساط الريح متجها إلى المجهول - وإن كانت جهته معلومة - لأنه خرج من المشهد ولا أحد يدري أي مشهد آخر سيحوي صورته. هذه للأسف هي الصورة الوحيدة التي لم نتمكن، نحن المشاهدين، من الاطلاع عليها، والتي ربما لو ظهرت لفازت بقصب السبق على بقية الصور المذكورة. ومن يدري؟! ربما شاءت الأقدار أن تكون رمزية هذه الصورة في احتجابها، ربما كان حضورها الطاغي بسبب من غيابها عن مشهد الصور.. ألا يقول أهل الشعر: إن الصمت أحيانا أبلغ من الكلام؟ وكذلك الأمر هنا، الصورة الغائبة ربما كانت أبلغ من الصور الحاضرة؛ حيث الغياب هنا هو رمز الحضور الطاغي المكتنز بالرمزيات البعيدة.
ليس لنا حق تحليل الصورة الأخيرة الأهم والأخطر في مشهد الصور، لسبب بسيط هو أننا لم تُتَح لنا فرصة رؤيتها. غير أنه لنا الحق في الخوض في تداعيات غيابها عن المشهد الفني التونسي الذي يعكس غياب صاحبها عن المشهد السياسي التونسي. أسدل الستار على الصورة وصاحبها مؤقتا على الأقل، غير أن المقبل من الأيام كفيل بتقديم الصورة وإعادة إنتاجها للمشاهد العربي وحينها ستجد الأقلام فرصتها في اكتناه الغموض وستمارس هوايتها في التحليل والتعليق.
* كاتب يمني مقيم في بريطانيا