تقع صنعاء على هضبة وسط جبال اليمن الشاهقة، ويبلغ ارتفاعها نحو 2150 مترا فوق سطح البحر، تتميز بجو بديع في اعتداله، ورغم أن الشمس ساطعة عليها معظم أشهر السنة فإن درجة الحرارة فيها لا تزيد عن 30 درجة صيفا، ولا تقل عن درجتين تحت الصفر في الشتاء. ويستمتع سكانها وزائروها في فصلي الربيع والصيف بالغيوم وقطرات المطر المنعشة..
يقول أديب اليمن وشاعرها الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح عن صنعاء في مفتتح ديوانه «كتاب صنعاء»: «كانت امرأة، هبطت في ثياب الندا ثم صارت مدينة». حقا إنها صنعاء «عاصمة الروح» كما يسميها شاعرها الذي هام بها لدرجة أنه لا يغادرها إلا في النادر إلى بعض القرى والأرياف القريبة منها. هي إذن «عاصمة الروح» كما سنرى من خلال هذه الإطلالة البسيطة على هذه المدينة التي تعد من أقدم المدن العربية والتي يقال إن تاريخ بنائها يعود إلى سام بن نوح عقب الطوفان. ولذلك كان من أسمائها «مدينة سام» نسبة إلى من يرى بعض القدماء أنه مؤسسها الأول. ولا تتفق المصادر التاريخية حول تاريخ تأسيس المدينة لأول مرة، ولكنها تؤكد أنها كانت إحدى مدن دولة سبأ اليمنية في الألف الأول قبل الميلاد.
وقد عرفت صنعاء أسماء أخرى مثل «أزال» الذي ورد في العهد القديم لأحد أبناء يقطن بن عار الذي يقال إنه حفيد سام بن نوح. وحسب «الموسوعة اليمنية» فإن جذر الاسم (آزال) موجود في اللغة اليمنية القديمة بمعني القوة والمنعة. أما التسمية «صنعاء» فإنها مشتقة من الجذر (ص ن ع) بمعنى تحصن (والمصنعة هي القلعة أو الحصن في لغة اليمن القديمة) ولعل ذلك يعود إلى تحصنها وراء سورها الذي يعد من أبرز معالمها التاريخية، وهناك من يعيد تسمية صنعاء بهذا الاسم إلى كثرة صناعاتها في الأزمنة الغابرة، وآخرون ذكروا أن صنعاء اسم لأحد أحفاد سام بن نوح المؤسس الأول لهذه المدينة حسب بعض المصادر القديمة.
وقد كانت صنعاء على مدار تاريخها إما عاصمة لليمن أو أهم مدينة فيه. وكان ذو نواس آخر ملوك الدولة الحميرية قد اتخذها عاصمة لملكه في مطلع القرن السادس الميلادي، وكذلك جعلها الأحباش وبنوا فيها الكنيسة الشهيرة (القُلّيس) التي يقال إن أبرهة بناها لتكون قبلة العرب وتصرفهم عن الكعبة. الأمر الذي أغضب أحد العرب الذين غضبوا لكعبتهم، فما كان منه إلا أن تبول في الكعبة الجديدة التي أراد بها أبرهة أن يصرف أنظار العرب بها عن مكة، غضب أبرهة وجيش جيشا لهدم الكعبة في مكة في قصة معروفة وردت في القرآن الكريم وانتهت بهلاكه وجيشه في الحجاز بالقرب من مكة.
وقد دأب اليمنيون على ترديد عبارة قديمة تقول: «صنعاء حوت كل فن» وهذه العبارة صادقة ودقيقة إلى حد كبير، هناك الغناء الصنعاني، والأكلات الصنعانية، والرقص الصنعاني، والملابس الصنعانية، وهناك فنون العمارة الصنعانية، وهي مدهشة، متنوعة، منسجمة مع البيئة التي بنيت منها. فن العمارة الصنعاني عالم خارج من سهوب الأساطير، كأن صنعاء مدينة خرافية لولا أنك تشاهد عماراتها الشاهقة، وطرازها المعماري الفريد. أبنية صنعاء تبدو تحفا فنية غاية في الروعة، جداريات رسمها فنانون عباقرة، أو أنها قصائد لشعراء قادمين من أدغال الأزمنة الغابرة، بل هي نقوش حميرية عجزت عبقريات الفن عن فك رموزها الموغلة في جمالها ورمزيتها. مباني مدينة صنعاء القديمة القائمة حاليا تعد من أقدم «ناطحات السحاب» في العالم حسب ما يحدثك اليمنيون. وأفادت دراسة إحصائية نفذت في 2008 أن عدد منازلها يبلغ حاليا 8 آلاف منزل تتوزع في 40 حيا، في كل واحد منها متنفس ومسجد وبستان، ويبلغ عدد سكانها 90 ألف نسمة.
التجول في صنعاء القديمة يجعلك تنتقل بين أزمنة وأمكنة مختلفة، هنا طبقات من الزمن مضغوطة في مكان واحد، وتنويعات من المكان تعزف على جدران المدينة التي ينظر إليك اليمني مفتخرا وهو يحدثك عنها أنها «مدينة سام» التي بناها أحد أبناء النبي نوح عليه السلام. تصدق وأنت تتجول في صنعاء القديمة أن للمكان شاعريته الخاصة، وفتنته التي تبعث في أعصابك غير قليل من الخدر اللذيذ الذي ينتابك أول ما تدلف من بابها الرئيسي المسمى «باب اليمن» الذي يعد مدخل صنعاء من الجهة الجنوبية، في مقابل «باب شعوب» الذي يعد المدخل الشمالي لهذه المدينة التي كانت تتدثر بسور طويل بقي منه بعض أجزائه الجنوبية متماسكة، ولها عدد من الأبواب التي كانت تغلق عند حلول الظلام على ساكنيها خشية السرقات والثورات.
هي إذن صنعاء التي دأب العرب على تصويرها غاية الغايات ومنتهى المآرب في قولهم المأثور «لا بد من صنعاء ولو طال السفر ولو تحنى كل عود وانكسر» في إشارة إلى عظمة هذه المدينة التي كانت مهوى الأفئدة وغاية الأبصار. تدرك وأنت تدخل بابها العظيم «باب اليمن» أنك تلج عالما آخر وزمنا مختلفا، غير أنك ترى لؤلؤة ضاعت أخبارها في خضم الأخبار السياسية وأخبار الحروب التي تأتي من اليمن والتي أنست العربي أو أعطته انطباعا أن اليمن ليس فيه إلا الحروب والاضطرابات.
وبين باب اليمن جنوبا وباب شعوب شمالا (طول صنعاء القديمة الذي لا يتجاوز كيلومترين) بين هذين البابين يوجد (1911) حانوتا (محلا تجاريا صغيرا) بحسب تعداد الجهات المختصة أي دون ذكر الحوانيت العشوائية التي تنتشر كثيرا داخل سور صنعاء القديمة دون تراخيص أو وثائق من الجهات المختصة في البلدية وأمانة العاصمة وهيئة الحفاظ على مدينة صنعاء التاريخية. وبحسب دراسة للدكتور فرانك ميرمين أستاذ علم الاجتماع في معهد الهندسة المعمارية في فرساي (فرنسا) (نشرها موقع إيلاف) كانت أسواق صنعاء القديمة تمثل على المستوى الإقليمي مركزا مهما للإنتاج الحرفي ولتجارة المنتجات الريفية..
إلا أن تأثيره التجاري اكتسب بعدا دوليا لأن المدينة شاركت في تجارة القوافل التي كانت تربط موانئ البحر الأحمر والمحيط الهندي بشمال شبه الجزيرة العربية. وتقول الدراسة إن شهادة (ابن رسته) في القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) تكشف أن سوق صنعاء كانت تصدر الجلود والأحذية والسجاد والأردية المختلفة والآنية المختلفة والعقيق اليماني والأحجار الكريمة.. وكانت القوافل تقدم من الشام ومن بلاد فارس محملة بالذهب والحرير والتوابل والعطورات والأقمشة لتباع في أسواق صنعاء القديمة. و«في صنعاء القديمة البيوت شاهقة، ولكنها ليست مبنية من الاسمنت، بل بالطين والحجارة، والشوارع كلها مرصوفة لكن ليس بالإسفلت، بل بحجارة عريقة اقتطعت بمشقة من الجبال المحيطة..
أما الأسواق فهي كما هي منذ مئات السنين: دكاكين صغيرة متراصة على جنبات شوارع ضيقة. الباعة والمتجولون جزء أصيل من نسيج المكان، يرتدي معظمهم الزي اليمني التقليدي: ثوب وعمامة ملونة وخنجر في وسط البطن للرجال، ورداء أسود أو ملاءة حمراء بنقوش ملونة للنساء، والسيادة هناك للسلع والمنتجات التقليدية. مزيج فريد من الأصوات والروائح والألوان والمشاهد التي تعيد صياغة الماضي وتضعه في قلب الحاضر».
ومنازل المدينة متشابهة إلى حد كبير، و«هي ترتفع لعدة طوابق يتراوح عددها بين 5 إلى 9 طوابق، وأبرز ما يميزها من الخارج هو النقوش البيضاء التي تزين المبنى من جميع جوانبه بمادة الجبس، والنوافذ الخشبية التي تعلوها نصف دائرة من الجبس معشقة بالزجاج الملون تسمى (القمرية) واستخدم الحجر في بناء أساسات منازل صنعاء والطابقين الأرضي والأول منها، أما الطوابق العليا فهي مبنية من الطوب المحروق واستخدم الخشب بين مداميك البناء وفي السقوف والأرضيات». وتقسم أدوار المنزل بالداخل تقليديا ليقوم كل منها بوظيفة خاصة، فالدور الأرضي كان يستخدم سابقا لحفظ المواشي، أما الآن فهو يستخدم غالبا كمخزن للمؤن. أما الدور الأول ففيه غالبا (الديوان) وغرفة أو صالة المناسبات، فيما يخصص الدور الثالث للنساء والأطفال، تليه الأدوار المخصصة للرجال. وفي أعلى المبنى يقع (المفرج) وهو غرفة تخصص لمقيل الرجال وتعاطي القات، ويُحرص على أن تكون نوافذها عريضة واسعة ليستمتع الجالسون بمشاهدة الحقول والبساتين والمنظر من حولهم».
ومن أسواق صنعاء التاريخية سوق الخناجر التي تعتبر من أكثر أسواق صنعاء القديمة شهرة وأهمية نظرا للرمزية الخاصة للجنبية اليمنية عند اليمنيين ولدلالاتها الاجتماعية والاقتصادية بل والجهوية في أحيان كثيرة. وفي صنعاء سوق للمعادن والحلي وأسواق للمنسوجات والمنتجات الحرفية وعلى الرغم من وجود بعض المنتجات العصرية في أسواق صنعاء القديمة فإن الطابع التقليدي هو السائد في عرض وتنظيم السلع في هذه الأسواق. وتوجد في صنعاء ما يسمى (السمسرة) وهي أماكن للمبيت، يبيت فيها المسافرون من التجار ورواد هذه الأسواق، وتكون مزودة بوسائل الراحة والترفيه لضمان طيب إقامة روادها.
يحيط بصنعاء سور عظيم يعد أحد أهم معالم هذه المدينة العريقة، وهو سور عال مبني من الطين كان يحيط بصنعاء القديمة من كل أنحائها وتوجد به عدة بوابات ضخمة، قيل إن عدده كان سبع بوابات تغلق عند حلول الظلام، ويقال إن السور بُني لأول مرة في القرن الثاني الميلادي، ثم تعرض للخراب وإعادة البناء عدة مرات في أزمان لاحقة. وهو الآن قائم في شكل أخاذ حول بعض أجزاء المدينة القديمة بعد أن تم ترميمه وتجديده بدعم من منظمة اليونيسكو.
ومن أهم معالم صنعاء القديمة عدد من الجوامع التاريخية التي يأتي في مقدمتها الجامع الكبير الذي بني في عهد النبي محمد (ص) وبأمر منه، بالإضافة إلى عدد من الجوامع التي بنيت في فترات تاريخية مختلفة أهمها الجوامع التي بنيت أيام الأتراك العثمانيين في اليمن.. وتشتهر صنعاء كذلك بقصر غمدان الذي ورد ذكره في النقوش القديمة، منذ أوائل القرن الثالث الميلادي، والذي ذكر الهمداني أن من بناه هو (إل شرح يحصب) ملك سبأ وذو ريدان.
وهو قصر ضخم اتخذه الملوك السبئيون مقرا لهم، ثم تهدم على مراحل حتى تهاوى ما تبقى منه في عهد الخليفة عثمان بن عفان. لكل ما تتصف به صنعاء القديمة من مميزات تاريخية فريدة أدرجت (اليونيسكو) في 1986 المدينة ضمن مدن التراث العالمي، وشكلت لجنة دولية للحفاظ عليها، ودعمت إقامة العديد من المشاريع والمدارس والمعاهد الفنية التي تهدف لتخريج فنيين متخصصين في الحفاظ على هوية المدينة ومعالمها الأصلية. وقامت اليونيسكو ومنظمة المدن العربية الإسلامية بالتعاون مع اليمن في تنفيذ حملات للمحافظة على صنعاء القديمة، شملت ترميم سور المدينة والكثير من بيوتها ومبانيها وشوارعها ومزارعها.
ودعمت حملات نفذتها السلطات اليمنية لإزالة الأبنية الأسمنتية والمستحدثات التي لا تتفق وصفات المدينة المعمارية والثقافية التاريخية، وتؤدي إلى تشويه صورتها التراثية المتميزة. غير أنه كما يقول العرب «ما راءٍ كمن سمع»، ولكي يكون القارئ صورة قريبة من حقيقة صنعاء، فإنه يلزمه السفر إلى مراتع الخيال، ومسارح الجمال هناك في المدينة التي قال العرب في شوق عظيم إليها «لا بد من صنعا ولو طال السفر».