نزل الطلبة إلى الشارع، لا بد من حل. يقول الطلبة: لا بد من رحيل النظام. يقول النظام: الرحيل عن طريق صناديق الاقتراع ويدعو للحوار. المعارضة ترحب بالحوار، المعارضة تقول لا بد من ضمانات للحوار..
النظام يرى أن الضامن هو الشعب، المعارضة تريد الدوحة أو واشنطن، الدوحة منشغلة بدولة أخرى حتى الآن، واشنطن تمسك رأسها من صداع مفاجيء ألم به من جهة الشرق الأوسط، المعارضة تقبل بالحوار ثم ترى أن النزول للشارع أفضل لمستقبلها السياسي، الشعارات المطالبة بالانفصال هدأت أو هدئت مع الفارق، الحوثي يخرج من دهاليزة في مظاهرات سلمية لتغيير النظام ، وكأن ما كان يمارسه الحوثي مع النظام طيلة السنوات الماضية مجرد ألعاب نارية،(هل ذكرني خروجه بخروج القذافي في مظاهرات ضد الحكومة الليبية!).
وحده رجل الشارع، وحده طالب الجامعة، وحده اليمني غير المسيس، اليمني البسيط الذي انسفحت كرامته وكبده في الشوارع وعلى الأرصفة، وحده ذلك الذي يزعم الكل وصلاً له وهو لا يقر لأحد بالوصال، وحده الصادق في جوقة الساسة صناع الشعارات وراكبي الموجات. وحده الذي تتنازع دمه الشوارع الغضبى والبلطجية وقبائل التتار، وحدهم المضطهدون لا يمثلون دوراً على خشبة المسرح الكبير.
ليس عندي شك في أن التغيير قادم في اليمن ، لست متأكداً من طبيعة هذا التغيير الذي يبدو أنه أصبح قدرا المنطقة العربية اليوم، قدراً محتوماً لا رجعة عنه، التغيير كلمة خرجت من شفة الجماهير وما خرج من بين الشفاة يصعب استعادته. الحزب الحاكم في اليمن، قمة الهرم السياسي في البلد يعرف اليوم أن التغيير اصبح حتمياً ليس في اليمن وحده، بل في المنطقة برمتها. كيف سيكون التغيير، متى سيحين؟، ما حجم التضحيات التي يتطلبها، كم يكفي من المعانات لخروج المولود، من سيدفع ثمن التغيير؟ هل سيظل التغيير سلمياً في بلاد الإيمان والحكمة، هل سينحرف لنرى سيناريوهات أخرى؟ ما هو مستقبل المشروع الإمامي في ظل التغيير، ما مستقبل المشروع الانفصالي؟ من سيستفيد من التغيير؟ من سيركب الموجة، ويحرف المسار؟ ألم ينحرف مسار الثورة؟ ألم ينحرف مسار الوحدة؟ ما الضامن أن التغيير القادم لن ينحرف؟ ما رأي الخارج؟ أين سيقف السادة حمد وعبدالله وأوباما؟ وهل ستكون لندن معنية بالتغيير؟ دعوني أطرح الأسئلة لأثير بها قلق الاجابة وحيرتها وضبابيتها.
ثم ماذا؟
وقفت في الفترة الماضية بكل وضوح-واعتز بموقفي- ضد الحوثيين بما يمثلونه من عقلية رجعية تتنافى أصلاً مع قيم الحرية والعدالة والمساواة، ناهيك عن المباديء الجمهورية. وقفت موقفي هذا لأني أعلم طبيعة هذا المشروع مهما حاول أن يغطي أهدافه ببريق ألفاظ ناطقه الرسمي وبعض عنتريات زعيمة. لا تزال هذه قناعتي التي أؤمن بها حتى ولو رأيت "السيد" يجوب شوارع صعدة في مظاهرات سلمية لا يحمل فيها حتى "جنبيته".
لأن الخلل ليس في الوسيلة-من وجهة نظري- الخلل في الفكرة من أساسها، ولهذا كنت حريصاً على وضوح رأيي في ذلك. عاتبني قوم، ورغبني آخرون، وهدد السواد الأعظم، اتهمت بالعمالة للنظام تارة وللسعودية تارة أخرى، وصدرت صحيفة حوثية النفس خبراً مضحكاً عن صدور قرار جمهوري بتعييني رئيساً لجامعة صعدة. وفوق ذلك فقد وظفتني المخابرات الأمريكية والإسرائيلية لتقويض أمن واستقرار اليمن وضرب المسلمين وآل البيت والأكثر سخرية أنني أنسق مع الهابيين والقاعديين، لا بل إنني أتلقى تعليماتي من توماس فريدمان واليهود، وغير ذلك من تهم جوقة مكتب "السيد" دام ظله الشريف.
لم ألتفت لشيء من ذلك، ومع كل تهمة، كنت أزداد يقيناً بخطورة المشروع على البلد. قيل لي إن الحرب لعبة بين النظام والحوثي، وأنها تصفية حسابات، لم يعنني ذلك، ولم أكن أرى إلا أنني معني بفضح خبيئة ذلك المشروع الذي أبريء أكثر أنصار الحوثي من الاعتقاد به وإن كانوا مؤيدين للحوثي لاعتبارات أخرى. لم أستسغ مشروع الحوثيين لأني أرى أن اليمن يراد لها أن تكون إيرانية من خلال هذا المشروع، لم أستسغ المشروع الحوثي لسبب بسيط هو أنني لم أجد نفسي فيه. هذا رأيي في هذا المشروع وأتمنى صادقاً أن أكون مخطئاً فيه.
وقفت كذلك ضد المشروع الانفصالي، لأنه من وجهة نظري مشروع عدمي تدميري، مشروع يبحث عن المشاكل لا عن الحلول، مشروع انفعالي قائم على الغضب، قائم على الشحن العاطفي. كنت-ولا زلت أرى خطأ القائلين بالانفصال، لأنني كنت أرى أنه من الصعب علي قبول فكرة الحصول على فيزة دخول أو تخطي الجدار الفاصل بين الأمريكيين والبنميين لزيارة عمي أو خالي أو أحد أقاربي على الضفة الأخرى من وادي عين في مديرية حريب- محافظة مأرب. فكرة مرعبة، ملتبسة، غامضة، لم أستطع قبولها، كنت أسمع خطابات زعامات الحراك فأحس بالغربة، أحس أنهم ليسوا مني ولا أنا منهم، كنت أحس انهم يحاولون أهدار أحلامنا، وذبح مستقبلنا، كنت أرى أن الحراك انحرف عن مساره السليم، في المطالبة السلمية بالحقوق المشروعة، كنت أرى أنه إنما يستغل معاناة الناس لتحقيق أغراض قياداته، ولذلك اختلفت مع مشروعه واتخذت موقفي منه باكراً.
كنت أرى أن أعداء سبتمبر من الإماميين والفاسدين في النظام، وأن أعداء أكتوبر من بقايا السلاطين، هم الذين يتصدرون المشهد في البلد، شعرت بغير قليل من الاحباط والأسى والغبن. فريق إمامي يحاول وأد الجمهورية وآخر سلاطيني يحاول وأد الوحدة، وفريق أخطر من الفريقين الآخرين غارق في الفساد، ليس على أجندته وحدة أو جمهورية، هذا الفريق يستقي مبادئه من شخصية تاجر البندقية في مسرحية شيكسبير الشهيرة.
ماذا أريد أن أقول؟
أردت أن أقول إنني غير نادم على مواقفي ضد المشروعين الحوثي والانفصالي، ولو انتصر المشروع الحوثي-لا سمح الله-فسأسخر قلمي لهزيمته، ولو انتصر المشروع الانفصالي-لا قدر الله-فسوف أبدأ عملاً طويلاً للمطالبة بإعادة تحقيق الوحدة اليمنية. أريد أن أقول إن مواقفي تلك تحتم علي اليوم ألا أقف يوماً ضد طموحات البسطاء، الذين خرجو سلماً ينادون باستعادة بلدهم من يد الانفصاليين والحوثيين والفاسدين، الذين شوهوا أحلامنا ولم يكتفوا بسرقة الحاضر بل خططوا لسرقة مستقبل هذا البلد الجميل، أشعر بالفخر وأنا أرى من يسعى لاستعادة بلادنا وأحلامنا وابتساماتنا التي مات البردوني العظيم قبل أن يراها. أشعر بالفخر وأنا أرى الشباب قد وضعوا اليمن بوحدتها وجمهوريتها وثورتيها نصب أعينهم. أرى البسطاء يطالبون بحقوقهم فأهمس لنفسي هؤلاء هم أهلي ، هم مني وأنا منهم.
وعلى الرغم من أنني لست في مقام من يعطي وصية، فإن الأعوام الماضية تجعلني في قلق من قادمات الأيام. على الشباب أن يعلموا أن الكثير سوف يصفقون لهم بالنهار ليطعنوهم بالليل، وأن الكثير سوف يحاولون ركوب الموجة لجني ثمرات المستقبل، لكن الشيء المؤكد أن شلة الفاسدين لن تكون مع مطالبات الشباب، ولن تقتنع بنهجهم، وأنهم سيحرضون القيادات السياسية والعسكرية لضرب المسالمين، كذلك أصحاب نظرية الحق الإلهي، لن يؤمنوا بأن الحق في الحكم للشباب ما لم يكونوا من دماء مقدسة. الانفصاليون لن يخلصوا في مساندتهم لأنهم يغردون خارج السرب اليمني الواحد، المعارضة التقليدية لم تصنع الحدث ولكنها ستحاول أن تجعل الحدث يصنعها. الفاسدون في السلطة أو في المعارضة سيحاولون بكل ما أوتوا من قوة إعاقة حركة التاريخ. المخلصون في السلطة أو في المعارضة سيحاولون الوصول للحلول. كثير من المتقفين سيحاولون ممارسة قدراً من الوصاية الأبوية التي لن تنفع.
أنصح بضرورة تشكيل لجنة تنسيق من المنظمين للمظاهرات، أنصح بضرورة تشكيل لجنة من نزهاء السلطة والمعارضة للنزول إلى الشباب في صنعاء وعدن وتعز والحديدة وغيرها من المدن. اقترح أن تفتح أبواب قصر الرئاسة لممثلي الشباب بدلاً من الوجوه التي أنا على يقين من أنها ما جاءت إلا للمغنم وأنها لا يمكن أن تتحمل المغارم ولا أن تخلص في الولاء.
فيما سبق بعض القلق، بعض الخوف، بعض الوجع، هل أقول بعض الأمل؟
ترى إلى أين يتجه اليمن؟ ترى من يملك الجواب، ومن يجرؤ على الاجابة؟
*كاتب يمني مقيم في بريطانيا