عبثاً انتظر المنتظرون أن ينفّذ الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، تهديداته الشهيرة بقصف ما بعد بعد حيفا. مضت سنون ثمانٍ، بالتمام والكمال، على الخطاب الثوري العاطفي الذي سلب ألباب العرب المتعطشين لنصر، يجلو عار هزائمهم التاريخية المتراكمة، ولم تشهد جبهة جنوب الجنوب الذي يتجه نحو شمال الشمال، إلا مزيداً من الهدوء، المترافق أحياناً مع صخب شعاراتي فارغ، والخالي دوماً، وحتى اللحظة، من أي قعقعة للسلاح.
كان الرجل، في تلك الآونة، أي في منتصف عام 2006 قد بلغ أوج مجده، وصار أنموذج مقاومة، يحاكي رموزاً قيادية كبرى في التاريخ العربي الإسلامي. وقلة قليلة هي التي ظلت مشدودة، حينئذ، إلى الخلفية الطائفية المذهبية لـ"بطل حرب تموز"، وإلى الصلة المحتملة بين "دوره البطولي" وأحلام القادة الإيرانيين، في إمبراطورية فارسية، يمتد نفوذها حتى شواطئ المتوسط.
ما حدث، من بعد، معروف؛ عصفت رياح التغيير الثوري ببلاد العرب، فباركها نصر الله، كما باركتها مرجعياته المذهبية والسياسية الإيرانية، من دون أن يستثني منها أي بلد، بدءاً بتونس، مروراً بمصر، وليبيا، وصولاً إلى اليمن، ثم حين وصلت إلى سورية، انقلبت الحسابات، وتغيرت المفاهيم. هذه مؤامرة على نظام المقاومة والممانعة، قال الرجل الذي كان يوصف بأنه "سيد المقاومة"، ليبرر انقلاب "أولوياته الجهادية"، وقد حلت فيها القصير وحمص وحلب والقلمون، محل تل أبيب وهرتسيليا وديمونا وبئر السبع.
صحيح أنه أنكر تورطه في سورية، ابتداء، ثم تلعثم بعض الشيء، وزلّ لسانه، لينطق بما في قلبه، ويتذرع لتغيير وجهة سلاحه، بحجة حماية المقامات الشيعية، لكنه سرعان ما عاد ليستدرك، ويحاول إقناع الناس بأن قتال رجاله ضد الثورة السورية، يخدم المعركة المستمرة لتحرير فلسطين، لأن "سقوط سورية" على ما قال، قاصداً سقوط نظام بشار الأسد، يعني "ضياع فلسطين".
بيد أن تورط حزب الله في سفك دم السوريين، وفي محاولة إجهاض الثورة السورية، لم يكن أول "ما بعديات" حرب تموز 2006. وإنما سبق ذلك، التزام نصر الله بقرار مجلس الأمن 1701، ليتفرج مع المتفرجين، على حرب "الرصاص المصبوب" التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة، أواخر عام 2008، كما على حرب "عمود السحاب" عام 2012، ثم ها هو يتفرج، اليوم، أيضاً على حرب "الجرف الصامد".
على المقلب الآخر، وفق تعبير شائع لدى الزملاء اللبنانيين، تتفرج إسرائيل، من جهتها، على مقاتلي حزب الله، وهم يتدفقون نحو سورية، من دون أن تفكر بإيذائهم. وحتى حين يتجمعون بالمئات ليحتفلوا بانتصارهم، في القصير، مثلاً، أو في القلمون، فإن الطيران الإسرائيلي الذي يذرع الأراضي السورية واللبنانية، وقتما يشاء، طولاً وعرضاً، يتعامى عن رؤيتهم، ويتجنب ضربهم، ولو بوردة.
تتعدد الأمثلة، لمن يشاء رؤيتها، فتصل أخيراً إلى تَفُرج حزب الله، في أيامنا هذه، على الجيش اللبناني والقوات الدولية، يستنفران بحثاً عن مجهولين، أطلقوا صاروخين من جنوب لبنان، نحو مستوطنات إسرائيل الشمالية، تضامناً، ربما، مع غزة.
أما ال"ما بعد" الأهم لتجربة نصر الله كلها، فتقدمه، اليوم، حركة حماس، بتصدرها جبهة المقاومة الفلسطينية في مواجهة الحرب الإسرائيلية على غزة؛ ومفاده، باختصار شديد، أن مقاومة إسرائيل ليست ابنة لأي من الديكتاتوريات العربية، وهي تكون أصدق وأنبل وأشرف، حين ترفض استبداد الطغاة العرب، وتتصدّى لإسرائيل، في آن معاً.