بعد قيام الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر مطلع الستينيات؛ كان يفترض أنه بمجرد ذهاب الإمامة والاستعمار، سيهتدي اليمنيون إلى حلحلة أوضاعهم وترميم وجدانهم وإعادة تأهيل الهوية الوطنية بشكل تلقائي.. لكن اليمن، بعد التحرر من الإمامة والاستعمار شهد دورات خيبة وعنف، ربما كان آخرها حرب 94م. ولدى العودة والاستقراء السليم سنجد أن كل هذه المآسي ما كان لها أن تحدث لولا وقوع اليمنيين المتكرر في فخ الصراع على قمة السلطة.
لقد حرم اليمنيون من الحكم قروناً.. فأرادوا حين استعادته أن يحكموا جميعاً في وقت واحد!! يمزقهم الجزع.. وهذا نراه منذ الأيام الأولى لقيام ثورة سبتمبر في الشطر الشمالي التي سعى طرف فيها إلى إزاحة طرف آخر؛ بل إن البعض يذهبون إلى أن مهندس الثورة علي عبدالمغني جاءته رصاصة غادرة من الخلف..
نفس الشيء ينطبق على ثورة الكفاح المسلح ضد المستعمر في الشطر الجنوبي، حيث حال حب الزعامة دون أن تنصهر الفصائل المقاومة في بوتقة واحدة.. وأصر قادة الجبهة القومية على ألا ينصهروا في كيان تحريري واحد مع الفصائل التي كونت جبهة التحرير.. وهذه هي الثغرة التي نفذ منها الاستعمار، مشعلاً بين الطرفين حروباً دامية وصراعات مزمنة بعد أن أمر الجيش الاتحادي التابع له بمهاجمة جبهة التحرير قبل الجلاء بأيام..
حب الزعامة كان هو الآخر سبباً في انفراط عقد المجلس الجمهوري أيام الرئيس عبدالرحمن الإرياني في الشطر الشمالي، ومغادرة نائبه أستاذ الحركة الوطنية أحمد محمد نعمان إلى بيروت وتصريحه من هناك أن الشعب اليمني يريد عودة الإمام!!
كذلك كان حب الزعامة هو السبب وراء قيام مجموعة من قيادات الجنوب بالإطاحة بالرئيس قحطان الشعبي وحبسه حتى الموت.. وكان قحطان الشعبي مستشاراً للرئيس السلال منذ الأشهر الأولى لقيام النظام الجمهوري في صنعاء.. ولكن حب الزعامة أدى به إلى قبول مفاوضات أحادية مع البريطانيين أصبح بموجبها أول رئيس لدولة الشطر الجنوبي وانتهى به إلى السجن..
كذلك يعد حب الزعامة هو الفخ الذي وقع فيه أحمد الغشمي وقتل بموجبه الرئيس ابراهيم الحمدي.. تماماً كما كان حب الزعامة هو السبب الذي دعا بعض القيادات في الجنوب إلى تدبير الحقيبة المفخخة التي اغتالت الغشمي لتكون مبرراً للإطاحة بالرئيس سالم ربيع علي، وما لبث هؤلاء أن تنازعوا بينهم بدافع حب الزعامة، وبموجبه تم إزاحة الرئيس عبدالفتاح اسماعيل وصعود علي ناصر محمد الذي ركز بيده جميع السلطات، كرئيس للدولة، ورئيس للوزراء، وأمين عام للتنظيم السياسي الحاكم (الحزب الاشتراكي اليمني)، وما لبث حب الزعامة أن تسبب بمجزرة دامية في عدن 13يناير1986م الأمر الذي جعل اليمنيين بعد هذه السلسلة الدموية المريعة يبدون في نظر العالم متخلفين سياسياً.. لا يمكن الوثوق بهم؛ نستشف ذلك من العبارة التاريخية التي قالها الزعيم الكوبي "فيدل كاسترو" في المؤتمر العام للحزب الشيوعي السوفيتي 1987م.. حيث توقف أثناء مروره على وفد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بقامته الفارعة ولحيته الكثة وهيبته الطاغية.. قائلاً: "متى ستتوقفون أيها الناس عن قتل بعضكم البعض؟!!"
حب الزعامة أيضاص.. التي أخرت اليمنيين كثيراً، وجعلت تاريخهم الحديث محتوياً على بعض الشوائب والنقاط السوداء، لأقول إنه من تمام الإثراء لهذه الفكرة التأكيد على أن مآسي اليمنيين في هذا الصعيد لم يكن "أغلبها" ناجماً عن حب الزعامة من قبل الشخص الواقع في سدة الحكم بل من قبل الأشخاص المتربصين به. وفي كل البلدان التي تحترم نفسها والتي قطعت أشواطاً في مجال التنمية والديمقراطية والحضور الدولي عندما يصعد شخص ما إلى سدة الحكم بطريقة دستورية، فإن الآخرين لا يفكرون حتى مجرد التفكير في التآمر عليه. وبالتالي يتيحون له ولأنفسهم العمل من أجل البلد إلى مجيء الانتخابات تصعد حمى التنافس. لكن في اليمن منذ 93 وحتى اليوم موسم انتخابي ممتد!!
هناك نقطتان وحيدتان تخلى فيهما اليمنيون عن حب الزعامة؛ الأولى عندما تنازل القاضي عبدالرحمن الإرياني عن الحكم مقدماً بذلك خدمة جليلة لليمن بمجيء حركة 13 يونيو 1974م، التي أحدثت تغييراً حقيقياً في اليمن شماله وجنوبه.. أما المرة الثانية فكانت في العام 1990م التي قامت بموجبها الوحدة.. لكن رِدة سريعة حدثت بسبب حب الزعامة، أدت إلى أزمة وحرب 94م.
وعلى اليمنيين بعد كل هذه الدروس أن يستوعبوا أهمية أن يجعلوا حب الزعامة يسير فيهم بطريقة مقننة وسلمية.. وهو الأمر الذي تجسد نوعاً ما في الانتخابات الرئاسية الثانية سبتمبر 2006م. التي مارس فيها اليمنيون تنافساً سلمياً رائداً على مستوى المنطقة.. لكنه لم يخلُ من ميراث العنف اللفظي.. وكنت متألماً حينما سمعت المهندس فيصل بن شملان في حفل تكريمه من قبل المشترك يقول: "لن أبارك".. بنفس القدر الذي لم يكن لائقاً أن يقوم الرئيس الرئيس علي عبدالله صالح في المؤتمر الصحفي الذي سبق الانتخابات بيوم برفع صورة يظهر فيها منافسه فيصل بن شملان وهو إلى جوار حارسه "الذرحاني" المتهم بالإرهاب، والذي برأته المحكمة بعد ذلك من هذه التهمة..
الشعب اليمني لا يستطيع أبداً أن يسيطر عليه مستبد؛ وإنما يستطيع دجال أن يخدعه، وأجمل ما في علي عبدالله صالح أنه قدم نفسه باعتباره واحداً من أبناء هذا الشعب وليس شيئاً متميزاً عنهم. لا يحب بأن يمدح معصوماً أو خارقاً أو فلتة من فلتات الزمان، ولذا فمن الواجب على اليمنيين أن يخلصوا أذهانهم من بقايا التفكير الإمامي الذي يقوم على فرضية غباء الشعب ومواته، وعلى أي يمني يطمح إلى مقعد الرئاسة أن يعمل حساب الشعب باعتباره أصبح الرافعة الوحيدة إلى سدة الحكم.
• عادل الأحمدي
• من كتاب "الخيوط المنسية"