من التاريخ السري لمنطقتنا، أن مرحلة ما بعد انقلاب تموز 1958 (يسمونه ثورة) كانت مرحلة تفاهم سوفياتي - بريطاني، وكان يديرها سفير بريطانيا، وقتها، سير هنري ترفيليان، وقد وصل هذا التفاهم قمته لدى حركة الشواف بالموصل، حين غضب عبدالناصر، واتهم علناً لأول مرّة الشيوعيين العراقيين بالعمالة.
واتهم عبدالكريم قاسم بالجنون. والحقيقة أن ناصر لم يكن يتصوّر وجود مثل هذا التفاهم السوفياتي - البريطاني في العراق.
ولذلك يحب المتابعون لدهاليز التاريخ الحديث تذكر ما قاله وزير الداخلية بعد انقلاب 1963 واعدام قاسم.. وهو الرفيق علي السعدي: بأننا جئنا إلى الحكم بقطار أميركي.
فلم يكن من المعقول أن تقبل الولايات المتحدة اللعبة البريطانية الثأرية لموقف واشنطن من العدوان الثلاثي على مصر.. وارغامها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل لوقف العدوان والانسحاب من سيناء وغزة بثمن بخس هو مرابطة قوات دولية على حدود سيناء لضمان ملاحة حرّة لميناء إيلات!
وفي المرحلة ذاتها، انتقل السفير البريطاني ترفيليان من بغداد، ليكون حاكماً لمستعمرة التاج عدن، ومحمياتها، وقتها كانت «الثورة» مشتعلة في حي الشيخ عثمان بعدن، فقامت بريطانيا بالخطوة المتوقعة بلملمة السلاطين الثلاثة عشر من اليمن الجنوبي وارسلتهم بطائرة إلى السعودية, واتفقت مع الثوار - ناصريون وشيوعيون - لبناء جمهورية اليمن الجنوبي. وقد لاحظ الكثيرون بعد انقلابات كثيرة في الجمهورية التي أصبحت ماركسية، أن التأميم شمل سفن الصيد، وبعض الصناعات اليدوية، والبيوت الكبيرة.. لكن هذه الاشتراكية لم تصل إلى مصفاة النفط البريطانية.
.. ومع أن مذكرات السير ترفيليان لم تتطرق إلى تفاصيل مهمته في العراق واليمن الجنوبي، إلا أن القارئ يستطيع الاستدلال على ملامح تلك المرحلة الفريدة من التفاهم السوفياتي - البريطاني في منطقة تغلي بالأحداث، والتحالفات المتناقضة والانقلابات المتتالية التي شهدناها في اليمن الشمالي والجنوبي والعراق وسوريا.
وكما نتحدث الآن عن «الربيع العربي» دون أن نحدد لاعبيه الحقيقيين، فقد كنا نتحدث عن المدّ القومي الناصري والبعثي والقومي العربي.. في نهاية الخمسينيات ومطالع الستينيات، دون الدخول في التفاصيل ودون التطرق إلى اللاعبين في ساحاته من وراء حجاب!
نحن لا نحب إلصاق كل ما جرى ويجري في وطننا بنظرية «المؤامرة» أو باستحضار الاستعمار والامبريالية، لكن لا أحد يستطيع أن يفهم هذه الكوارث، على أنها أخطاء العاملين في الحقل الوطني والقومي.. فللأخطاء، حصة من هذه الكوارث، لكن القوى الكبرى المؤثرة هي التي كانت تلعب على تناقضاتنا الصغيرة!
كان اللبناني يقول: الحق ع الطليان!!. حتى لا يأتي على سيرة الإنجليز والفرنسيين والأميركان!!. ويبدو أن: الحق ع الطليان!