في بلد يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خطوط الفقر و35% من قوة العمل بلا عمل، وفي دولة ريعية كاليمن حيث يرتهن مجمل ناتج النشاط الاقتصادي الكلي بنحو ثلث قيمته على ما تضخه الدولة من مواردها في قنوات الاقتصاد يصبح عجز الموازنة المزمن هو المرض الخطير الذي يهدد الاقتصاد اليمني بل والمجتمع كله بالإفلاس والهلاك.
وعلى الرغم أن هذه الحالة المزمنة تمتد إلى تأريخ ميلاد الجمهورية اليمنية - مع سنوات قليلة متفرقة من الانفراج النسبي مصاحبا لمرحلة الاصلاحات الاقتصادية والمالية التي تمت في منتصف التسعينيات - فإن معالجات اقتصادية هيكلية جادة لهذا المرض لم تحدث حتى الآن. كل حكومة سابقة توّرثُ لما بعدها جبلا شاهقا من الديون المحلية والخارجية كمحصلة لهذا العجز. والنتيجة ضغط عنيف متواصل على فقرات العمود الفقري "للاقتصاد اليمني" الرخو تكاد تصيب جسده كله بالشلل التام.
في عام 2012 بلغ عجز الموازنة الفعلي - بحسب المصادر الرسمية -(-3.2%) من الناتج المحلي الاجمالي، وهو ما تفسره الأدبيات الاقتصادية على أنه في الحدود الآمنة. ارتفع هذا العجز إلى (-9%) في موازنة العام الحالي استنادا إلى نفس المصادر، أي بمعدل ثلاثة أضعاف تقريبا عن العام الذي سبقه. وكلما تصاعد العجز في الموازنة كلما اندفعت الحكومة إلى المزيد من الاستدانة أو التمويل بالعجز (طبع النقود الورقية كما حدث مطلع هذا العام)، والذي يقود البلاد إلى الإفلاس. وحينئذ تصبح نسباً متزايدة من الأصول المالية والاقتصادية للمجتمع ملكًا للغير، ويتعين على مواطني هذا البلد أن يوظفوا طاقاتهم ومواردهم لا من أجل ان يحسنوا مستوى معيشتهم ويوفرا فرص عمل للعاطلين وإخراج الفقراء من براثن الفقر، ولكن لتسديد ما عليهم من ديون للغير، استدانتها الدولة لأنشطة غير منتجة.
في فبراير من العام الحالي بلغ إجمالي الديون العامة المحلية (الحكومة والمؤسسات العامة) 1.034 تريليون ريال، وإذا أضفنا إليها حجم الدين العام الخارجي لليمن والبالغ اليوم 7.2 مليار دولار، أو ما يساوي 1.548 تريليون ريال يمني،فإن مبلغ الدين العام المحلي والخارجي يقفز إلى 2.582 تريليون ريال ( ما يعادل 35% من الناتج المحلي الاجمالي لليمن لعام 2013) ينبغي على اليمن أن تسدده على سنوات للدائنين مع الفوائد.. بعبارة اخرى كل ريال ينتجه الاقتصاد اليمني هذا العام، فإن 35 فلسا منه من المفترض أن يذهب لتسديد هذا الدين وليس للنمو والرخاء ومعالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية الحرجة والملحة التي يعاني منها الاقتصادي اليمني.
اليوم تتظافر عوامل كثيرة في دفع الاقتصاد اليمني نحو الافلاس، من بينها الحالة الأمنية غير المستقرة التي تعمل قوى الثورة المضادة بكل الوسائل على زعزتها. وهي البيئة الطاردة التي تحول دون تدفق الاستثمارات المحلية والأجنبية الضرورية لخلق اقتصاد وطني دينامي متوازن ومتنوع قطاعيا. ومن دون هذه الاستثمارات وهذا التنوع القطاعي سيظل الاقتصاد اليمني راكدا لا يعرف الحياة ولا الازدهار. العامل الثاني تقع على عمليات التخريب المستمرة لأنابيب النفط والغاز وخطوط الطاقة الكهربائية التي تكبد الاقتصاد الوطني خسائر باهظة لا تقل عن 2-3 مليار دولار سنويا وتحمّل الموازنة العامة أوزارا ثقيلة كان من الممكن توجيهها نحو برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تعود على المواطن اليمني بالنفع المباشر. العامل الثالث هو الفساد الواسع والمستشري في جسد الجهاز الإداري للدولة الذي يكبد الموازنة والمجتمع خسائر كبيرة ويهدر أموالا هائلة.
أما العامل الرابع يتمثل في ضعف وكفاءة هذا الجهاز على إدارة الموارد المالية المتاحة والمحدودة بكفاءة عالية لدرجة أنه لم يعد أمام المرحلة الانتقالية سوى أقل من عام لاستغلال التعهدات المالية للمانحين التي حُشِدت لمساندتها، والحكومة اليمنية غير قادرة على توظيفها لتحريك الاقتصاد اليمني والتخفيف من حالة الفقر والبطالة والاحتقان الاجتماعي التي تنهش كلها مجتمعة جسد المجتمع وتمزق نسيجه. هذا كله يضاعف ويهدد مسار العملية الانتقالية السلمية في هذه البلاد.
جميع هذه العوامل المذكورة وغيرها تفرض حصارا خانقا على قدرة الاقتصاد اليمني في خلق الثروة وتراكم الاصول المالية والاقتصادية التي كان من الممكن ان ترفد موزانة الدولة بالموارد الضرورية لقيام هذه الدولة بواجباتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والدفاعية فتقع الموازنة في مزيد من العجز الذي يدفع بالدولة إلى مزيد من الاستدانة أو مزيد من طبع النقود الورقية بلا غطاء، ومن ثم السير بالاقتصاد نحو الإفلاس التام.
القرارات الثورية الجريئة التي أصدرها رئيس الجمهورية الخميس الماضي لتعزيز مسار عملية هيكلة المؤسسة العسكرية تشكل بارقة أمل للحيلولة دون التدحرج المستمر نحو الهاوية والإفلاس. مثل هذا القرارات إن تم مساندتها بفعل حكومي نشط وفعال على الأرض وخصوصا في المجال الاقتصادي، بالاضافة إلى ضرورة مساندة المجتمع اليمني وأصدقائه مساندة فعلية من شأنها أن تشيد حائطا منيعا بين اليمن وبين الإفلاس.