يتفق جميع المتتبعين للشأن اليمني على ان ما تعرض له هذا البلد خلال السنتين الماضيتين كان بمثابة هزة قوية احدثت تغييرا جوهريا في البنيان السياسي والثقافي والاجتماعي فقد برزت إلى السطح العديد من الاصطفافات الفئوية والقبلية والإيديولوجية والحزبية كما ظهرت تيارات وقوى جديدة لم تكن يوما طرفا في المعادلة السياسية حيث بدا بعضها نشطا في كسب رضى العامة والحصول على صكوك بركاتها بصرف النظر عن فرائض اللحظة التاريخية ومقتضياتها وصلب استحقاقاتها والظرفيات الصعبة التي يمر بها اليمن ومؤتمر الحوار الذي دخل مرحلته الاخيرة ويفترض ان يخرج بعد عدة ايام بمواجهات المرحلة القادمة ومحددات العقد الاجتماعي الذي سيتوافق عليه اليمنيين.
طبعا الكل ينتظر اليوم ما سينتهي إليه مؤتمر الحوار المستمر منذ 18 مارس الماضي وما ستخرج به اللجان التسع التي يتكون منها هذا المؤتمر من حلول لقضيتي الجنوب وصعدة وبالذات في ظل الخلافات المحتدمة بشأنهما وتبرز هنا عدة مؤشرات اساسية تجعل أي تفكير خارج المصلحة الوطنية يؤثر سلبا على تجربة الحوار التي لا شك وأنها قد مثلت فرصة تاريخية نادرة لليمن إن لم تشكل لحظة فارقة في تاريخ هذا البلد ليس لكونها قد حظيت بدعم واسناد اقليمي ودولي غير مسبوق وإنما لأنها المرة الاولى التي تلتقي فيها كافة اطياف المجتمع اليمني في حوار مجتمعي شامل لم يستثن احدا بما في ذلك الحوثيين والحراك الجنوبي والطائفة اليهودية (وفئة المهمشين) مما يعني معه ان أي نكوص عن هذا الحوار سيفقد اليمن الجاذبية التي بناها من خلال هذا النموذج المتفرد في المنطقة.
ولذلك فان مثل هذه اللحظة المفصلية التي يمر بها اليمن هي من تستدعي اعلى منسوب من التماسك بين جميع تلك النخب التي يتعين عليها الادراك ان أي مسعى لافتعال ازمات جديدة تعاكس خط الاصلاح والاستقرار سيكون مرفوضا من المجتمعين الاقليمي والدولي اللذين تقتضي مصلحتهما وجود يمن مستقر ومعافى من الفوضى والعنف والانفلات الامني والسياسي وكل عوامل الاضطراب التي قد تحوله إلى دولة فاشلة تتقاذفها قوى الإرهاب التي طالما حاولت الامساك بزمام الامور في هذا البلد والهيمنة عليه وجعله نقطة انطلاق لتمرير اجندتها في الممرات المائية التي يطل عليها اليمن بصورة مباشرة كمضيق باب المندب الذي يعد من اهم المعابر المائية في العالم والذي يمر عبره جزء اساسي من صادرات وواردات العالم النفطية والتجارية وبحكم هذا الموقع الاستراتيجي الذي يتبوأه اليمن فان أية محاولة لتعويق التسوية السياسية وإفشال مؤتمر الحوار ستكون مدانة اقليميا ودوليا.
وإذا ما كان الحوار باليمن قد نجح في انهاء القطيعة بين الفرقاء وتحقيق التقارب فيما حول العديد من القضايا التي كانت محل جدل وخلاف الا ان هذا التقارب قد فشل حتى الان في احراز أي تقدم يذكر بشأن شكل الدولة الجديدة ومسألتي الجنوب وصعدة إذ انه ورغم اتفاق كافة الاطراف على الانتقال إلى النظام الفيدرالي ودولة اتحادية من عدة اقاليم نجد في المقابل ان مؤتمر الحوار قد انقسم عموديا إلى فريقين فالحراك الجنوبي والحزب الاشتراكي ومعهما الحوثيون يصرون على دولة اتحادية من اقليمين على اساس شمال وجنوب عن اقليمين يتشكلان على اساس شمال وجنوب يرفض حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يتزعمه الرئيس السابق علي عبدالله صالح ومعه حزب الاصلاح والحزب الوحدوي الناصري وعدة مكونات اخرى هذه الصيغة التي يعتبرونها مقدمة لانفصال جنوب اليمن عن شماله وتطرح فيدرالية من خمسة اقاليم متداخلة وبين هذا وذاك تبرز مكونات اخرى في الشمال والجنوب منها من يدعو إلى فك الارتباط بين الشطرين والعودة إلى ما قبل وحدة عام 1990م فيما يطالب اخرون بالإبقاء على شكل الدولة كما هي حاليا.
ونعتقد انه ومهما كان حجم الخلاف حول هاتين القضيتين أو غيرهما فان الواجب على النخب اليمنية الارتفاع فوق أي خلاف وتغليب مصلحة وطنها على ماسواها من المصالح والغايات والاهداف باعتبار ان استمرار مثل هذه الخلافات العبثية انما هو الذي يطيل من معاناة اليمن ويدفع به إلى منزلقات خطرة وما يجري اليوم في سورية وليبيا والعراق وغيرها من الاقطار العربية التي تخضبها الوان الدم القاني وانين الثك إلى وتوسلات المفجوعين وبكاء الارامل الذي يقطع انين القلب ويلهب الاحشاء ليس صورة معبرة عن بلادة السياسيين في هذه البلدان الذين ماتت لديهم النخوة والوازع الديني والاخلاقي إلى درجة انهم الذين لم يعد يشعرون بآلام شعوبهم التي احاقت بها ايام عجاف لا تنبت سوى الرعب والخراب والجهالة.
نعم هناك جماعات وقوى تريد احراق اليمن وأخرى تسعى إلى تفتيتها وهناك ايضا مخططات تتحرك على الارض لها اذنابها وعيونها وأرجلها تهدف إلى تقطيع اوصال هذا البلد إلى كنتونات وتجيش ابناءه على اساس الغرائز والاستقطاب المناطقي الكريه إلا ان هذه المخططات لا يمكن لها ان تجد فرصتها في العبث بمصير هذا البلد اذا ما استوعبت النخب دورها ومسؤوليتها الوطنية في التشجيع على خلق توافق وطني يستثمره اليمنيون في السعي لمقاربة هادئة ومتوازنة لقضاياهم الحاسمة والمصيرية وعملت تلك النخب على التمييز بين ما يمليه شكل الدولة وما تفرضه خيارات الناس وإرثهم التاريخي الذي يبدو حاسما ومحوريا في أي توافق سياسي أو اجتماعي واقتنع الجميع انهم في مرحلة تستدعي ان يحرصوا من خلالها على ما يقدمونه لوطنهم وليس على ما يأخذون منه.