للأسف أن هناك في بلداننا حروب وصراعات، ولكن هذه الصراعات ليست للتنمية ولا للوحدة ولا لمشروع حضاري للأجيال ولا لإصلاح الأوضاع الإنسانية والصحية والخدمات والتعليم ولكنها صراع الوصول لهذا الكرسي الذي هو مثل كرسي الحلاق لا يمكن أن يسمر فيه زبون.
فمنذ خروج الاستعمار من بلادنا حتى بدأ هذا الصراع، نسمع شعارات براقة رنانة ولا نجد إلا عكسها، سمعنا في ثورة 23 يوليو شعارات، فتحولت إلى فقر ودمار اقتصادي وديون بالمليارات وأسلحة فاسدة وسجون وقهر وضياع القدس وغزة والضفة وهزائم متتالية ومغامرات وما يجري في مصر هو ثمرة هذه الثورة التي أريد لها أن تحارب هوية وذاتية وتاريخ شعب عربي له تاريخ، واليوم لا زال الناس يحصدون ثمرات هذه التجربة، وامتداد لنتائج الزرع السام القاتل.
وهذا العراق تم قتل الملك فيصل الثاني شابا صغيراً وسحل ومثل بنوري السعيد وعبد الإله، وجاء بعده عبد الكريم قاسم واستمر الصراع والشيوعية والقتل والدمار والمغامرات، وفي عهد صدام حسين كبت وسجن وحروب فاشلة آخرها كارثة غزو الكويت التي خلفت ورائها خسائر وأزمات لا زال الجميع يدفع ثمن فاتورتها إلى اليوم، وجاء بعده الأسوأ ديكتاتورية طائفية، وأصبح العراق ولاية إيرانية وخرج من دوره العربي.
وهذا اليمن عانى من الكهنوت والظلم والقهر والاستعلاء العنصري لأسرة متعصبة دمرت شعبها وتركت ميراث ثقافي وفكري يقوم على الإقصاء والهيمنة باسم الدين والإسلام لخدمة هؤلاء، وحذفوا منه ما لا يوافق هواهم، وبقيت البلاد في الخراب، وثار الناس ولكن استمرت الثورة في صراعات بدون هوية وثقافة مستوردة وتضارب أفكار، فخريجي بغداد يريدون البعث وخريجو موسكو يريدون الشيوعية وخريجو مصر يريدون الناصرية، وبرزت تيارات إسلامية واستمر الصراع وقامت ثورات وصفيت عناصر وقتل من قتل، وفي جنوب الوطن تم القتل من قحطان وفيصل عبد اللطيف ومحمد صالح عولقي وسيف الضالعي وسالمين وهكذا..
وليبيا ليست بأحسن حال، هناك ملك عاقل فاضل تم الانقلاب عليه وتولى القذافي، وصارت ليبيا في أسوأ الأحوال وصفى خصومه من الجيش واغتال الكثير وسخر أموال بلاده للحروب والمؤامرات وامتلأت السجون وحرم الشعب الليبي من أبسط حقوق الإنسان. وجاءت الثورة وتصارعت الفئات على الكراسي والسلطة تارة باسم القبلية وتارة باسم العنصرية وتارة باسم الدين، وعاشت الجزائر صراعات ولا زالت النار تحت الرماد، وهذه سوريا ظلم وقهر وطائفية وقامت ثورة تقليدا للربيع وما أن بدأ حتى تسللت لها أيادي تريدها لحرب فيما بينها واستنزافها لإيصال سوريا لتكون أسوأ من العراق وصنع الجماعات المتطرفة على يدي إيران والغرب لتخريب المعارضة السورية ولبقاء الصراع من جانب يدعمون المعارضة ومن جانب آخر يدعمون النظام، ولا ننسى السودان وصراع القبائل والخلافات وانفصال الجنوب، ومأساة دار فور وصراع الأحزاب القديمة والجديدة والكل لأجل الكراسي.
قامت ثورة الربيع، كما قيل، وما بعد الربيع عناصر طرحت شعارات ومارست سياسة الإقصاء وتنكر لكل شعاراتها لأنها تحمل نفس ثقافة الحكم السابق، إنها كارثة، لقد انعزل هؤلاء بعد وصولهم للسلطة وأصابهم الكبر والغرور واعتبروا أنفسهم منقذين، وتنكروا لمشاكل بدانهم وتنكروا لقضايا الأمة المصيرية، وعلى رأسها فلسطين السليبة، وتركوها لذئاب وضباع الإسرائيليين ينهشوها.
مأساتنا في هؤلاء الساسة الذين استخدموا الطائفية والعنصرية والمذهبية والعرقية ونشروا ثقافة الكراهية والحقد بين الشعوب وأصبحنا كما قال العراقي مسبحة انفرطت في زحمة. وسيستمر الصراع إلى أن يقبل الجميع بالحوار والمشاركة وعدم الإقصاء والشورى، لا يستطيع الليبراليون أن ينفردوا بالحكم ولا يستطيعون إقصاء الإسلاميين ولا ينكرون وجودهم مهما حاولوا عبر الإعلام والقمع لأن هؤلاء جزء من المجتمع وهويته وتاريخه ولابد من الحوار معهم وإشراكهم وقبول الليبراليين بهوية الأمة، فهذا تاريخ ولا يمكن لأمة أن تخرج من جلدها لتلبس جلدا غريبا.
وعلى الإسلاميين أن يعرفوا أنهم لا يستطيعون الانفراد وأن يبعدوا من أذهانهم أنهم يحكموا باسم الله وأنهم الأوصياء على الإسلام وما داموا أرادوا الكراسي مثل غيرهم فليقبلوا بالمشاركة وتقديم برنامجهم عبر الحوار وأن يحدد المعتدلون رأيهم في الجماعات المتطرفة بصراحة وقوة والتيارات الإسلامية مضطربة في أهدافها، ولا حوار بينها وسياسة الإقصاء بينها عميقة، وكذلك اليسار بعد ذهاب روسيا وحلف وارسو وتغير الصين.
ما يجري الآن هو حروب استنزاف وتدخل جهات كالغرب وحليفته إيران لتمزيق وتدمير الدول العربية والهيمنة عليها، وتغيير الخارجة وفق برنامج برنارد لويس وهيمنة إسرائيل وضمان أمنها واستمرارها، فهنا لابد من القول للجميع لابد من شراكة وحوار العقلاء وتحديد مسألة الاستقرار وعدم القبول بالفوضى الأمنية وحمل السلاح ورفض الإرهاب الذي هو مستورد ورفض الطائفية والعرقية وثقافة التقسيم والانفصال وتدمير الأمة.
كل هؤلاء الذين يحملون شعارات التقسيم والطائفية والمذهبية هدفهم الكراسي ويضللون الشعوب وأجهزة الإعلام والمواقع وشبكات التواصل تخدمهم لصالح أجندات، وليس أمام الجميع إلا إصدار عفو شامل عن جميع المخالفين ممن لم يكونوا من الجماعات المعروفة بالإرهاب وليس الملفقة لها التهم ولرموز الأنظمة لما قبل الربيع، وتبني منهج يوسف عليه السلام لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم وهو أرحم الراحمين، ومنهج رسولنا الكريم من العفو والصفح والاهتمام بمستقبل الأجيال والتنازل والتضحية لصالح الأمة.
وندعو الله أن يحفظ شعوبنا وساستنا وعلمائنا ومثقفينا من فيروس ومرض الكراسي ونشوة السلطة.