لا يكاد يمر أسبوع إلا وتنشر فيه بعض الصحف والمواقع الإخبارية اليمنية أخباراً نارية تلقى إقبالاً واسعا من القرّاء ويتم تناقلها بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي وبين الناس، وعلى أساسها يحلل المحللون ويفسر المفسرون ويتنبأ المتنبؤون وتُصدر البيانات الشاجبة والمستنكرة..
وبعد أيام من هذه الفوضى، يتضح بأن تلك الأخبار التي انتشرت وأثارت هذه الزوابع وعززت الكراهية بين الناس ليست صحيحة نهائياً.. مجرد كذبة صنعها بعض الضعفاء من أجل زيادة عدد مبيعات صحفهم أو زيادة الزيارات لمواقعهم أو حتى زيادة الاعجابات في الفيس بوك..!
وعندما نعود بأبصارنا إلى من نشروا هذه الأخبار الكاذبة مستنكرين أداءهم غير المهني وغير الوطني، ينبري بعض المثقفين لشرعنة مثل هذا الأداء الصحفي غير المسؤول، رافعين شعارات: حرية سقفها السماء.. لا لتكميم الأفواه.. لا لاستهداف الصحفيين والمدونين.. وغيرها من الشعارات التي يرفعها أصحابها متمترسين خلف مبدأ حرية التعبير..!!
لايزال بعض الزملاء يتحدثون عن الحرية المطلقة، وعندما تسألهم عن الهدف والفائدة؟ يقولون إن الإنسان خُلق حراً، وبالتالي هو حر فيما يقول، وأن الحرية المطلقة تخدم المجتمعات.
يضيف بعضهم قائلاً: الإنسان حر في كل ما يقول، والمتلقي حر في تصديق ما يُقال أو تكذيبه. ولهؤلاء أقول: هل كل إنسان في هذا المجتمع يستطيع التمييز بين ما ينفعه وما يضره؟
إذا كانت الاجابة بنعم، سأعترف هنا بأن حرية التعبير يجب أن تكون مطلقة لا حدود لها ولا قيود عليها، لأن الإنسان في هذه الحالة لن يكون معرضاً لارتكاب الأخطاء سواء بالقول أو بالفعل وبالتالي لن يتضرر المجتمع من حريته المطلقه. أما إذا كانت الإجابة بلا – وهي كذلك من وجهة نظر علمية - فهذا يدفعنا لطرح سؤال آخر: إذا كان الإنسان لا يستطيع التمييز بين ما ينفعه وما يضره، فهل من مصلحة المجتمع ككل أن يقول الأفراد فيه أو يفعلوا ما يشاؤون دون حدود وضوابط تحكم آراءهم وأفعالهم؟
مرة أخرة، ومن وجهة نظر علمية الاجابة هي: لا ، ومن هذا المنطلق نصر على القول: إن الحرية لا يجب أن تكون مطلقة، ولا يوجد حرية سقفها السماء. وهذه حقيقة تؤمن بها الدول الغربية الراعية لمبدأ حرية التعبير، ولكننا للأسف فهمنا الحرية بشكل يقودنا إلى التدمير وليس البناء..!
يجب تحديد سقف للحرية الصحفية كي لا يُقهر الشعوب عند تضليلها إعلامياً إذا ما اعتمدنا مقولة فيلسوف الحرية في العالم الثالث البرازيلي "باولو فريري" حيث قال: إن تضليل عقول البشر أداة للقهر.
يكون الإعلام أداة للقهر وظلم الشعوب إذا عمل على تطويع الجماهير لأهداف شخصية أو فئوية أو طائفية بعيدة عن مصلحة الوطن ككل، عن طريق الأخبار الكاذبة والملفقة.
يعترف "جون ستيوارت ميل" وهو مفكر بريطاني كتب كثيراً عن الحرية بإن: "الحرية لايمكن أن تكون مطلقة، وأنه ما من جماعة بشرية إلا ووضعت قيوداً على حرية التعبير، وأن أهم قيد يجب أن يتم وضعه على الحرية هو قيد الضمير"..!
وعندما نتحدث عن الضمير الصحفي اليمني، سنجده هذه الأيام في إجازة، ولهذا نجد صحافتنا صحافة "متفرطات" وكلمة متفرطات باللهجة الصنعانية تعني: النساء اللاتي يجتمعن في المجالس من أجل مضغ القات في المناسبات الخاصة.
عندما نتتبع عناوين الأخبار في كثير من الصحف والمواقع الإخبارية اليمنية، نجدها لا تختلف عما يقال في بعض مجالس "المتفرطات" من تناقل الاشاعات والافتراء على الناس ووضع البهارات على الأحداث والحديث عن فلانة وعلانة بدون دليل ولا بينة, فقط لمجرد لأن فلانًا قال لعلان أو لأن فلانة تريد أن تكيد لأخرى..!
مسؤوليتنا الاجتماعية تجاه هذا الوطن المتعب لا تلزمنا فقط عدم نشر الأخبار الكاذبة، ولكن أيضاً الحرص على عدم ذكر الأخبار التي قد تكون سبباً في إثارة النعرات أو تستخدم كوسيلة للتحريض الذي قد يؤدي إلى العنف حتى لو كانت هذه الأخبار صحيحة.. نعم، هناك أخبار لا يجب أن تظهر لعامة الناس لأنها ستكون سبباً في التعقيد والتأزيم والاضرار بالمجتمع صاحب الأغلبية الأمية والتركيبة الاجتماعية المعقدة.
حرية التعبير يا معشر الصحفيين وسيلة وليست غاية، فإذا قدمت للمجتمع منفعة كانت خيراً، وإذا أسهمت في صناعة الفوضى والأزمات والكراهية فهي شر مطلق يجب مواجهته بقوة.