منذ أزمة 1993وأنا أكتب عن القضية الجنوبية باستمرار، ولم يكلف نفسه أي ناشط أو نائم حراكي واحد لا في الداخل ولا في الخارج أن يعلق سلباً أو إيجاباً على ما كنت أطرح من أفكار لحل القضية، والسبب بسيط جداً؛ لأن معظم الناشطين الحراكيين الحاليين لم يكونوا قد ولدوا بعد يوم أن كافح صحفيون حقيقيون جنوبيون وشماليون لوضع القضية الجنوبية على الخارطة.
أما اليوم فعندما يكرر الكاتب منا ما قلناه قبل الحرب وبعد الحرب وما قلناه قبل الحراك وبعد الحراك وأثناء العراك، وما قلناه قبل ثورة التغيير وأثناءها وما سنقوله بعدها ينبري لنا آلاف المعلقين والمكفرين والمخونين، منهم من يقول: الكاتب الفلاني انشق عن الحراك، ومنهم من يقول: الكاتب الفلاني انشق عن الحوثي، والحمد لله أن لا أحد حتى الآن يتهمني بأني أريد الانشقاق عن اليمن، وهذا هو الأهم، أما أنصار الله وأنصار الشريعة وأنصار العراك فلم أكن يوماً حراكياً بينهم كي أنشق عنهم.
نعم كتبنا الكثير عن القضية الجنوبية قبل انطلاق الحراك الجنوبي السلمي وقبل أن يظهر أي مزايد من المزايدين الجدد من حراكيي الخارج الذين يسيئون إلى هذه القضية أكثر مما يخدمونها.
ومع ذلك فإن هؤلاء يسكتون عنك عندما تتفق معهم في مقارعة النظام الفاسد، ولكن عندما تتحدث عن فسادهم أو تختلف معهم حول مشروعهم الجهوي وتقول: إن الانفصال ليس حلاً وإنما الحل هو تصحيح مسار الوحدة، فإن أولئك الذين رفعوا شعار تصحيح مسار الوحدة طويلاً هم أول من يهاجمونك وينتقدونك، والأدهى من ذلك أنهم يتوقعون من مواطن يمني مولود في قلب صنعاء أن يبارك انفصال عدن.
إنهم لا يفهمون أننا في الوقت الذي لم نبارك فيه اقتحام عدن ولا احتلال عدن ولا نهب عدن، فإننا أيضاً لن نبارك انشقاق عدن، ولن نبارك أبداً انشقاق الأصل عن الفرع. عدن هي الأصل وليس الفرع كما يظنون، والمكلا هي أصل بلادنا وليس الفرع كما يظنون، وصنعاء هي الأصل وليس الفرع كما يظنون، كلنا أصول وليس هناك فروع، وإذا كان هناك أصل وفرع فالجنوب هو الأصل والحراك هو الفرع.
ومن المضحك أن بعض الردود التي وصلتني على حلقات الفيدرالية تزعم أني أتدخل فيما لا يعنيني وأكتب في شؤون بلد ليس بلدي، لن أرد على هؤلاء وسأظل أحفر في الجدار وأكتب عن بلدي الغيضة وبلدي سيئون وبلدي زنجبار وبلدي عدن وبلدي صعدة ولو كره الكارهون.
أنا أعيش حالياً في بلد يتكون من خمسين ولاية، لا أحتاج لجواز سفر كي أتنقل بين هذه الولايات، ولا تصادفني أي نقاط عسكرية أثناء التحرك من ولاية إلى أخرى. وأتعامل هنا مع ثلاث حكومات وهي الحكومة الفيدرالية التي أدفع لها ضريبة الدخل سنوياً مقابل أن تحل عني وتهتم بالخارج بدلاً من أن تضايقني في عيشي، والحكومة الثانية هي حكومة الولاية التي أعيش فيها وأدفع لها ضريبة المبيعات بنسبة معينة من كل سلعة اشتريها، مقابل الحصول على كثير من الخدمات، ولكن الحكومة الأكثر أهمية بالنسبة لي هي حكومة المقاطعة أو المدينة التي أقطن فيها وأدفع لها ضريبة العقارات التي أملكها في هذه المقاطعة مقابل خدمات التعليم لأولادي وتوفير الأمن والإسعاف ومكافحة الحريق واحترام إنسانيتي كمواطن أو مقيم.
قد يقول البعض لماذا تقارن أمريكا باليمن، فهناك فرق، ولكني أقول: وما الفرق؟ فالأمريكيون بشر ونحن بشر، وقد اختاروا الفيدرالية كنمط حياة، فلم تفكر أية ولاية أو مقاطعة بالانفصال، وربما أن نجاح الفيدرالية الأميركية يعود بالدرجة الأولى إلى عدم إهمالها الثلاثة العوامل الرئيسية التي تقوم عليها أية وحدة عادلة وهي:
1- المساحة
2- السكان
3- الثروة
ففيما يتعلق بالمساحة فإن كل ولاية أميركية صغيرة أو كبيرة (باستثناء مقاطعة العاصمة واشنطن) لها ممثلان اثنان في مجلس الشيوخ البالغ عدد أعضائه 100 عضو، يرأسهم نائب الرئيس المنتخب.
ومن أجل عدم الإجحاف بحق السكان فإن مجلس النواب تتوزع مقاعده الـ439 على الولايات حسب عدد سكان كل ولاية، وأما الثروة فإن النظام الضرائبي يكفل توزيعها بعدالة تامة، ولو طبق هذا النظام في اليمن فإن تعز ستكون أغنى محافظة يمنية بسبب كثافتها السكانية؛ لأن الثروة هي في البشر وليس في الحجر.
ومن غرائب المواقف التي مريت بها في حياتي أثناء حوار هاتفي جرى بيني وبين ناشط حراكي أثناء حضوره مؤتمر القاهرة هو الأخ خالد المفلحي الذي أصر زميل مشترك مقيم في عمان هو الاقتصادي المعروف وليد شيباني على تعريفي به، وأثناء الحوار تطرقنا إلى النظام الفيدرالي الأميركي وإلى فيدرالية العطاس المطروحة في مؤتمر القاهرة فقلت له رأيي بكل اختصار: إن فيدرالية العطاس من إقليمين تعالج مشكلة المساحة وتدخلنا في مشكلة جديدة هي مشكلة التفاوت السكاني، فما كان من الناشط المشار إليه إلا أن أبدى غضبه قائلاً: إن ولاية كاليفورنيا الأمريكية غنية بالثروات تحظى بأكبر عدد من الأعضاء في الكونجرس الأمريكي، قلت له: لا يا أخي ليس هناك أية علاقة في هذا الجانب، بل تحظى كاليفورنيا بأكبر عدد بسبب عدد سكانها، وظل يجادلني ويحاول إقناعي من أجل تغيير رأيي في موضوع كاليفورنيا، فقلت له: اسمع يا أخي هناك فرق بين الرأي والحقيقة العلمية، قد نختلف في الرأي ولكن لا يجب أن نختلف في حقيقة ماثلة للعيان، لقد قضيت سنوات من عمري مقيماً في ولاية كاليفورنيا ودرست في الجامعة نظام الحكم الأمريكي، وأعرف جيداً النظام الانتخابي وغطيت الانتخابات الأميركية الرئاسية والبرلمانية لكبريات الصحف العربية، فلا تحاول أن تجادلي في شيء من صميم تخصصي، وإذا لم تقتنع بالمعلومة التي أقدمها لك فاسأل العم غوغل وسوف يجيبك فليس هناك أي احتكار للمعلومة.
وقبل أن أقفل السماعة أعدت تذكيره أن الإمعان في المركزية هو دعوة صريحة للانفصال، وأن الحلول الجزئية لا تدوم، ولا يجب أن نعالج خطأ بخطأ.
وأضفت: قد تختلف حول فيدرالية العطاس، فمن حقك أن تؤيدها ومن حقي أن أنتقدها، ولكن من العيب أن نختلف حول حقائق عن دول أخرى تطبق الفيدرالية منذ تأسيسها، وطلبت منه أن يتأكد من موضوع التمثيل السكاني في النظم الفيدرالية التي يعرفها ثم يعود ويتصل بي لنكمل النقاش، ومن ذلك اليوم ولم يعاود الاتصال.
وهناك الآلاف من السياسيين اليمنيين الذين توصلوا اليوم إلى قناعة أن الفيدرالية التي طالبنا بها في التسعينيات هي الأمثل، ولكننا نعود ونؤكد أن الفيدرالية التي نريدها هي تلك التي تعزز وترسخ وحدة البلاد وتحقق العدالة في توزيع السلطة وتوزيع الثروة. أما إذا كان الهدف منها هو تفتيت وتقسيم البلاد إلى دويلات فلتذهب هذه الفيدرالية إلى الجحيم، ومن يرد أن ينفصل فلا يجب أن يطالبني بتأييد مشروعه الخائب.