يلاحظ المتابع لأدبيات الفكر الإستراتيجي الإيراني منذ بداية العقد الماضي وجود رؤية واضحة حول أولوية أفريقيا في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية. فقد اتسع نطاق العلاقات الإيرانية الأفريقية بشكل كبير منذ بداية الألفية الجديدة. وعلى سبيل المثال تمتلك إيران سفارات في أكثر من 30 دولة أفريقية. وفي منتصف 2010 عقدت القمة الأفريقية الإيرانية في طهران بمشاركة ممثلين عن 40 دولة أفريقية بينهم رؤساء ووزراء ودبلوماسيون ورجال أعمال.
أضف إلى ذلك أن إيران باتت تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي. وما فتئت القيادة الإيرانية على مستوى الرئاسة وكبار المسؤولين تزور العواصم الأفريقية بشكل دوري. ولعل الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس أحمدي نجاد في منتصف أبريل/نيسان 2013 إلى كل من غانا وبنين والنيجر تعكس هذه الهجمة الإيرانية الناعمة على أفريقيا.
ومن اللافت للانتباه أن قراءة الملف الإيراني الأفريقي تعكس تبانيا واضحا في الرؤى والتوجهات. فثمة نفر من الكتاب يقف بشكل تبسيطي، وإن كان فيه قدر من الصحة عند حدود التبشير ونشر المذهب الشيعي.
وهناك من يقف عند حدود الأمني والعسكري، ويتحدث عن مخاطر الوجود الإيراني بالنسبة لتنامي النزعات الراديكالية المناوئة للغرب في أفريقيا. ولا شك أن هناك أبعادا ودلالات أخرى كثيرة تفسر لنا حقيقة التدافع الإيراني الكبير نحو أفريقيا، وهو ما نحاول أن نبينه في هذا المقال.
القوى الناعمة الإيرانية
لعل أحد الأهداف الإستراتيجية الكبرى لإيران في أفريقيا يتمثل في محاولة كسر حاجز العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، إذ ترى إيران في القارة الأفريقية ساحة سهلة المنال من أجل كسب التأثير والنفوذ. ولا يخفى في هذا المجال القوة التصويتية لأفريقيا في المحافل والمنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس محافظي الهيئة الدولية للطاقة النووية ومجموعة دول عدم الانحياز ومنظمة التعاون الإسلامي.
فالصوت الأفريقي إن لم يكن مساندا لإيران فهو على الأقل في كثير من الأحيان ليس معاديا لها، حيث تميل بعض الدول الأفريقية إلى الامتناع عن التصويت عند مناقشة الملف الإيراني.
إن التهديد بفرض مزيد من العقوبات النفطية على إيران قد دفعها لتنويع صادراتها النفطية لتشمل الاقتصاديات النامية في أفريقيا. وتعمد إيران، كما هو الحال في أميركا اللاتينية، إلى كسب عقول وقلوب الأفارقة من خلال المساعدة في بناء مشروعات البنية التحتية للطاقة وتجديد مصافي النفط وبناء محطات توليد الكهرباء وحتى تقديم خبرتها التكنولوجية قي مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
وعلى صعيد التبادل التجاري أبدت إيران استعدادا لشراء الكاكاو من غانا، كما قامت بإنشاء مصنع لإنتاج سيارات الأجرة في السنغال. ومن الملاحظ أن صادرات السيارات الإيرانية لكل من السودان والسنغال قد أسهمت بشكل كبير في إحداث رواج لسوق السيارات في الداخل الإيراني.
وفي المجال الثقافي تحاول إيران طرح نفسها بديلا للعقلية الاستعمارية الجديدة وللنوايا الإمبريالية الغربية في أفريقيا. لقد أشارت افتتاحية إحدى الصحف اليومية الأكثر شعبية في هراري عاصمة زيمبابوي إلى هذا المعنى بقولها "إن إيران هي الأقرب لنا وهي تقترب منا كل يوم بدرجة أكبر".
البحث عن اليورانيوم
على أن من الأهداف الكبرى للتحرك الإيراني الدؤوب في أفريقيا الذي جسدته زيارات أحمدي نجاد الخمس لأفريقيا منذ وصوله للسلطة عام 2005 يتمثل في الحصول على اليورانيوم. ولعل ذلك يفسر لنا سر السعي الإيراني نحو تدعيم علاقاتها مع الدول المنتجة لهذا المعدن، مثل زيمبابوي والنيجر وناميبيا.
ومن المعلوم أن إيران تخطط لبناء 16 مفاعلا نوويا لإنتاج الطاقة واستخدامها لأغراض مدنية. وإذا تمكنت الحكومة الإيرانية بالفعل من استكمال هذا البرنامج النووي فإن هذا يعني نضوب إنتاجها المحلي من اليورانيوم في غضون عشرة أعوام. ولعل ذلك المتغير هو الذي يجعل علاقة إيران بالدول الأفريقية المنتجة لليورانيوم ذات طبيعة إستراتيجية كبرى.
ولا يخفي أن احتياطات اليورانيوم توجد في كثير من الدول الأفريقية الأخرى، مثل توغو وغينيا وأفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وأوغندة وزيمبابوي. وتسعى إيران لدعم علاقاتها مع كثير من هذه البلدان.
ويعطي تطور العلاقات الإيرانية مع غينيا في غرب أفريقيا مؤشرا واضحا حول أهمية متغير اليورانيوم في السياسة الخارجية الإيرانية. فمنذ اكتشاف اليورانيوم في غينيا عام 2007 توطدت علاقات طهران بها، حتى إن التبادل التجاري بين البلدين في العام 2010 قد زاد بنسبة 140%.
البحث عن قواعد وحلفاء
لقد حاولت إيران، ولا سيما في ظل قيادة أحمدي نجاد، تحقيق اختراق كبير لدول أميركا اللاتينية وأفريقيا بهدف خلق قواعد وتحالفات إقليمية معادية للولايات المتحدة والغرب عموما. وقد ساعدت دول مثل فنزويلا في ظل قيادة الراحل هوغو شافيز على تحقيق هذا الهدف الإيراني.
ففي العام 2007 قام الرئيس أحمدي نجاد بجولة في بلدان أميركا اللاتينية، كما أنه عقد في طهران في نفس العام مؤتمر دولي حول أميركا اللاتينية. ومن الواضح أن السودان يطرح البديل الأفريقي لفنزويلا بالنسبة لإيران، حيث إن الخرطوم تمثل نقطة انطلاق مهمة للسياسة الإيرانية في أفريقيا.
وتشكل منطقة شرق أفريقيا إحدى المحطات الإستراتيجية المهمة لإيران في مواجهتها للقوى الغربية، ففي أعقاب زيارة الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي لطهران في ديسمبر/كانون الأول 2008 تردد أن إيران حصلت على تسهيلات في ميناء عصب على البحر الأحمر، وهو ما يعطيها نقطة ارتكاز تمكنها من القيام بمهام جهادية وقتالية ضد القوى الغربية إذ ما قررت الأخيرة تدمير قدرات إيران النووية. ولعل سعي إيران لتطوير علاقاتها مع دول شرق أفريقيا الأخرى مثل كينيا وتنزانيا وجزر القمر يؤكد هذا المنحى الإستراتيجي في الاختراق الإيراني لأفريقيا.
ومن المثير أن إيران لا تتردد في استخدام قوتها غير الناعمة وما تملك من قدرات عسكرية من أجل بناء التحالفات والقواعد في أفريقيا، فقد أشار تقرير مهم صدر نهاية العام 2012 عن منظمة "بحث تسليح الصراع البريطانية إلى توزيع الأسلحة الإيرانية في أفريقيا. وتشمل هذه الأسلحة راجمات الصواريخ وقذائف الهاون والألغام الأرضية، وهي أسلحة أنتجت منذ العام 2002. ولعل السودان يمثل أبرز الأمثلة الأفريقية على عمق التعاون العسكري بينها وبين إيران حيث يشمل هذا التعاون تصدير أنواع من الأسلحة والذخائر والمعدات الإيرانية للسودان.
التبشير بالنموذج الإيراني
لقد استلهمت بعض الحركات والجماعات الإسلامية في أفريقيا في خطابها الإسلامي تجربة الثورة الإيرانية، وذلك في مسعاها لتغيير واقع الجمود والتخلف الذي أصاب المجتمعات المسلمة الأفريقية في مرحلة ما بعد رحيل الاستعمار. ولا يخفى أن حركية النموذج الإيراني وليس ما ينطوي عليه من اجتهادات وقناعات فقهية كانت هي الأكثر تأثيرا على الواقع الأفريقي في بعض رؤاه الإصلاحية.
بيد أن الإستراتيجية الإيرانية الجديدة في أفريقيا قد وظفت هذا التأثير السياسي من أجل تطويره ليأخذ طابعا دينيا مذهبيا، وهو ما يدخل في إطار نشر المذهب الشيعي بين الجماعات المسلمة في أفريقيا.
ولعل أبرز مثال في هذا السياق هو تجربة الحركة الإسلامية في نيجيريا أو "إخوان نيجيريا" بزعامة الشيخ إبراهيم الزكزاكي الذي قام بزيارة مدينة قم الإيرانية وتلقى تمويلا إيرانيا ليحول جماعته بعد ذلك إلى جماعة جهادية تحارب الحكومة العلمانية وتسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وفقا للنموذج الإيراني.
وتنتشر جماعة الزكزاكي في ولايات الشمال ولا سيما في كانو وكادونا وزاريا. وتعتمد هذه الجماعة في تجنيد أعضائها على خريجي بعض جامعات الشمال النيجيري المسلم مثل جامعة أحمدو بللو وعثمان دان فوديو. وأحسب أن الرؤية الإيرانية ترمي إلى خلق قواعد محلية موالية لإيران باعتبار مرجعية حوزتها الدينية من أجل الضغط على الحكومات الوطنية والعمل في مواجهة المصالح الغربية في أفريقيا.
على أن تجربة المد الشيعي لم تعتمد فقط على نيجيريا وإنما شملت دولا أخرى مثل السنغال التي شهدت بناء حوزة علمية بجوار جامعة دكار، وهي تمنح الطالب شهادة تعادل الثانوية، كما أن هناك المركز الثقافي الإيراني في مالي. ومن الملاحظ أن الجاليات الشيعية اللبنانية تسهم بدور كبير في نشر التشيع بين الأفارقة، كما هو الحال بالنسبة لساحل العاج.
وعليه يمكن القول إن الاختراق الإيراني لأفريقيا الذي يعتمد على دوافع سياسية واقتصادية معلنة ترمي إلى الخروج من إسار العزلة الغربية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي يستبطن تحقيق أهداف أخرى قد تبدو غير واضحة.
فالإستراتيجية الإيرانية لها أياد غير ناعمة كذلك، حيث إنها تتورط في تصدير الأسلحة لمناطق الصراعات الأفريقية بغية تحقيق مصالح سياسية وإستراتيجية. ولا تقتصر الحركة الإيرانية على ما هو سياسي واقتصادي وعسكري فقط في أفريقيا، ولكنها تقوم على رافعة مذهبية وثقافية كي تستطيع من خلالها تثبيت الأقدام بعد كسب نفوس وقلوب الأفارقة.
وهذا هو بيت القصيد في الاختراق الإيراني الجديد لأفريقيا الذي يرتدي عباءة المصالح المتبادلة والوقوف في مواجهة قوى الإمبريالية والاستكبار العالمي.