قد يكون من المبكر أن تُصدر الأحكام وتطلق التصورات حول المرحلة التي يعيشها يمن ما بعد الرئيس السابق علي عبدالله صالح، لأننا لم نصل إلى الحالة التي يمكن عندها القول: إن اللحظة قد حانت لأن يقال كل شيء، بعيدا عن تأثير أي شيء، بل إن ما يزيد من وجوب التزام التأني وإمعان النظر، أن المشهد اليمني يبدو من يوم لآخر في تبدل وتشكل، وانفراج وتأزم، سواء في الجانب السياسي أو الجانب الأمني، ومن ذلك: التطور الخطير في العلميات المسلحة التي ينفذها تنظيم القاعدة عبر فصيل منه يسمى"أنصار الشريعة" في بعض مناطق الجنوب والشرق، وكذا دخول عنصر جديد في العملية السياسية للمرحلة القادمة من جماعة التيار السلفي، الأمر الذي يشي بحصول مستجدات سياسية كثيرة تجعل من القادم أكثر حيوية وأغزر تنوعا وصخبا.
لكن ما سبق لا يمنعنا من استشراف المشهد وتكوين القاعدة الأولى لإدراك ما جرى ويجري، وهو ما لا يمنعنا كذلك من التساؤل: هل استفدنا من دروس الماضي أم أنسانا ضخب التبدل والتشكل والتصادم أن نتذكر تلك الدروس ونعي ما يحيكه ضدنا سُرّاق الأحلام القادمون من وراء الحدود؟ إن التجاذب الشديد على صنع القادم على الهيئة المرغوبة لكل طرف من أطراف الحراك الثوري من جهة وقوى العهد السابق المنخرطة في العملية السياسية التوافقية من جهة أخرى، وبروز أصحاب الرايات السود الرافضون جملة وتفصيلا كل ما يجري، كل ذلك يجعل القادمين من وراء الحدود يسعون حثيثا ليكونوا في النهاية المصب لكل تدفق إيجابي يحمله هذا التدافع؛ وبعبارة أوضح؛ أقول: إن الغرب ومعهم الولايات المتحدة الأمريكية، وكذا بعض الدول على حافة الخليج؛ كالسعودية وإيران، كلها، منفردة أو مجتمعة، يسعون لأن تكون أهدافهم مقدَّمة على الجميع، أو أنها-على الأقل- تكون عديمة التقاطع مع مصالحهم. إنني إزاء كل هذا، أثق أننا قد نكون على درجة من السذاجة لو حاولنا تصور الواقع على أنه غير ذلك، أو أن أحدنا أبدى امتعاضا من هذا القول!!
نحن اليمنيين لم نشعر بالقوة-رغم امتلاك أسبابها المتعددة- في مراحل تاريخية كثيرة، بحيث يكون لنا موقف إقليمي معلوم كالذي تضطلع به بعض الكيانات المحيطة بنا، كموقفها المعلوم مما يجري في اليمن والبحرين وسوريا وليبيا وغيرها، أو أن يكون لنا موقف معبر عن التوازن في القوى التي يجب أن تكون موجودة في هذه المنطقة الحرجة من العالم، لكنه مع انعدام ذلك الشعور، سنكون دائما محل اغتنام للآخر، وساحة اصطراع على المقدرات التي نتمتع بها، مادام لم يُحِط مبصر واحد من قادة هذا البلد بما يملأ عينيه فخرا ويزيده ثقة وحماسا من عِظم تأثير هذه المقدرات في مكانة اليمن، وحين يحوّل بعض رجالها ذلك الإدراك إلى سلاح مضاد لها، فيسقطون غير مأسوف عليهم عند كل غضبة شعبية، ونقاد جميعا مع فوضاها إلى خانة العملية التسلسلية للتابع والمتبوع، والمؤثر والمتأثر، التي تجري تواليا منذ قرون.
بالعودة إلى ما اصطخب في هذه البلاد من أحداث، نجد أن ما يجري اليوم يبدو شديد التماثل مع ما جرى عقب ثورة 1962م وما تبعها من أحداث ثورية وانقلابية مشابهة، ولذلك، قد تكون أسوأ التوقعات التي تؤخذ على هذا القياس، أن الأيام القادمة ستشهد الحالة ذاتها من الصراع السياسي والعسكري والفكري، وتتزاحم التدخلات الخارجية المختلفة، وهو احتمال وارد رغم التطور السياسي والفكري للأطراف الداخلية، كماً ونوعاً، مقارنة بحالة تلك الأطراف في تلك الحقبة، غير أن ارتباط هذه الأطراف بالأطراف الخارجية يمدها بالتواصل والتتابع، فهي ذاتها هنا وهناك، مع اختلاف طفيف في الجانبين؛ على وضوح أشخاصهما البارزين المتكررين في كل اصطراع داخلي يمني.
قد يقول قائل: ما قيمة هذا الطرح مع وضوح المشهد؟ وهل يمكن أن نتخيل يوما ما أن نكون في المكان ذاته الذي يتمتع به الآخرون من حولنا؟ إن الإجابة هي سؤال آخر، هو: لماذا لا نكون كأولئك، ونحن على طرف هام من هذا البساط الفسيح والمتجدد الأحداث؟!!
في منظور الجغرافيا السياسية، هناك ما يسمى بالدولة الحاجزة (BUFFER STATE) وهي تلك الوحدة السياسية الصغيرة الحجم، التي تقع بين كيانين أو كيانات سياسية كبيرة ذات مواقف غير متوافقة في الغالب، بحيث تشكل هذه الدولة عامل منع أو حجز لأي تصادم محتمل بين هذه الكيانات الكبيرة، ولذلك تظل هذه الدولة محل رصد مستمر من قبل كل من هذه الكيانات، وهو ما يبرر ظهور مقاومة لأي فعل يراد منه القضاء على هذه الدولة، أو تحولها هي إلى قوة أخرى مثيرة للإزعاج لتلك القوى.
ومن هنا، إذا كان هذا الذي يجري في اليمن هو على هذا النحو، في ظل تعاظم التنافس الإيراني السعودي في المنطقة، واختلاط مصالح الغرب مع كل منهما، فهل اليمن على هذا التوصيف بحيث تكون كذلك؟ وهل نحن-جغرافيا وتاريخيا وديموجرافيا- بنفس ذلك الوضع الذي دُفعت إليه دول من نفس المنطقة، كالبحرين والكويت لأن تكونا دولا حاجزة بين القوى المتنافسة اليوم، أو تلك التي خرجت من حلبة التنافس مع حدوث حرب الخليج الثانية والثالثة؟
يخيل لي أن اندماج اليمن في كيان سياسي واحد عام 1990م، زاد من من جعل اليمن قوة مرصودة من قبل أطراف شتى، قريبة وبعيدة، ومتباينة المصالح أيضا، وأن قدَر هذا البلد أن يكون ممنوعا من أن يكون على درجة من القوة التي تجعل منه مصدر إزعاج كبير لأي من القوى الظاهرة أو المعلومة بالتخفي؛ أعني بالأخيرة الكيان الصهيوني، وسبيل ذلك هو الاستثمار الذكي لصراعات القوى الداخلية المؤثرة فيه، التي تقع كثيرا في فخاخ ذلك المتسلل من خارج الحدود، تحت ذرائع ومغريات شتى، أبرز تلك الذرائع؛ الدين، وأقوى تلك المغريات؛ المال.
لقد كانت اليمن مسرح تنافس واصطراع لقوى كثيرة، كالرومان والأحباش والفرس، ثم اقتتل عليها البرتغالويون والفرنسيون والإنجليز، وتداخل معهم العثمانيون في أكثر من سجال، ثم جاء رجال العالم الجديد بلبوس جديد من السيطرة الحديدية الناعمة، وكان المشهد يجري على ترددات متقاربة، فالهدف الهدف، والرجال الرجال.. واليمن هي ذاتها؛ ذلك المكان الحيوي في ذلك البساط الساخن.
إذن، من يا ترى الرابح؟ القوى الداخلية المصطرعة، أم المتسللون من خارج حدود الجغرافيا، قديمهم وحديثهم؟ أم اليمن كيانا وكينونة؟ أحسب أن اليمن-في النهاية- لن يكون له من ذلك إلا ما يناله تفضلا من أولئك المصطرعين، لكنه يبقى على فَناء أولئك في انتظار سجالات أخرى!!
*باحث في شئون النزاعات المسلحة