تميزت علاقات اليمن بأوروبا الحديثة، دوماً بتعاطف هذه الأخيرة مع البلد العربي الأكثر فقراً، وهي علاقات تمتد إلى النصف الأول من القرن العشرين، ناهيك عن أن بريطانيا كانت تحتل الجزء الجنوبي من اليمن منذ عام 1839 حتى العام 1967، لينتقل الاستقطاب الأوروبي مع اليمن بشطريه إلى مرحلة جديدة.
فالجنوب الاشتراكي الذي استقل للتو، أقام علاقات وثيقة بأوروبا الشرقية ضمن علاقاته الاستراتيجية بالمعسكر الشيوعي، الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي، فيما بدأت أوروبا الغربية تولي اهتماما ملحوظا باليمن الشمالي منذ انتهاء الحرب الأهلية، وإنجاز المصالحة الوطنية عام 1970، والذي كان يميل سياسيا إلى الغرب والدول العربية المحافظة، مع استمرار حفاظه في ذات الوقت على علاقات متميزة بالاتحاد السوفييتي والصين، ورثها منذ عهد الرئيس الأسبق المشير عبدالله السلال.
وفيما كانت زيارات قادة الجنوب لأوروبا الشرقية لا تنقطع، فإن أول زيارة لرئيس شمالي لبلد أوروبي غربي تمت في عهد الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي، عندما قام ب «زيارة دولة» لفرنسا عام 1977 بدعوة من الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان، وكانت تلك الزيارة مفتاحاً لمرحلة جديدة في علاقات الشمال بأوروبا الغربية، لكنها لم تستمر بسبب اغتيال الرئيس الحمدي بعد تلك الزيارة بثلاثة شهور فقط..
ومن جديد فتحت فرنسا الباب مرة أخرى لليمن الشمالي عام 1984، ب«زيارة دولة» قام بها الرئيس السابق علي عبدالله صالح، لكن أياً من دول أوروبا الغربية لم توجه له أي دعوة رسمية لزيارتها خلال السنوات العشر التالية، التي كانت صورة اليمن، وكذلك صورة أوروبا قد تغيرتا خلالها. فاليمنان أصبحا يمناً واحداً، والأوروبيتان أصبحتا أوروبا واحدة عقب انهيار المعسكر الشيوعي، ومنذ نهاية حرب صيف 1994 عاودت أوروبا اهتمامها باليمن، وكان المدخل هذه المرة هو دعم برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري الذي بدأت الحكومة تنفيذه في مارس 1995.
ومنذ نهاية عام 1994 قام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، بالعديد من الزيارات في فترات مختلفة على مدى السنوات التالية، للعديد من الدول الأوروبية المانحة لليمن، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا وإيطاليا، كما أن بعض هذه الدول تبنت في فترات مختلفة عدة مؤتمرات للمانحين لليمن. وظلت الدول الأوروبية تقدم الدعم التنموي لليمن إلى جانب دعمها المستمر لبرنامج الإصلاحات منذ أوائل عام 1995، فيما تركت أغلب جوانب الدعم الأمني والعسكري للولايات المتحدة الأميركية.
فقد ظلت أوروبا تتعامل مع اليمن بتعاطف كبير كصديق تقليدي في عدة مراحل، وبدا الجانب الإنساني في هذا الدعم واضحاً وبارزاً خلال معظم تلك المراحل، لكن ذلك لا يعني أنها كانت تغض النظر عن السلبيات التي اتسم بها عهد الرئيس صالح، فقد واصلت نصحه ولم تكن تحبذ وضع شروط تعجيزية أمام نظامه لإنجاز العديد من الإصلاحات ما بين عامي 1994 و2004، وهو العام الذي بدأت فيه كل المؤشرات في اليمن بالانحدار السريع نحو الانهيار.
وانتقلت أوروبا بعد ذلك من مرحلة النصح إلى التحذير؛ فوضع الشروط، بعد أن أدركت عدم توفر المستوى المطلوب من الجدية لدى الرئيس صالح في إنجاز الإصلاحات، وانعكاس ذلك على أداء حكومته وأجهزتها بالكامل.
كانت النصائح الأوروبية تتكرر، لكن أهمها تلك التي جاءت في وقت مبكر على لسان الناطقة الرسمية باسم الرئاسة الفرنسية، عقب لقاء الرئيسين صالح وشيراك يوم 18 سبتمبر 1995، عندما قالت «إن الرئيس شيراك أبدى تقديره للجهود القائمة للمحافظة على وحدة اليمن، ودعا إلى قيام بلد ديمقراطي ودولة القانون من أجل المضي في سياسة التنمية، وذكر شيراك بأهمية الديمقراطية عاملا ضروريا للتنمية»، ومن الواضح أن صالح لم يستوعب تلك النصيحة الثمينة التي جاءت في وقت مبكر، فمن يتأمل فيها يدرك أنها تمثل رؤية استراتيجية كاملة لبناء الدولة في اليمن، اختصرتها الناطقة الفرنسية في كلمات وجيزة، وهي تعبر عن فهم دقيق لما يحتاجه هذا البلد.
وبعد خمسة عشر عاماً، تحدث وزير التنمية البريطاني خلال مؤتمر أصدقاء اليمن في لندن يناير 2010، أمام وزراء خارجية الدول دائمة العضوية ودول مجلس التعاون الخليجي وأهم الدول المانحة لليمن، محملا الرئيس صالح المسؤولية، بقوله «إن حل مشاكل اليمن في يد الرئيس صالح وحكومته»، وأن بلاده تتطلع إلى قيادته لإصلاح كل تلك الأمور التي كان أشار إليها، واختصرها في أن النزاعات ومصادر التوتر لا بد من حلها بالإصلاح السياسي، وأنه لا بد من تحلي القطاع العام بالكفاءة المطلوبة، كما أكد أن «مؤشر الفساد يبعث على القلق»، كان الوزير العمالي السابق المعروف بتعاطفه مع اليمن، يدرك أن الرئيس صالح هو القادر على حل كل تلك المشكلات المزمنة، بسبب ما يمتلكه من سلطات مطلقة في الحكم، لكن صالح نجح في إيقاف الحرب مع الحوثيين، فيما فشل في بقية المتطلبات التي طرحها مؤتمر لندن، لأنه كان قد أصبح مكبلا بمصالح أقاربه والمحيطين به، وبتركة ثقيلة من الفوضى والفساد والمحسوبية.
كان من الطبيعي أن يساند الاتحاد الأوروبي ثورة الشعب اليمني من أجل التغيير، فهو مثله مثل الولايات المتحدة الأميركية ودول مجلس التعاون الخليجي، توصل إلى نتيجة نهائية مفادها أن صالح لم يعد قادرا على الوفاء بالتزاماته في إنجاز الإصلاحات، وبالتالي لم يعد هناك خيار سوى مساندة ثورة التغيير في اليمن، وفق ذات الأسس التي أقرتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.
وفي الحقيقة، بدت الدول الأوروبية أكثر صرامة من واشنطن وعواصم الخليج تجاه صالح، فهي رفضت حتى اللحظة دخوله أراضيها، كما أنها هددت بجدية بتجميد أرصدته وعائلته، وكانت هذه الصرامة ملفتة للنظر ومثيرة للاستغراب، بحكم العلاقات الودية التي جمعت دولها الكبرى الثلاث (بريطانيا وألمانيا وفرنسا) به وبنظامه سابقاً.
وأيا كانت أسباب هذا التشدد الذي فاجأ صالح نفسه، فإن الموقف الأوروبي كان داعماً بقوة لإرادة الشعب اليمني، وبشكل أقرب للتعاطف الإنساني وأبعد عن المصالح السياسية مقارنة بالموقف الأميركي، ولذلك ينظر اليمنيون اليوم إلى الاتحاد الأوروبي كداعم جاد وحقيقي ليمن ما بعد صالح، في العديد من المجالات التنموية والسياسية، وبرز هذا التوجه من خلال زيارات وزير الخارجية الألماني ووزيري التنمية البريطاني والهولندي لليمن، لتهنئة الرئيس المنتخب عبد ربه منصور هادي خلال شهر مارس الماضي، وهي زيارات أشاعت التفاؤل في الأوساط اليمنية.