آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

تأملات شخصية حول الجيش

لقد ولى إلى غير رجعة أو أنه في طريقه إلى أن يزول، ذلك الزمن حيث كانت المؤسسة العسكرية فيه هي الحزب الحاكم في الدول النامية حديثة النشأة والتشكل الوطني، واليمن في صدارتها، وحيث كان يغدو من يتمكن من السيطرة على هذه المؤسسة هو المتحكم في مصائر المجتمعات وصاحب الكلمة العليا.

كان الجيش هو المعمل المركزي الذي ينتج ويصدر الساسة والزعماء، كان هو الهيئة الاكثر فاعلية وح...يوية وحداثة داخل المجتمع، وكان المنتمي إليها يحصل على مكانة مميزة في المجتمع ما تلبث هذه المكانة أن تصبح في مستوى ما دورا سياسيا، وكانت الصراعات على السلطة تحسم من خلاله بالذات.

لا أحد يريد أن يصدق بأن تغيرا فائقا ويكاد يكون جذريا، يمس وظيفة الجيش ومعناه ودوره والتصور الذي يحمله الناس عنه. يحدث هذا في اليمن مثلما حدث في بلدان كثير لها خصائص شبيهة باليمن.

علي عبدالله صالح كان يتصرف على هذا الاساس، وحاول أن يصوغ الجيش باعتباره منبع الشرعية وأساسها الاصلي، ليس لمصلحة الدولة ولكن لحماية حكمه وتثبيته وتأبيده وإن سنحت الفرصة فتوريثه أيضا.

كان الجيش يحضر كقوة كابحة ومفزعة للمجموعات المعارضة التي كانت تمارس نشاطها وفي حسبانها حقيقة أنها عزلاء تفتقر لكل اسباب القوة المادية في مواجهة حكم يمتلك كل ادوات العنف ويواظب على التسوق وعقد الصفقات.

إذن ما هو البديل؟ اخترع المخ البشري بواسطة رجال عظام مثل غاندي ومانديلا ومارتن لوثر كينج، فكرة اللاعنف المطلق للتغلب على العنف المطلق. وهذا يعني ان الاعزل الضعيف بوسعه أن يصنع من ضعفه قوة جبارة يبطل بها مفعول سلاح المسلح وقوة القوي المتكبر وتحاصره وتعريه وتنهكه أخلاقيا وتضعه وجها لوجه أمام قبحه.

الكفاح السلمي بالاساس مصمم لافقاد الجيوش المستعملة لغير ما يفترض أن تستعمل له، قيمتها وفاعليتها.

ثمة من اشترك في الصراع الحالي في اليمن بالوعي القديم لدور الجيش، وبنفس خبرة صالح التاريخية حيال هذه المؤسسة التي يدين لها بالفضل في وصوله إلى سدة الحكم، هؤلاء هم أكثر من لا يرغب في استيعاب التغيرات على صعيد الوعي بالاشياء ومعانيها.

لكننا نريد ان يصب هذا التغير في تصورنا لوظيفة الجيش لحساب الدولة لا أن ينتهي إلى تمزيق وتحلل للجيش بالشكل الذي نراه الآن.

إننا نمر بنقطة تحول حرجة قد تفضي إلى تمزق وقد تفضي إلى حالة جديدة عصرية يكون فيها الجيش قوة تحكيمية لا حاكمة ولا متحكمة. هذا يعني أن على الساسة ان يتركوا السباق والاستقطاب السياسي داخل الجيش. انشق جانب من الجيش لكن هل كان في مقدوره أن يحسم الصراع ويؤسس لشرعية ثورية بالعنف؟ مستحيل. بالمقابل حافظ علي صالح على اكثرية الجيش، فهل أفاده ذلك شيئا في تركيع خصومه واستعادة السيطرة على مقاليد حكمه؟ مستحيل ايضا.

كان زمان التمرد في الجيش يعني تمرد، كان يمثل خطر ماحق. الآن يتمرد قائد القوات الجوية ثم لا يحدث شيء، ويبدو تمرده بائسا وعديم المعنى. كم من القلق والاستنفار كان سيثيره تصرف كهذا زمان؟ ألا يوحي هذا بشيء؟ هذا ما عنيته في السطور السابقة.

اصرفوا أنظاركم عن الجيش وفتشوا عن مصادر للشرعية لا علاقة لها بالعنف وأدواته ومحترفيه. يجب أن تعاد صياغتة الجيش بما يتلاءم مع معناه ووظيفته الجديدة بعيدا عن تأثيرات واهواء أطراف الصراع السياسي التي يقع على عاتقها البحث عن طرق لبناء مختلف للدولة والمساهمة في دمج المليشيات والجماعات المسلحة في العملية السياسية واقناعهم بعبثية ما يراهنوا عليه، لكي تكون الدولة في الاخير هي وحدها المحتكرة لادوات العنف ومجالات استخدامه.

زر الذهاب إلى الأعلى