ازدهرت التيارات الإسلامية في تونس ومصر في بيئة سياسية بالغة القسوة، لم تكن تحظى بمنابر إعلامية مفتوحة ولا هيئات قانونية تنظم علاقتها بالناس. ولسوف تكشف الثورات الأخيرة كيف أن السياسات القمعية الخانقة هي بمثابة السماد بالنسبة للإيديولوجيات. وها هي الآن تلوح وكأنها على مشارف حيازة ثقة مجتمعاتها كما تقول بعض التوقعات المشوبة بالقلق.
وفي مقالة ثمينة ونافذة، يفسر الصحفي الأمريكي فريد زكريا القوة التي يظهر بها الإخوان عقب الثورة، بالطبيعة المجحفة لنظام الحكم الذي واظب على تقليص ومحاصرة كلّ نوع من أنواع النشاط السياسي. "المكان الوحيد الذي لم يكن بمقدوره إقفاله هو المسجد، الذي تحوّل بسبب ذلك إلى أن يكون مركز التحرّكات السياسية، وأن يكون الإسلام لغة الرفض والمعارضة"، يقول زكريا.
فريد زكريا يؤيد الفرضية التي تعزو المكانة التي تحتلها جماعة الإخوان في المجتمع المصري إلى كونها حُظّرت وقُمعت طوال عقود. "لكن حين يتعلّق الأمر بالمنافسة في سوق الأفكار يمكن للناس أن يخلصوا، كما هو الحال في عدد من الدول الإسلاميّة، إلى التفكير في مسائل من قبيل الفساد وأهلية الحكم والتطوّر الاجتماعي بدلا من الأحكام الإيديولوجية الكبيرة"، هكذا يستنتج زكريا.
على أن محنة إسلاميو اليمن مع المجتمع والثورة تبدو على العكس من ذلك تماما. كانت فكرتهم متداولة في سوق الأفكار بوضوح تام، وأتيحت لهم فرص التبشير بها، واختبارها. لقد ترعرع الإسلاميون هنا ضمن أجواء وسياقات سياسية تميزت بقدر جيد من الحريات السياسية لا سيما بعد الوحدة اليمنية، وامتلكوا منذ عقود إمكانية الوصول إلى عمق المجتمع وملامسته عن كثب بصورة معلنة أو خفية.
لكن من خلال ملاحظتي لأداءهم مؤخرا أوشكت على الاقتناع بأنهم لم يستثمروا امتياز التحرك شبه السلس الذي كانوا يتمتعون به كما يجب، وبما من شأنه نيل ثقة الناس وتأييدهم.
صحيح هم لا يزالون أخطبوط سياسي واجتماعي ضخم، وهو في نظري حتى هذه اللحظة أحد الضمانات القليلة المتبقية لاستمرار اليمن موحدا، لكنه اكتفى بالتغلغل على مستوى فئات وقطاعات معينة أكثر من غيرها، وهم بلغوا ما بلغوه استنادا إلى نشاط تنظيمي حركي يحاكي تجارب إسلاميو مصر السرية وينجحون، لكنهم أخفقوا في تقديم نموذج جذاب في حقل العمل المعلن بحيث ينتعش في الضواحي والأرياف ويعبر عن آمال وتطلعات المواطن العادي عبر خطاب مختلف واضح ومدروس يبتعد عن العموميات والسرديات الكلية، وبدون فرض قواعد أخلاقية عقائدية مصاحبة لهذا الخطاب. وصياغة معايير حزبية جديدة ترتكز على المواطنة بدرجة أساسية والكفاءة والموهبة، معايير دنيوية خالصة لا تحكم على الفرد من مراقبة المواظبة على صلاة الفجر مثلا أو التقيد الأعمى بسلم تنظيمي أرساه على الأرجح حسن البنا في ظروف لا تشبهنا في شيء.
يجب أن يكون الإصلاح حزب اليمنيين، لا حزب اليمنيين السنة ولا حزب الإخوان المسلمين حصريا، وأن يقوم ببلورة أجندة سياسية وطنية جامعة ومثل عليا تتخطى الانتماء المذهبي والجهوي. متى يأتي اليوم الذي نرى في الإصلاح قيادي من الجماعة الصوفية أو من الزيدية أو من الحوثية أو من التبليغ، يلتفون حول أفكار وبرامج وتصورات سياسية واقتصادية. حزب المواطنين الأحرار باختصار.
لقد ولى إلى غير رجعة ربما زمن تصادم الإيديولوجيات الكبرى. لقد تحركت موجات التحول الديمقراطي من الأبخرة المتصاعدة من بين أنقاض صراع النظريات الكلية، إنما وبالتزمن تحركت موجات الهويات الدينية والعرقيات وتفتحت أحلام الأقليات.
في اليمن، صعد الإسلاميون إلى واجهة المشهد السياسي على كاهل التنافس الذي احتدم مع المد الماركسي القادم من الجنوب. بعد حرب 1994 أهيل على هذا التنافس التراب. ووجد الإصلاح نفسه القوة الايديولجية الوحيدة النابضة بالحياة في البلد بأسره. كان هذا يعني أن وظيفة الإصلاح لم تعد ذات طابع عقائدي تجريدي، لقد عم البلاد نهاية التسعينيات فيض من التدين، واكتظت المساجد بالمصلين.
تغير مضمون الصراع، وكان يفترض أن يتغير معه تصور الفرد الإصلاحي لنفسه ورسالته وأولوياته. كانت الصلاة ومظاهر التدين البسيط تحدد هوية الإصلاحي وشخصيته وتمنحه الشعور بالتميز عمن سواه. حتى أنني أعلنت انحيازي عندما كنت طفلا في انتخابات 1993 لمرشح الإصلاح لمجرد أنه كان يظهر في الصور بلحية داكنة السواد ووجه بشوش، في مقابل الصورة المكفهرة والشعر المكتسي بالبياض لمرشح حزب البعث.
مضت عقدين منذ ذلك الحين. وليس من الصواب في شيء أن تظل نظرة الإصلاحي إلى الأمور والحكم على الأشخاص بهذه الطريقة الخاوية والمتخلفة. الآن ليس المواطن الصالح هو الذي يلهج بذكر الله وينشج بالبكاء، فهذا النوع من التدين لم يعد حكرا على الإصلاح، ففي الساحة اليمنية جماعات دينية متنوعة تنشط بلا كلل، وتفرط في العناية بالعبادات. المواطن الصالح هو الذي يسهر على رعاية مصالح الناس في بلدته، المستقيم في تعاملاته والمتفوق في مضماره. الرجل الصالح هو النزيه والذكي والمنفتح على الأفكار والجماعات، المنضبط المتسامح والعميق.
من الآن فصاعدا أصبحت المهمة الملقاة على عاتق الإصلاحي تتمثل في المساهمة الدءوبة في بناء وطنه وليس "الدعوة إلى الله" بمعناها المباشر الذي ينقلك إلى أجواء مكة والأوس والخزرج.
الحق يقال، ألمس بعض التطير من الإصلاح في أوساط الناس البسطاء. لا يقع اللوم عليهم بالطبع، لكن على الإصلاح الذي يفضل التفسيرات والأجوبة الجاهزة بينما يغض الطرف عن الأسباب الفعلية مدفوعا برهبة الوقوف على الحقيقة. ينبغي دراسة هذا الأمر بكل صدق وجرأة.
ثم إننا ننتظر من الإصلاح على وجه الخصوص الشروع الفوري في التخفف من رواسب سنوات التحالف الطويلة مع الحكم، تلك التركة الثقيلة من العلاقات والتحالفات وما تمثله من تصورات وأنماط عمل وطرائق تفكير. وهي إن كانت تضفي على الإصلاح لأول وهلة صورة القوة التي لا تقهر، إلا أنها تضعفه في الصميم. فإلى جانب المآزق الأخلاقية التي يضع نفسه فيها بسبب إرث هذه الأطراف والعائلات، هناك أيضا الشعور بالركون والاسترخاء والتفسخ الذي يتركه وجود هذه الأطراف في نفوس كثير من أفراد الإصلاح.
ليس المطلوب من الإصلاح أن ينقض عرى هذه التحالفات بكل فظاظة ودفعة واحدة، كل ما عليه التخطيط له هو التقليص المتواصل من اعتماده على هذه الجهات لمصلحة اعتماده على قوته الذاتية، بالتوازي مع محاولة حمل هؤلاء على اعتناق قيمه وتصوراته التي يتوخى أنها على قطيعة شبه تامة مع نظام علي عبدالله صالح، بكلمات أخرى: على الإصلاح أن يسعى بشكل حثيث وملموس لمعالجة الظروف المنتجة لهذه الظواهر القبيحة والأنساق، والتي تتجلى في تلك الامتيازات غير المشروعة والوجود الاستثنائي لهذه المراكز والجهات.
تناولي للإصلاح في هذه السطور مرتبط بمتابعتي مؤخرا للمشهدين المصري والتونسي، مع أنني اتفق مع فريد زكريا بأنه "لن يخلو من تسرع وطيش كل توقع واثق لمآل الأمور". غير أن سؤالي كان بالغ البساطة: لماذا ينكمش إسلاميو اليمن في حين كان عليهم أن يتمددوا؟ وأي فصيل منهم مرشح لتسجيل أقوى حضور في المستقبل، هل الفصيل المنفتح والأكثر حداثة أم المنغلق؟
وحده انسحاب النائب محسن باصرة رئيس الإصلاح في حضرموت، من المجلس الوطني قبل أسبوعين، كان أكثر الأخبار إثارة للاهتمام بالنسبة لي. لا أدري لماذا رأيت فيه علامة هشاشة واختلال، ربما لأنني كنت واحد ممن يتخيلون أن الإصلاح محصن من الانقسام إلى حد كبير. بمعنى أن تصرف باصرة جعلني أعيد النظر في تصوري التقليدي عن البناء التنظيمي الذي لطالما ظننته غاية في الصلابة! ومع ذلك يمكن رؤية الأمر من زاوية مختلفة، واعتباره مؤشر عافية وليس مؤشر مرض, طالما أن باصرة مارس حقه في الاختلاف من داخل الحزب ولم يقرر الانشقاق في حين لم يسارع الحزب إلى فصله.
شخصيا أدرك أن الإصلاح ينجز تحولات لا بأس بها من سنة لأخرى، بيد أنها تسير بخطوات متكاسلة وجلة في عالم مندفع لا يكف عن التقدم والتغير على كل المستويات. فيما مضى كانت الخلية التنظيمية هي الوسيط شبه الوحيد الذي يحصل من خلالها الفرد الإصلاحي على مادته التثقيفية السياسية والدينية. لم يكن يتعرض لهذا الكم من المؤثرات ومصادر المعرفة والمعلومات، مع جرعات من التوجيه والتحليل. كانت السيطرة والتحكم في الماضي سهلة، لقد تغير كل شيء، وبات الإصلاحي مثل غيره من اليمنيين عرضة للتأثيرات الخارجية، يسمع ويشاهد ليل نهار، ويحاكم بعقله ما يسمعه ويخضعه للتمحيص. في حال كهذه تصبح مهمة بناء قالب ذهني وفكري يحمل لون واحد أصعب مما يتخيل المرء.
ربما هذا يفسر التنوع الكبير والتفاوت في وجهات النظر والمواقف الذي يبدو عليه الإصلاحيون في السنوات الأخيرة بين شخص وآخر ومنطقة وأخرى وبين درجة تنظيمية وأخرى. لكن هذا التنوع الرائع قد يغدو مقدمة للتحلل والانقسام، إن لم يسارع الاصلاحيون إلى تحديث الهياكل والمعايير واللوائح التنظيمية للحزب بما يستوعب هذا التنوع ويعترف به لكي لا يكون الإصلاح حزب مزدوج الشخصية، يعاني هوة سحيقة بين صورته كما تبدو من خارجه وبين صورته من الداخل.
أظنني في غنى عن الإشارة إلى أنني أكتب هذا وأنا لا زلت أعتبر نفسي أقرب إلى الإصلاح من أي حزب أو جماعة أخرى، مع أني أضع تحيزاتي وتفضيلاتي السياسية والعقائدية جانبا أثناء الكتابة. وأعرف أن ثمة من سيعتبر هذه المقالة إساءة للإصلاح، وسيردد البعض محفوظات بائسة في سبيل تفنيد ما كتبته. لكني يشهد الله لم أنوي قط التحامل على حزب نشأت في كنفه، أريد فقط أن أساهم في تقييم ونقد هذا الكيان الكبير، وتحفيز الجدل وإثراءه.
غير أن الإصلاح في الأخير ليس قبيلة ولا عصبة. الإصلاح كما ينبغي أن يقدم نفسه هو: خيار سياسي واقتصادي واجتماعي، ضمن خيارات ومكونات كثيرة، وليس مطلق. إن منطق وأخلاق القبائل لا تلائم حزب على الإطلاق.