تميز حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح بظاهرة استنساخ الأحزاب وعرفت ب(تفريخ الأحزاب)، وإحداث انشقاقات داخلها، والعمل على إضعافها. ونجح في هذه المهمة المستهجنة سياسيا مع الأحزاب التي تعتمد على الدعم المادي الخارجي مثل الناصريين والبعثيين، لكن استعصى الإسلاميون والاشتراكيون عليه، وإن كان قد نجح في استقطاب عدد من أعضائهم بالإغداق عليهم ماليا ومنحهم مواقع في أعلى السلم الحزبي في حزبه الحاكم حينها (المؤتمر الشعبي العام)، وصار هؤلاء أصحاب صولة وجولة وكلمة الفصل في أروقة الحزب، الذي التحقوا به هربا من شظف العيش ولمنحهم الأمان حينها... كان هدف الرئيس السابق هو أن يفقد المواطن الشعور بأهمية الأحزاب كمنظمات سياسية قادرة على الوصول إلى السلطة بطريقة مشروعة، وزاد أنه كان يتحكم في صناديق الاقتراع ويسمح لهذه الأحزاب بمقاعد محدودة لإعطاء الانطباع بأن مجلس النواب يضم في جنباته ألوانا سياسية مختلفة حتى وإن كانت باهتة وفاقدة المصداقية لدى العامة.
سوق ما بعد الربيع شهدت عملية مشابهة تجسدت بتكاثر مفزع للمواقع الإعلامية الإلكترونية وصحف لا يقرأها إلا الذين تخصصوا في وضع متاعهم في أسواق المزاد الإعلامي وصارت ميدانا لنشر الشائعات والسباب وتناول أعراض الناس، وكيل المديح لممولها ونشر قصائد الزور ومقالات الإعجاب به، وقد زاد هذا العبث من ارتباك العامة الذين تشوشت الصورة أمامهم، وصار البحث عن الحقيقة أشبه بمن يبحث عن إبرة في أكوام من القش.
لا أعرف إن كانت هذه الظاهرة حكرا على اليمن أم أنها صارت معممة على دول الربيع العربي.. لقد قضيت سنوات في العمل الدبلوماسي متنقلا بين أقطار عدة وتابعت الإعلام فيها مقروءا ومشاهدا ومكتوبا، وعند المقارنة لا بد للمرء أن يشمئز إذا اضطر إلى محاولة فهم الأحوال في اليمن من تطورات شبه يومية عبر هذه الفضاءات الملوثة، وكم شاهدنا صحفا وصحافيين، بل وساسة ومثقفين، انتقلوا من مدح حاكم سابق كانوا يعيشون على هباته ثم تحولوا لنفس الممارسات مع حاكم تلاه، ولم يكن في الأمر شبهة تغير في موقف فكري أو افتتان بأوهام منجزات، ولكنه كان بدافع واحد لا يتعداه: الكسب المادي والسعي للحصول على منصب ينتفخون داخله.. ومن المثير للشفقة أن الممولين الجدد يسعون بهمة لتجنيد كل صوت وكل قلم وكل مثقف وكل سياسي، منطلقين من اعتقادهم بنظرية الضيق: تفريغ صفوف السلف والحشد داخل معسكر الخلف، وهذا يدل على قصور ذهني وانعدام الرؤية السياسية والأخلاقية لأن مثل هذا الصنيع لا يؤسس لمشهد وطني صحيح ويصبح مصدر إرباك متعمد تغيب معه المعلومة الصحيحة التي تحفظ حقوق الغير الشخصية والعامة وكذلك حقوق الممولين المستقبلية حين يحل وافد جديد إلى الساحة.
لقد صارت هذه الوسائط منبع خطر لما تحتويه من أساليب التشكيك وتزييف الحقائق والتدليس لتتسق مع هوى الممول، وهي في عملها سيئ السمعة تعيد استنساخ وزير الدعاية النازية الشهير (جوبلز) وتذكرنا بعهد الراحل (أحمد سعيد) وأكاذيبه، وكم يعجب أي عاقل من الهدف الذي يتوخاه هؤلاء، عدا اعتقادهم أن صنيعهم سيرفع من شأنهم وسيحقق لهم أهدافهم وسيجعل منهم أصحاب حظوة مع علم الجميع برداءة المنتج وندرة المتابعين والتكاليف الباهظة التي تستخدم الأموال العامة حينا وأموال بعض رجال الأعمال الذين يتصدرون المشهد السياسي.
في الآونة الأخيرة، احتشدت أقلام تروج عبر الفضاءات الإلكترونية لأشخاص وأضفت عليهم صفات الطهر والنقاء وحب الوطن والتفاني في خدمته، دون منٍّ ولا انتظار لجزاء، وتحولت المنابر إلى مواقع حروب كلامية وتراشق للاتهامات وتبادل لنشر السباب من الأطراف كافة والمبالغة في الإسفاف، وتجري هذه المعارك شديدة الهبوط الأخلاقي وسط غياب كلي عن الحديث عن مكامن الخطأ، متجاهلين هموم المواطنين وضنكهم، وفجأة قفزت قيادات الأحزاب إلى الواجهة تحت شعار جديد هو (المصالحة الوطنية الشاملة) هو نفسه الذي روج له من شاركوا في لقاءات المنتجع الشهير (فندق الموفمبيك) في شمال العاصمة وصموا آذان الناس بمخرجاته وبشروهم باليمن الجديد الذي صاغوه داخل غرف مغلقة لا يعلم ما يدور فيها إلا بعض المنتفعين والانتهازيين، وها نحن نشهد المنتج الحقيقي والمخرجات الواقعية لتلك الأشهر الطويلة التي أمضاها المنتجعون فيه بإشراف دولي تشبث به السيد جمال بنعمر مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، ويكفي أن نلتفت إلى ما حدث في عمران وما يجري حاليا في الجوف وشوارع صنعاء وغيرها من المدن اليمنية وما نقرأه عن تمدد لـ«القاعدة» في أكثر مدن جنوب اليمن سلمية وهدوءا (حضرموت) وتفسخ لما تبقى من سلطات الدولة في أغلب مدن الشمال والجنوب على حد سواء، ولم يكن لهذه المآسي وقع عند الحكومة التي يتساءل الناس عن دورها الذي لم يتجاوز منذ تشكيلها، قبل ثلاثة أعوام، إذاعة لقاءات وزرائها واجتماعاتهم وسفرياتهم والإعلان عن منجزاتها التي تثير سخرية المواطنين وهم يعيشون في ظلام دامس وانعدام لمتطلبات الحياة اليومية الأساسية، بينما هم يشاهدون مواكب المسؤولين وأنجالهم تسير في شوارع المدن الرئيسة دون معاناة للحصول على المشتقات النفطية، بينما طوابير سيارات العامة تمتد مسافات طويلة يحتاجون معها للانتظار ساعات طويلة أمام محطات البترول.
يعاني المواطنون قسوة الحياة وفقدان القدرة على التعبير عن غضبهم، وخذلتهم الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني التي اكتفت بالصمت، وفي أحسن الأحوال اندفعت لاتهام المحتجين بالعمالة للنظام السابق وأنهم كانوا نواة محاولة انقلابية لم تتمكن المواقع الإعلامية التي أعلنت عنها، من تقديم دليل واحد سوى إحالة كل معلومة إلى (مصدر مسؤول) و(مصدر مطلع) و(مصدر مقرب) و(دبلوماسي غربي مجهول الهوية) ولم نسمع عن إلقاء القبض على متهم مزعوم واحد وتقديمه للمحاكمة ليقتنع المواطنون بصدقية الاتهامات!
هذا المشهد المشوه لا يحتاج إلى دعوات جديدة للمصالحة ولا لإطلاق فقاقيع ستذوب عند أول نسمة ريح، ولكنه يحتاج إلى فعل سياسي نشط بعيدا عن المماحكات وتبادل إلقاء الاتهامات بين الفرقاء الذين لا يستطيعون تبرئة أنفسهم من مسؤولية الواقع المرير الذي يعيشه اليمن، لأنهم للأسف ما انفكوا عن الدوران في فلك البحث عن صفقات سياسية لن تعود بالنفع إلا عليهم وعلى كوادرهم.
إن الدعوة إلى المصالحة الوطنية الشاملة دليل على فشل نتائج لقاءات الموفمبيك، وتغييب لما سماه المشاركون فيه (وثيقة الضمانات) التي لم تكترث الحكومة بها، وإذا كان هناك من يصر عليها فعليهم إدراك أن هذه لن تتحقق بنفس الوجوه التي أوصلت اليمن إلى هذا المآل البائس.