ماذا يعني أن تغلق الحكومة الأمريكية أبوابها وتسعى إلى تسريح موظفيها نتيجة لعدم وجود ميزانية كافية لتسديد الرواتب؟ سؤال مطروح في فضاء العالم، ولعل ما نقرأه ونسمعه يبدو أبعد من الخيال ولا يخطر مثله في أضغاث الأحلام.
ولا غرابة أن يقف العالم حائراً مندهشاً تجاه الأزمة الاقتصادية الخانقة التي باتت تعتصر الولايات المتحدة، وتشير إليها كأكبر دولة مدينة في العالم بعد أن بلغت مديونيتها أرقاماً خيالية من الترليونات.
ومن خلال استعراض التحليلات المصاحبة للواقع الراهن يتبين أن الأزمة ليست طارئة ولا مفاجئة بل هي ضاربة الجذور وقد ضاعف من حدتها وصول رئيسين فاشلين إلى البيت الأبيض هما جورج بوش الابن، وباراك أوباما، وما رافق حكم الأول من إصغاء غير سديد لفقهاء الإستراتيجية الاقتصادية الذين نصحوه بأن الحل للأزمة ممكن من خلال افتعال الحروب والتمدد العسكري. وقد أثبتت الأيام سوء تلك النصيحة التي أغرقت الدولة العظمى في مزيد من الخسائر والتضحيات، ودفعت إلى زعزعة الاستقرار في كثير من مناطق العالم.
وخطورة الواقع الراهن بعد دخول الأزمة مرحلة الذروة أنها لا تهدد الدولة العظمى وحدها وإنما تهدد العالم أجمع ، فقد نجحت هذه الدولة المأزومة في نسج شبكة من الخيوط الاقتصادية تشمل العالم كله تقريباً من خلال الدولار. وربما تكون أوروبا قد تنبهت ولو من وقت متأخر في الخروج بعملتها الموحدة "اليورو" بعد أن درست وضع الدولار وما ينتظره من مستقبل غير مريح على أيدي الساسة المتآمرين والمحاربين والواقعين تحت ضغوط شركات التسليح التي لا ترغب في التوقف عن إنتاج وسائل الشر، أو حتى التخفيف منها، علماً بأن تجارة مدمرة كهذه لا تروج إلاّ في مناخ الحروب والاقتتال مهما تنافت مع القيم الإنسانية والأخلاقية، فالتجارة، وتجارة الأسلحة بالذات لا مكان فيها للإنسانية أو للأخلاق، المصالح وحدها هي التي تتحكم وتجعل الحكومات والشعوب تدور في فلكها من حيث تدري أو لا تدري.
ولا أشك في أن نصيب العرب من الخسائر المرافقة للأزمة الراهنة سيكون فادحاً بل قاتلاً.
ولن ينجو من الخطر المحْدِق سوى تلك الدول التي استطاعت أن تؤمن اقتصادها نسيباً من خلال تنوع مصادر العُمْلة والاستثمارات ولم تضع ببيضها كله في السلة الأمريكية. وكم كانت الفرصة مواتية، وأعتقد أنها ما تزال مواتية، من خلال استثمار الأموال الفائضة في بناء مشاريع مربحة في الأقطار العربية مع ما تحققه من تشغيل الأيدي العاطلة والمساهمة في دعم الاستقرار واحتواء المشكلات الآنية.
ومن شأن الاستثمارات الواسعة في عدد من هذه الأقطار أن يحولها في وقت قصير إلى أماكن هادئة مستقرة، وأن يغيّر الصورة المرسومة في بعض الأذهان عن المستثمر العربي -فرداً كان أو دولة- الذي لا يكف عن إلغاء في أمواج المحيط وهو يعلم أنه لن يستطيع أن يسترجع جزءاً يسيراً منها بعد أن تكون قد ابتلعتها حيتان الشركات الكبيرة وأسماك القرش في البنوك الأمريكية التي باتت تتساقط أو تباع بأبخس الأثمان.
إن الاقتصاد في الولايات المتحدة -كما يقول الخبراء- يحتضر منذ وقت طويل، والدولة العظمى ذاتها تحتضر منذ وقت طويل أيضاً، لكن احتضار الكبار يطول ولا يأتيهم الموت بغتة. ومن يسترجع تاريخ الإمبراطوريات القديمة والحديثة منذ ظهورها وازدهارها واضمحلالها يدرك المعنى الثابت لهذه الحقيقية، وإن كان التغير في تسارع الزمن قد جعل من احتضار الإمبراطوريات في العصر الحديث لا يزيد عن سنوات معدودة بعد أن كان في الماضي يستغرق عشرات السنين.
وما يزال انهيار الاتحاد السوفيتي، القطب المناوى للولايات المتحدة ماثلاً للعيان.
وكما كانت رئاسة جورباتشوف بداية الانهيار الحقيقي للاتحاد السوفيتي فإن رئاسة جورج بوش الابن كانت بداية لما يتوقعه المراقبون من انهيار متسارع للقطب الآخر وهو الولايات المتحدة. ولكم تتشابه أعمار الأمم بأعمار الأفراد شباب وكهولة وشيخوخة ووفاه، وما تعاني منه الدولة العظمى الآن ما هو إلاّ مرض الشيخوخة، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.