لقد آن أوان اطلاق عملية التنمية المستدامة في اليمن:
الجناح الاجتماعي للتنمية المستدامة
تنبع اهمية الجناح الاجتماعي في اطلاق و استمرار عملية التنمية المستدامة من طبيعة البشر انفسهم. فالانسان يخلق و هو لا يعلم شيئا و لا يقدر على عمل أي شيء و بالتالي فهو في حاجة لرعاية الأخرين له ولفترة طويلة. و كذلك فان الانسان نفسه اذا بلغ ارذل العمر فانه يصبح مرة ثانية لا يعمل شيئا و لا يقدر على فعل أي شيء و بالتالي فانه يحتاج إلى رعاية الأخرين له.
و كذلك فان حتى القادرين على العمل قد لا يستطيعون القيام به اما لعجز مؤقت كالمرض أو عدم وجود فرص عمل مناسبة. فمن حق هؤلاء على المجتمع ان يوفر لهم ما يحتاجون من أساسيات الحياة على امل ان يرد ذلك اليه عندما يتمكنون من العمل. فاذا ما ترك لهؤلاء ان يواجهوا مصيرهم بأنفسهم فانه سينتقمون من المجتمع و بالتالي فانه لن يكون قادرا على الاستمرار في عملية التنمية المستدامة.
و في نفس الوقت فان هناك من افراد المجتمع من يولدون هم اصلا غير قادرين على العمل. و من اجل حماية حقهم بالحياة و حق غيرهم فانه لا بد و ان يوفر المجتمع لهم ذلك و إلا ساهم في ازدراء الحياة البشرية من ثم سهولة انهائها حتى لمن هم قادرون على العمل.
من الواضح ان الآلية الاقتصادية و لا الآلية السياسية قادرة على ايجاد حلول ناجع لما يترتب على ذلك من آثار سلبية على المجتمع كله. العلاقات الاجتماعية هي القادرة على تحقيق ذلك من خلال مؤسسة الاسرة و مؤسسات المجتمع المدني بمعناه الواسع.
ان عملية التوزيع تختلف كثيرا عن عملية الانتاج. و يرجع ذلك إلى حقيقة ان الناس يتساوون تقريبا في الحاجات و لكنهم يتفاوتون في الطاقة. فبعض الناس لديهم طاقة جسمية اكبر من الطاقة الفكرية و العقلية مقارنة بالآخرين و العكس بالعكس. و لذلك فان حجم الموارد الطبيعية و فعاليتها تختلف من منطقة إلى أخرى. و لذلك فان من يسيطر على المناطق التي تتفوق على المناطق الاخرى في الموارد الطبيعية و من يتفوق على الآخرين بقدراته الفكرية و العلمية يتحصل على سلع و خدمات تفوق بكثير غيرهم. و لاشك ان ذلك يؤدي إلى التفاوت في إشباع الحاجات الامر الذي يؤثر على العلاقات الإنسانية غير الاقتصادية.
فكما هو معروف فان الأسرة هي التي تتولى إدارة القوى البشرية أي هي التي تتخذ قرارات الإنجاب و بالتالي قرارات الاستهلاك لكن المؤسسات الاقتصادية هي التي تتخذ قرارات الإنتاج. أما عملية توزيع العائد من الإنتاج فتقوم به كل من الأسرة و المؤسسات الاقتصادية. و لا شك ان عملية التوزيع هذه تنعكس على كل من الاستهلاك و حجم رأس المال. و من اجل تحقيق التوازن بينهما فانه لا بد ان تأخذ كل جهة منهما تصرفات الجهة الاخرى. فلا بد و ان تأخذ الأسرة بعين الاعتبار الأوضاع الاقتصادية و كذلك فان حجم المؤسسات الاقتصادية يتأثر بحجم و نوعية القوى العاملة. و هنا ينبغي ان نفرق بين قرارات الأسرة ذات الطابع الاقتصادي أي ما يتعلق بحجم و نوعية العمل المتاحة و حجم الاستهلاك بين قراراتها التي لا علاقة لها بالاقتصاد أي قرارات الزواج و الإنجاب و الدين و السياسة. و كذلك فانه لا بد من التفرقة بين قرارات الدولة المرتبطة بالاقتصاد مثل السلع العامة و شبه العامة و السياسيات الاقتصادية و بين قراراتها التي لا علاقة لها بذلك من الانتخابات و التحالفات و غيرها من القرارات.
لقد اعتقد العديد من الاقتصاد ان كلا من الأسعار و الأجور و العائد على رأس المال و الضرائب يعملون على التنسيق بين هذه الجهات بحيث تكون قراراتها و تصرفاتها متناسقة. و في حال تحقق ذلك فان الاقتصاد يكون في حالة انسجام أي في حالة طبيعية أي ان يستغل كل الموارد المتاحة له. لكن قراراتهما الاخرى التي لا علاقة لها بالاقتصاد قد تعمل على التقليل من التنسيق و الانسجام فيما بينها. و من اجل معالجة ذلك فانه لا بد من الفصل بين العلاقات القائمة بينها على أسس اقتصادية و بحتة و تلك العلاقة القائمة على أسس أخرى.
و في هذا الاطار فانه لا بد من ايجاد توازن بين دور المؤسسات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية حتى لا يترتب على اختلال التوازن اما تساهل واما تكرار للأدوار. و في هذه الحالة فان ذلك سيعرقل انطلاق و سير عملية التنمية المستدامة.
المعرفة: وقود التنمية المستدامة
لقد اثبت كل التجارب و الدراسات و الابحاث استحالة انطلاق أو استمرار عملية التنمية المستدامة من دون تقدم معرفي مستمر. التغير بالمعرفة هو الذي يقود إلى التغير في المجالات الاخرى الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و التي تمكن من اطلاق عملية التنمية المستدامة.
كذلك فان استمرار عملية التنمية المستدامة مرتبط بشكل كبير بعملية التطور بالمعرفة. فبدون ذلك فانها تتعثر و ربما تتلاشى.
المقصود بالمعرفة هنا هي عملية التعرف على الواقع و على خصائص الاشياء و على العلاقة فيما بينها. فمن خلال ذلك يمكن اكتشاف فرص جديد بل و موارد جديدة و كذلك طرق جديدة لإشباع الحاجات الانسانية.
فمن طريق المعرفة يمكن للمجتمع ان يدير خلافاته و يتوصل إلى توافق ضروري لتوفير الاستقرار السياسي الضروري لاستمرار عملية التنمية المستدامة.
من اجل تحقيق ذلك فانه يجب التمييز بين مؤسسات انتاج المعرفة و المتمثل في الجامعات و مراكز البحوث المتخصصة و بين مؤسسات نشر المعرفة و المتمثل في المدارس و مراكز التدريب. و هناك جانب آخر من عملية الاستفادة من المعرفة و المتمثلة في مراكز الابحاث و الاستشارات المتخصصة.
ثالثا: تجارب اليمن الفاشلة مع التنمية المستدامة
من المفيد جدا ان يتم تقييم تجارب اليمن الفاشلة في مجال التنمية المستدامة اذا جاز لنا التعبير انه كانت هناك محاولات جادة في هذا المجال. و يمكن القول بان فشل اليمن في اطلاق عملية تنمية مستدامة يرجع إلى سببين اساسين. يتمثل الاول في ان التغيير الذي حدث في الماضي لم يكن جذريا و بالتالي لم يكن كافيا لإطلاق عملية تنمية مستدامة. فنتيجة لذلك فانه لم يكن من الممكن تكوين ارادة جمعية لإطلاق عملية تنمية مستدامة.
اما السبب الثاني فيتمثل في سوء ادارة بعض التغيرات التي حدثت. فقد كان بالإمكان التعويض عن تدني حجم التغير الذي حدث من خلال حسن ادارته. فمن الممكن القول بأن ما حدث في 26 سبتمبر عام 1962 و 14 اكتوبر عام 1964 كان بداية تغير يمكن ان يؤدي إلى تغييرات شاملة في كل مناحي حياة اليمنيين. و لكن للأسف فان النخب السياسية الجديدة لم تكن على مستوى الحدث فحولته إلى مجرد تغيير شكلي. و قد ترتب على ذلك ان ظلت العلاقات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية في جوهرها كما كانت في الماضي و تم الاكتفاء بأحداث تغييرات شكلية و صورية.
و يمكن التعرف على هذه الحقيقة و ذلك من خلال مناقشة التطورات التي حدثت في الماضي في اليمن في كل من هذه الابعاد الاربعة.
الأبعاد الاقتصادية
من الواضح ان اليمن في الماضي لم ينجح في اطلاق عملية تنمية مستدامة على الرغم من توفر موارد طبيعية كافية لتحقيق ذلك. و يتضح ذلك من اخلال استعراض بعض المؤشرات المرتبطة بالموارد الطبيعية المتوفرة لليمن و ذلك على النحو التالي.
اذ تقدر المساحة الإجمالية للبلاد بحوالي 55 مليون هكتار و تبلغ المساحة القابلة للزراعة حوالي 1.67 مليون هكتار أي بنسبة 3 % من إجمالي المساحة الكلية للبلاد. أما المزروعة فعليا فتبلغ حوالي 1.14 مليون هكتار و بنسبة تتراوح بين 70 % و84 % من إجمالي الأراضي الصالحة للزراعة بحسب معدل نزول الأمطار. فعلى الرغم من ندرة الموارد الطبيعية للزراعة فانه لم يتم تطوير قطاعات بديلة بل انه لم يتم استغلال هذه الموارد الزراعية الاستغلال الامثل.
و يتمتع اليمن بتنوع المناخ الذي يمكنه من زراعة محاصيل متعددة و متنوعة الذي كان يمكن في حال استغلاله الاستغلال الامثل ان يعوض عن محدودية الأراضي الصالحة للزراعة و شح المياه. فدرجات الحرارة تتباين بحسب الاختلاف في الارتفاعات بين 15 درجة مئوية في إقليم المرتفعات و 30 درجة مئوية في الوديان و 40 درجة مئوية في إقليم الهضبة الشرقية و الصحراء و قد تنخفض درجة الحرارة إلى ما دون الصفر في فصل الشتاء. ان هذا التنوع في المناخ كان يمكن ان يساعد اليمن على تنويع محاصيله النقدية المطلوبة في الجوار بدلا من الاستمرار في زراعة محاصيل تقليدية منخفضة القيمة و الانتاجية.
و لقد ترتب على ذلك أن ظل الاقتصاد اليمني يعتمد اعتماداً كبيرا ً على الزراعة التقليدية. فالقطاع الزراعي يساهم بما يقارب من 16 % من الناتج المحلي كما في عام 2004 و يشغل أكثر من 60 % من القوى العاملة و يعتمد عليه بشكل مباشر أو غير مباشر أكثر من 70 % من السكان. إذ إنه لا زال هو النشاط الرئيسي في الريف اليمني. و لا شك أن ذلك قد ساهم في تدني مستوى الدخل للغالبية العظمى من السكان مما ترتب عليه تدني مستوى جميع مؤشرات التنمية المستدامة.
لقد كان بالإمكان أن يتم احلال الزراعة التقليدية بنشاط اخر مرتبط بالزراعة لكنه يمكن أن يزيد الانتاجية و القيمة معا ألا وهو الثروة الحيوانية و التي يتمتع اليمن بميزة نسبية فيها وذلك من حيث الجودة و الانتاجية.
و يتوفر للبلاد ثروة حيوانية متواضعة تتكون من 4.8 مليون من الأغنام و 4.3 مليون من الماعز و 1.34 مليون من الأبقار و 0.19 مليون من الإبل وفقاً لإحصائيات عام 2000. بالإضافة إلى ذلك يوجد في البلاد حوالي 0.107 مليون خلية نحل وعدد من مزارع الدواجن.
صحيح أن اليمن يقع اليمن ضمن الدول الفقيرة بمواردها المائية و لكن الصحيح ان هذه الموارد النادر و الشحيحة لا تستغل الاستغلال الامثل. إذ يتراوح معدل سقوط الأمطار ما بين 50 مليمتراً سنوياً في الشريط الساحلي و 200-400 مليمتر في المرتفعات الجبلية الغربية و إلى اقل من 50 مليمتراً في الهضبة الشرقية و السواحل. وعلى هذا الأساس فإن معظم مناطق اليمن تقع في المناطق المدارية شبه الجافة. والمياه الجوفية المتوفرة في بعض المناطق محدودة و قابلة للنفاد خلال فترة قصيرة. إذ يصل حجم الموارد المائية المتاحة سنويا حوالي 2500 مليون متر مكعب سنويا في حين يصل حجم الموارد المائية المستخدمة في عام 2000 إلى حوالي 3400 مليون متر مكعب سنويا. يستخدم القطاع الزراعي حوالي 90 % من إجمالي المياه المستغلة.
و من المؤسف له ان اليمن لم يستغل الموارد الاخرى غير التقليدية الاستغلال الامثل. انه يتوفر لليمن مصادر طاقة متعددة أي النفط و الغاز و الرياح و الشمس و المياه الحارة ومع ذلك فان يعاني اشد المعانة من نقص الطاقة بكل انواعها. فقد كان من الممكن ان يحل اليمن مشكلة المياه المستعصية من استغلال ما يتوفر لها من مصادر طبيعية في تحلية المياه وحسن ادارتها.
فالمستغل من النفط في اليمن متدن جدا. اذ تمتلك اليمن في الوقت اقل من 3 مليارات برميل من النفط الخام القابل للاستخراج. و انتاجها اليوم في حدود 260 برميلاً يوميا بعد أو وصل إلى حدود 500 الف برميل في عام 2000. ان هذا القدر من الاحتياطي والانتاج متواضع جداً مقارنة بالدول الأخرى، وفي حال استمرار معدل الإنتاج اليومي الحالي فان هذا المخزون سيستنفد خلال العشرين السنة القادمة.
فالعديد من المؤشرات تؤكد انه من الممكن الحصول على مخزون جديد في حال القيام باستكشافات جديدة. لكن ينبغي ان نأخذ بعين الاعتبار ان الاستكشافات النفطية في اليمن في الماضي كانت من النوع المحدود لضعف ادارة هذا القطاع. فلم يتم حتى الآن اكتشاف أي حقول ضخمة.
تشير التقديرات الرسمية بأن اليمن تملك احتياطياً غازياً يقدر بحوالي 14 تريليون قدم. في الوقت الحالي يتم استغلال جزء ضئيل من الغاز المصاحب أي حوالي 5 % فقط لتغطية الاستهلاك المحلي في حين يتم إعادة ضخ المتبقي إلى الحقول مرة ثانية لعدم إمكانية استغلاله تجاريا. و يمكن القول بان هناك العديد من المؤشرات تؤكد ان اليمن تملك مخزونا كبيرا من الغاز لم يستكشف لم يستغل بعد.
كان يمكن لليمن أن تستغل تعدد المناخات و الآثار التاريخية للترويج للسياحة في اليمن. وعلى الرغم من التطور الذي حدث في البنية التحتية للقطاع السياحي إلا أنها لا زالت اقل من المستوى المطلوب لجذب السياح. ففي الآونة الأخيرة تم بناء عدد من الفنادق و المنتجعات إلا أن مستوى خدماتها إما متدن أو أن أسعارها مرتفعة مقارنة بالدخل المحلي.. كان يمكن لليمن ان يستغل طول سواحله التي تبلغ اكثر من 2000 كيلومتر على البحر الأحمر و خليج عدن و بحر العرب، و هناك عدد كبير من الجزر المنتشرة على هذه البحار في مجال السياحة و الاصطياد السمكي. و تدل الدراسات المتعددة على غناء هذه السواحل و الجزر بالثروة السمكية. إذ تقدر القدرة الإنتاجية لهذه السواحل بحوالي 400 ألف طن سنويا. في الوقت الحاضر يبلغ الإنتاج السنوي حوالي 135 ألف طن سنويا.
يتم الاصطياد في الوقت الحاضر بواسطة قوارب صيد صغيرة حيث تصطاد ما يقارب من 80 % من إجمالي الصيد. ولا توجد في البلاد أي صناعة سمكية متطورة قادرة على المنافسة في الأسواق الخارجية. و مع ذلك فان مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الاجمالي لا يزيد عن.0.2 %. ان استغلال الثروة السمكية المتاحة محلية يحتاج إلى استثمارات كبيرة ينبغي توفيرها في ظل الموارد المتاحة.
تشير العديد من المصادر الرسمية و غير الرسمية إلى وجود بعض المعادن المهمة مثل الذهب و البلاتنيوم و التيتانيوم و الجبس و الرخام و بعض المناجم الحجرية. غير انه ينبغي التنبيه إلى أن الدراسات الأولية لم تشر إلى حجم الجدوى الاقتصادية لاستغلال هذه المعادن. ونظراً للطبيعة الجيولوجية لليمن فانه يتوفر فيه عدد كبير من الأحجار ذات الخصائص الجيولوجية و الجمالية المتعددة. و قد تنبه اليمنيون لذلك منذ القدم فأقاموا المحاجر المختلفة لاستخراج الأحجار المختلفة و استخدامها في البناء. و قد طور اليمنيون أيضا أساليب للبناء متميزة تنسجم مع المظاهر الجمالية للأحجار اليمنية.
و تتمتع اليمن بموقع جغرافي ممتاز يؤهله لتحويل نفسه إلى مركز تجاري إقليمي مهم. فاليمن تقع على مقربة من أهم مراكز الإنتاج العالمية الحالية والمستقبلية. تحتل منطقة جنوب شرق آسيا مركز مهماً في التجار ة الدولية. هذه المنطقة تشارك فيما يقارب من 20 % من حجم التجارة الدولية. تأتي اليابان في مقدمة هذه الدول ثم الصين وكوريا واندونيسيا وماليزيا. من المتوقع أن يزداد نصيب هذه المنطقة من التجارة الدولية وذلك بسبب النمو المتصاعد في الاقتصاد الصيني مما سيؤدي إلى زيادة نصيبها من التجارة الدولية في المستقبل.
لقد ترتب على انتشار التجار اليمنيين في جميع مناطق الجوار إلى وجود امكانية كبير لجعل اليمن مركزاً تجارياً ومالياً مهماً. فقد كان يمثل التجار اليمنيون أهم التجار في كل من السودان وإثيوبيا واريتريا وجيبوتي والصومال والمملكة العربية السعودية وغيرها من دول العالم. و على الرغم من العقبات التي وجهتهم فلا زالوا يمارسون دوراً كبيراً في بعض هذه الدول على الاقل.
بالإضافة إلى ذلك فان احفاد التجار اليمنيين لا زالوا يتواجدون بقوة في كل من اندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وغيرها من دول جنوب شرق آسيا. إن هذه التواجد يمثل أهم حلقة بين الدول المنتجة والدول المستهلكة يمكن البناء عليه لتحويل اليمن إلى مركز تجاري إقليمي. يجاور اليمن عدد من الدول أهمها المملكة العربية السعودية وعمان والسودان واريتريا وإثيوبيا والصومال وجيبوتي وعدد من الدول الأخرى. يزيد عدد سكان هذه الدول عن 100 مليون شخص ويزيد الناتج القومي لهذه الدول عن خمسين مليار دولار.
لكن للأسف فان اليمن لم يستغل كل هذه الموارد الطبيعية من خلال اطلاق عملية تنمية مستدامة و الادلة على ذلك كثيرة و لعل من اهمها التالي.
فعلى الرغم من الانفتاح النسبي في المحافظات الشمالية فان تدخل الدولة غير المنضبط قد عمل على عرقلة نشاط الافراد. و يتضح ذلك من خلال احتكار القطاع الحكومي للعديد من المجالات الاقتصادية و فرض ضرائب و اتاوات على انشطة القطاع الخاص و عدم الاهتمام بالتنمية البشرية.
أما اقتصاد المحافظات الجنوبية فقد كان اقتصادا مركزيا مخططا تسيطر الدولة عليه بشكل كامل. فقد قامت حكومات ما عبد الاستقلال بتأميم كل الانشطة الاقتصادية و احتكارها من قبل الدولة. الامر الذي ادى إلى اغلاق البلاد كليا على الرغم من كون البلاد فقيرة و معتمدة على بعض الانشطة التجارية و تلك المرتبطة بالملاحة الدولية و مينا عدن.
و عندما توحد الشطران في عام 1990 كان اقتصاد الدولة الجديدة انعكاسا حقيقيا لاقتصاد الشطرين السابقين الضعيفين. و قد ساعد على استمرار ذلك استمرار حكومات الوحدة بتطبيق نفس السياسات الاقتصادية السابقة. و قد زاد من الاثار السلبية لهذه السياسات كون بعضها متناقضة جدا. فلفترة طويلة ظل الاقتصاد في المحافظات الشمالية يدار من خلال النظام الاقتصادي المختلط و الاقتصاد في المحافظات الجنوبية يدار من خلال النظام الاقتصادي الموجه. و قد اثر ذلك بدون شك على ثقة المستثمرين المحليين و الخارجين.
و لسوء حظ اليمن فقد ترافق ذلك مع حدوث تطورات داخلية و خارجية غير مواتية أثرت سلبا على الأوضاع الاقتصادية فيه و التي تحمل الجزء الاكبر من اعبائها عنصر العمل. ولعل أهم هذه التطورات اندلاع الازمات السياسية وعودة أعداد كبيرة من المغتربين العاملين في الدول المجاورة نتيجة لحرب الخليج الثانية.
فبعد وقت قصير من اتمام عملية الوحدة اندلع صراع سياسي خفي في بداية الامر و ظاهر بعد ذلك بين المؤتمر الشعبي العام الذي كان الحزب الحاكم في الشمال و الحزب الاشتراكي الذي كان حاكما في الجنوب. و لقد كان لهذا الصراع اثارا مدمرة على الاقتصاد اليمني.
ورغم أن عودة المغتربين كانت قد بدأت بشكل تدريجي منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي نتيجة لتشبع أسواق العمالة الخليجية وعدم قدرة العمالة اليمنية غير الماهرة على منافسة العمالة الأخرى، إلاّ أن عودة أعداد كبيرة في وقت واحد كانت له آثار مدمرة على الاقتصاد اليمني الذي لا يملك المقومات الأساسية لاستيعابهم. و لقد ترتب على ذلك تدني معدل النمو الاقتصادي الذي كان سالبا. و يمكن القول بان الاقتصاد اليمني كان على وشك الانهيار.
و قد تجاهلت برامج الحكومات المتعاقبة المشاكل التي اعترضت قوة العمل اليمني. فبرامج الاصلاح الاقتصادي التي اعقبت الازمة الكبيرة التي حدثت في عام 1994 لم يؤل اي اهتمام بعنصر العمل. فهذه البرامج سواء ما اطلق عليها برامج التثبيت أو برامج اعادة الهيكلة و سواء تلك التي تبناها صندوق النقد الدولي أو تلك التي تبنها البنك الدولي قد تجاهلت الاثار السلبية لها على عنصر العمل. فبمجملها قد تبنت سياسيات تقشفية و لم يرافق ذلك اي برامج لتنشط العمل و التقليل من اثر السياسات التقشفية على العمل.
و لسوء الحظ فان هذا النهج ظل مستمر حتى الوقت الحاضر. ففي عام 2006 كانت هناك محاولة جديد لإصلاح الاقتصاد اليمني إلا أن هذه المحاولة توقفت تماماً في عام 2007. وعلى الرغم من ذلك فان الاوضاع الاقتصادية لم تتحسن. فقد ظل الاقتصاد اليمني يعاني من نمو اقتصادي ضعيف لم يتجاوز 3 %. و قد ترافق ذلك مع ارتفاع معدل البطالة إلى معدلات قياسية تتجاوز 40 % و انخفاض معدل الدخل الحقيقي و تصاعد كبير في مستويات الاسعار.
و من الواضح ان عدم استقرار الأسعار في اليمن الذي يمكن القول بأنه ظل لفترة طويلة يعاني من تضخم مزمن قد اثر و بشكل سلبي على العمل و البطالة. فعلى سبيل المثال فان عدم استقرار العملة المحلية قد اثر الانتاج المحلي و لصالح الاستيراد الخارجي.
فقد ظلت الموازنة العامة تعاني من عجز مزمن سواء من خلال معدل عجز الموازنة الظاهر أو الخفي و المتمثل في الالتزامات الحكومية التي يتم تأجيلها من سنة إلى أخرى. و قد ترتب على ذلك ارتفاع الدين العام الداخلي ووصوله إلى أحجام كبيرة تهدد التوازن الداخلي. و من الواضح أن الدين العام الداخلي والخارجي قد وصل في الوقت الحاضر إلى مستويات غير آمنة. إذ يبلغ حجم الدين العام الداخلي ما يقرب من 40 % من الناتج المحلي و يبلغ حجم الدين الخارجي ما يقرب من 30 % من الناتج المحلي الإجمالي، أي أن حجم الدين العام بنوعيه يقرب من 70 % من الناتج المحلي.
و يمكن القول إن هذه التشوهات في الاقتصاد اليمني ترجع إلى عوامل اساسية هي عدم استغلال قوة العمل المتاحة و ضعف الادخار و تدني مستوى الاستثمار.
عدم استغلال قوة العمل
و بالاضافة إلى هذه الموارد الطبيعية فإن الله قد حبا اليمن قوة عمل كافية لاستغلالها و لكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعا. اذ يبلغ سكان اليمن في الوقت الحاضر اكثر من 23 مليون نسمة. و يتزايد السكان بمعدل مرتفع يبلغ حوالي 3 % سنوياً. ولقد ترتب على ذلك فقد ارتفع عدد السكان في سن العمل ( 15 سنة فأكثر) من 7.6 مليون في عام 1995 إلى 9.3 مليون في عام 2000 وبمعدل نمو سنوي قدره 4.1 %. و ما من شك انه و منذ ذلك والوقت و قوة العمل تتزايد بنفس المعدل تقريبا.
و في المقابل فان فرص العمل الجديدة لم تزدد بنفس المعدل بل انه يمكن القول بانها قد تكون تتناقص عاما بعد عام بدليل ارتفاع معدلات البطالة خلال السنوات الماضية. و لقد ترتب على ذلك عدم قدرة سوق العمل اليمنية استيعاب كل من هم في سن العمل لاعتبارات متعددة.
و يعاني اليمن من تدني نسب مشاركة القوى العاملة في سوق العمل خلال السنوات الماضية. فقد بلغت نسبة مشاركة القوى العاملة في عام 2000 حوالي 56 % و تتوزع على النحو التالي. نسبة مشاركة الذكور حوالي 35 % ونسبة مشاركة الإناث حوالي 11 %. ويلاحظ تغير ملموس في هيكلية القوى العاملة خلال الفترة من 1995 إلى 2000. إذ كانت نسبة المشاركة الإجمالية في عام 1995 حوالي 46 % موزعة على النحو التالي: نسبة مشاركة الذكور حوالي 37 % ونسبة مشاركة الإناث حوالي 9 %.
فمن الواضح ان التفكير غير المنضبط أسهل من التفكير المنظم و المهدف لأنه يتطلب طاقة اقل و لأنه لا يحتم بالضرورة أتباع ذلك ببذل الطاقة الجسمية و التي تعد أصعب من ذلك بكثير. من الواضح ان العديد من أفراد المجتمع اليمني يعانون من عدم الانضباط. فالعديد منهم يفضلون الكسل على العمل و التبذير على الادخار و العشوائية على التنظيم و الاكتفاء بما هو موجود على السعي إلى الأفضل. و لأدراك حجم ذلك فما على الر اغبين في ذلك إلا ان يلاحظوا كم من الوقت ينفقون على أعمالهم. فعلى سبيل المثال فان الموظف الحكومي أو المدرس أو الشرطي أو غير هم لا ينفقون على أعمالهم إلا النزر اليسير من أوقاتهم. فان كان لا يرغب في تقييم نفسه فما عليه إلا ان يراقب الوقت التي يبذله زملاؤه في العمل أي عمل. فلا شك بان من يفعل ذلك سيصاب بصدمة كبيرة.
و يعني اليمن من تدني و اختلال في مستويات الاجور و معدلاتها سواء لدى أولئك العاملين لدى الجهاز الحكومي أو العاملين لدى القطاع العام أو العاملين لدى القطاع الخاص. و يرجع ذلك إلى تخلف سوق العمل في اليمن. فإذا كان من المفروض أن تتحدد الأجور في القطاع الخاص من خلال التفاوض الحر بين العامل والمستخدم فان ذلك لم يحدث بشكل كامل. ومن الواضح ان نظام الاجور في القطاع الخاص قد تاثر بشكل سلبي بما يجري في سوق العمل الحكومي. فالأجور في القطاع الحكومي تتحدد وفقا للائحة الأجور والمرتبات التي تصدرها وزارة الخدمة المدنية و التي لا تخضع لأي معايير موضوعية سواء العشوائية و المحسوبية و العوامل السياسية. إن مثل هذه الممارسة قد وضعت قيودا على تحرك الأجور الاسمية مما يفسر انخفاض الأجور الحقيقية.. و يعاني اليمن من اختلالات الخطيرة في أسواق العمل في اليمن ترجع إلى عدد من العوامل. و لعل من اهمها اغفال الاعتبارات الاقتصادية فيما يخص تنظيم و ادارة سوق العمل و ذلك لصالح الاعتبارات الايديولوجية و السياسية و الاجتماعية. و يمكن القول انه كان من المفترض ان يتم التقليل من هذه الاعتبارات بعد قيام الوحدة في عام 1990 و لكن في الواقع فانه يمكن القول بان الامور قد زادت الأمر سوءا. و يرجع ذلك إلى فشل الحكومات المتعاقبة في إقامة المؤسسات القادرة على إدارة الاقتصاد بكفاءة عالية.
فقد تم تسييس الوظيفة العامة عن طريق التقاسم الأمر الذي أدى إلى زيادة التوظيف العام بدون ضوابط أو حدود. و تم أيضا التلاعب في معايير الترقية و التعيين. و كانت نتيجة ذلك كله جهاز بيروقراطي متضخم و غير متناسق و غير منسجم. الأمر الذي شل الأجهزة الحكومية و أعاقها عن العمل. و لا زال الاقتصاد اليمني يعاني من هذه الظاهرة إلى يومنا هذا حيث لم تنجح المحاولات المختلفة لإصلاح الخدمة المدنية.
لم يتوقف اثر ذلك على أداء الخدمة المدنية و إنما امتد ليشمل التأثير السلبي على التفوق في المجال التعليمي و على إقبال القوى العاملة على وظائف القطاع الخاص. و بشكل عام لقد اثر ذلك على الأداء الاقتصادي الكلي.
و على هذا الاساس فإنه يمكن القول إن اليمن تعد ضمن أكثر الدول سكاناً في الجزيرة العربية و لكنها الاقل استغلالاً لها. و من حسن حظ اليمن انه مجاور للعديد من الدول ذات الجذب العالي لليد العاملة على مستوى العالم تقريباً. و قد كان بإمكان اليمن ان يستفيد من ذلك إذا ما أحسن استخدام عنصره البشري بكفاءة عالية. و لكنه للأسف لم يعمل على اقتناص مثل هذه الفرص.
و لا شك أن ممارسات كهذه قد أثرت سلباً على امكانية انطلاق عملية التنمية المستدامة. فمن المتعارف عليه في الادبيات الاقتصادية الحديثة ان عملية التنمية المستدامة لا تعتمد كثيراً على الموارد الطبيعية و انما تعتمد و بشكل اساسي على الكيفية التي تستغل بها هذه الموارد. و لا شك ان عملية استغلال هذه الموارد لا يمكن ان يتم من غير استغلال قوة العمل.. وعلى هذا الاساس فإنه يمكن القول ان اطلاق اي عملية تنمية مستدامة يحتم اطلاق طاقة العمل الانساني أولاً و حسن ادارة ذلك ثانياً. فنهاك من الشواهد و الدلائل ما يكفي على التدليل على حقيقة ان توفر قدر كبير من الموارد الطبيعية قد يكون عائقاً كبيراً امام تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة ما لم يتم اطلاق طاقة العمل الانساني أولاً. . الا ترى أن العديد من الدول التي لديها مصادر الطاقة الكبيرة مثل النفط و الغاز لم تنجح في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة حتى الآن. و كذلك الا ترى ان بعض الدول المحدودة الموارد الطبيعية قد نجحت في ذلك.. و نظراً لعدم ادراك النخب السياسية والاقتصادية لذلك فقد فشلت كل المحاولات التي اطلقت من اجل تحقيق التنمية المستدامة. فما من شك بان ذلك يرجع إلى اغفال اهمية عنصر العمل.
يتبع