الرئيس علي عبدالله صالح استطاع خلال ثلث قرن من الزمان أن يدير اليمن شماله أولاً ثم شماله وجنوبه معتمداً على استراتيجية غير مكتوبة ، جعلت من التباينات بين مكونات المجتمع اليمني عاملاً أساسياً في بقاؤه في السلطة ،
وقد أكد على ذلك في العديد من المؤتمرات الصحفية التي أشار فيها إلى أن ما يقوم به يشبه لعبة الكروت أو الرقص على رؤوس الثعابين ، تلك الأساليب أمدت الرئيس صالح بالعديد من الفرص كان آخرها إنتخابات 2006م ، بل أن طموحه لم يتوقف لأن مجلس النواب نهاية 2010م كان بصدد إقرار تعديلات دستورية بإلغاء الفترة الإنتخابية وفتح الباب أمام خيار التأبيد والتمديد والتوريث.
إذن ماذا جرى لماذا تراجعت تلك الطموحات والفرص مطلع 2011م ، لقد شهد العالم العربي تحولات لم تكن في حسبان الحكام العرب إنها ثورة محمد البوعزيزي التي أسقطت زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومن بعدهم ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام العرب القذافي ، ثورة البوعزيزي الشعبية كان لها صداها في اليمن فجُمدّت التعديلات التي كان يخطط لها أقطاب المؤتمر ، وتلاشت طموحات التمديد والتوريث ، وبدأت تطرح قضايا الإنتخابات المبكرة والتخلي عن السلطة حتى قبل 2013م ، والخروج المشرف وو...الخ ، وخاصة بعد حادثة جمعة الكرامة ، ومن ثم دخل الدور الإقليمي والدولي ممثلاً بالمبادرة الخليجية التي أمدّت الرئيس صالح بفرص جديدة للمناورة ، وفعلاً نجح إلى حد كبير في فتح حوارات ونقاشات أستمرت لأشهر تمكن خلالها من إعادة تجميع الأنصارمن خلال الترويج الإعلامي لقضايا مثل قصة الشيوبة واللسان المقطوع وو...الخ وأصبح لكل جمعة من جُمَع ميدان السبعين حدثها الخاص.
إن كل المحاولات لم تصمد كثيراً أمام بعض الحماقات التي ارتكبت ومنها قصف الوساطة في منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ومحاصرة بعض الدبلوماسيين في سفارة الإمارات العربية المتحدة، فغاب صالح عن جُمَع السبعين بعد أن سجلت عليه بعض القبائل العيب الأسود وما يحمله من تهديدات بالعرف القبلي ، وبدأت دول الخليج تلوح برفع الملف اليمني إلى مجلس الأمن ، ومع اشتداد الضغوط الداخلية والخارجية ، يأتي حادث جامع القصر الرئاسي في الجمعة الأولى من رجب ، ليعيد مرة أخرى مساحة من التعاطف الداخلي والخارجي مع الرئيس صالح، وظل الرئيس في رحلته العلاجية لأشهر ، واستمر تدهورالأوضاع المعيشية والأمنية لسكان اليمن، مع استمرار التصعيد الثوري وتجاوز شباب التغيير في فعالياتهم جولة كنتاكي التي تمثل نقطة دفاع رئيسية ، فبالقرب منها نجد منزل الرئيس ومكتب إبنه أحمد ، وتجاوزها يعني الإقتراب أكثر من أهم المناطق الإستراتيجية للحكم والتي يتواجد فيها القصر الرئاسي وأهم معسكرات الحرس الجمهوري والأمن المركزي ، تلك المعطيات كانت كفيلة بعودة صالح عله ينجح فيما فشل فيه أفراد الأسرة ، ومن ثم بدأت الهجمات المركزة على ساحة التغيير بصنعاء والفرقة الأولى مدرع في نفس التوقيت استمرت الضربات المركزة في تعز ونهم وأرحب، وتعددت محاولات إقتحام ساحة التغييرواستعادة الحياة الطبيعية بجولة كنتاكي ، ولكن صلابة دفاعات القوات الموالية للثورة وصمود شباب الثورة أعاقت مثل تلك الطموحات ، وأمام احتدام المواجهات وانسداد الأفق السياسي ، عاد الحديث مرة أخرى إلى المبادرات ، وتقدم مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة بمبادرة معدلة من المبادرة الخليجية ولكنها تراعي المستجدات الأخيرة ، وبحكم تفويض الرئيس لنائبه عبد ربه منصور هادي وافق النائب على بنود تلك المبادرة ، ولكن مع العودة للرئيس صالح لإقرارها إعترض على بند(إعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن قبل الإنتخابات المبكرة) ، وذلك يعكس بوضوح أن تفويض الرئيس لنائبه لم يكن إلاَّ خطوة تكتيكية وليست جادة .
لقد عاد مندوب الأمين العام للأمم المتحدة ليؤكد للمجتمع الدولي أن المشكلة تكمن في الرئيس والأسرة بشكل خاص ، وخطورة ذلك تتمثل في أن الرئيس صالح سيصبح مرة أخرى في مواجهة المجتمع الدولي ، ثم أن تدهور الأوضاع المعيشية للسكان وتنامي التيار الشعبي والعسكري المؤيد لثورة الشباب ، وخروج جزء هام من غرب وشمال أمانة العاصمة عن سيطرة صالح ، وتوقف العديد من المصالح الحكومية ومرافق التعليم ، وركود الأنشطة الاقتصادية ، ورداءة الخدمات وخاصة الكهرباء والمياه...الخ كل ذلك سوف يزيد من الضغوط الداخلية على الرئيس صالح الذي تمسك حكومته بمختلف وزارات ومؤسسات الدولة.
إن محاولات الرئيس صالح الأخيرة ومناوراته لاتخصه بصفته الشخصية فهو يدرك أن تأريخه السياسي لم تعد فيه بقية ، ولكنه يحاول عبر الإعتراض على إعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن قبل الإنتخابات الرئاسية والمناورات الأخرى ومنها قوله أخيراً باستعداده تسليم السلطة خلال أيام ولمن بشروط ، كلها محاولات لإعادة إنتاج السلطة العائلية مرة أخرى من خلال توجيه الإنتخابات باستخدام النفوذ العسكري والأمني ، حتى يملك زمام المبادرة في حال ظهرت توجهات إنتخابية لاتتوافق مع الطموحات السياسية لعائلته ، خاصة وأنه يهيمن على أهم مكونات القوات العسكرية والأمنية عتاداً وهو الحرس الجمهوري والأمن المركزي ، وكذا الهيمنة على أحد أهم أجهزة السلطة السرية وهو جهاز الأمن القومي الذي تغلغل في مختلف مفاصل الدولة والمجتمع حتى وصل إلى داخل معظم الأسر اليمنية ، ورهان صالح على تلك الأجهزة رهان جوهري لأنها تستطيع التأثير على مسار الإنتخابات القادمة حتى وإن تمت تحت إشراف دولي ، لأن تلك الأجهزة ستدير الحملة الإنتحابية وتستخدم النفوذ الأمني بشكل خاص عبر الترغيب والترهيب لفرض خيارات معينة على الناخبين ، كما هو العادة في الإنتخابات السابقة ، ومن ثم فمحاولات الرئيس صالح والمتصلة بتأخير إعادة هيكلة الجيش هدفها الهيمنة على أي عملية انتخابية جديدة ، لعل ذلك يتيح لبقية أفراد الأسرة الحاكمة فرص البقاء في السلطة خلال الفترات القادمة ، ولكن ماهو مؤكد أن شباب الثورة حددوا أهدافهم بتغيير النظام بكل مكوناته ، ومن ثم فتلك المحاولات لن يكتب لها النجاح.
أخيراً إذا كان حادث جامع النهدين مثل مخرجاً من المأزق المحلي والدولي للرئيس صالح في الأشهر الأولى من الثورة الشبابية الشعبية السلمية ، فهل لدى الرئيس على عبدالله صالح أوراق أخرى يستطيع من خلالها التأثير مجدداً في المواقف المحلية والدولية بعد التوتر الحالي، وهل الأخبارعن إغتيال أنور العولقي وبيان جمعية علماء اليمن والعودة السرية من السعودية جزء من هذا السيناريو ، ما هو مؤكد أن الأيام القادمة ستكشف عن طبيعة محاولات صالح المستميتة لاستمرار النفوذ العائلي في الحكم ، ولكن ماهو مؤكد أيضاً أن اليمن تطوي مرحلة وتلج مرحلة جديدة من تأريخها السياسي المعاصر ، نرجوه تع إلى أن يحمي اليمن من كل مكروه إنه على ما يشاء قدير.