من الأرشيف

جذور الجرعة وفلسفتها الدولية

لجأت حكومات علي صالح المتعاقبة, وتبعتها واقتدت بها حكومة الوفاق, إلى ذر الغبار على العيون لتحاشي النقاش حول طبيعة الجرع أو ما يسمى برفع الدعم من خلال حرف النقاش نحو مشكلة التهريب, باعتبارها المبرر الرئيسي المعلن لرفع الدعم عن المشتقات النفطية, بينما الحقيقة غير ذلك تماماً, حيث يعتبر رفع الدعم عن السلع الغذائية والمشتقات النفطية بنداً رئيسياً في السياسات الاقتصادية التي أقرتها " عصبة واشنطن " في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وهو تكتل ضم حينها المؤسسات والبنوك الاقتصادية الدولية المهيمنة على الاقتصاد العالمي وعرفت لاحقاً "بروشتات" البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي يتم فرضها على الدول والاقتصادات في العالم الثالث وفق جملة شروط مجحفة دفعت باقتصادات هذه البلدان ودولها إلى مآلات الفشل والانهيار وعممت الجوع والفقر, بينما كانت تدّعي محاربتهما عبر برامجها الاقتصادية النمطية المعممة التي لا تراعي الظروف المحلية والمعطيات المتباينة للدول والاقتصاد والمجتمعات.

وعلى ذلك لا بد من تأكيد هذه الجزئية قبل أي نقاش حول هذه السياسة العرجاء؛ وهي أن مشكلة التهريب مشكلة خاصة باليمن وتحتاج إلى معالجة وليست السبب الرئيسي لرفع الدعم وإنما تم اللجوء إليها لاحقاً لتبريره, والتخلص من مشكلة التهريب يعتبر شرطاً أساسياً لوجود حكومة تتمتع بالكفاءة والثقة وتكون قادرة على تطبيق حزمة إصلاحات اقتصادية متكاملة, بينما الهروب من " التهريب " إلى رفع الدعم يعتبر تكريساً لفشل وإخفاق الحكومة في أداء مهامها وتحمل مسؤولياتها الذي يتجلى في مؤشرات لا حصر لها ومن ضمنها التهريب.

مكافحة التهريب ضرورة سواءً للمشتقات النفطية أو الآثار اليمنية التي تعرضت لأكبر عملية نهب في التاريخ، حيث أشار مؤتمر باريس- الذي حضره أكثر من ستين عالم آثار في أوروبا وأمريكا عام 2009 – إلى أن الآثار اليمنية تعرضت للتدمير والنهب أكثر مما تعرضت له آثار بلدان عانت من انهيار الدولة بشكل كامل.

الذين يهربون النفط والديزل لا يشتروه بسعر مدعوم بل كانوا يأخذونه - وما زالوا - مجاناً عبر المخصصات الكبيرة من هاتين السلعتين.

كتبت قبل عدة أشهر عن رؤية منظر النظام الدولي النيوليبرالي فرانسيس فوكوياما التي عرضها في كتابه " بناء الدولة " الصادر قبل عدة سنوات, وخلاصة رأيه هو الاعتراف بفشل الإصلاحات الاقتصادية التي عممها البنك الدولي على كثير من بلدان العالم الثالث, حيث أن هذه الإصلاحات تركت هذه البلدان واقتصاداتها في وضع أسوأ بكثير مما كانت عليه, أو كانت ستصل إليه لو أنها تجنبت هذه " الإصلاحات ".

حيث يقول إن "أجندة بناء الدولة، والتي لا تقل أهمية عن أجندة تقليص دورها، لم تعطِ ‏قدراً موازياً من الاهتمام والتفكير، فكانت النتيجة فشل الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية في ‏تحقيق الوعود التي قطعتها على نفسها في العديد من دول العالم الثالث، وأدّى غياب الإطار ‏المؤسساتي الملائم إلى ترك تلك الدول في وضع أسوأ مما كان يمكن أن تكون عليه في الواقع ‏بغياب تلك الإصلاحات".

هذا في البلدان التي طبقت حزمة الإصلاحات كاملة بدون انتقائية، وليس كما فعلت حكوماتنا التي طبقت الجرع فقط باعتبار الشعب اليمني هو الجدار القصير الذي تتكأ عليه كلما نضبت مواردها بسبب الإدارة الفاشلة والفساد السياسي المنظم والإخفاق في إصلاح إداري ومالي ورقابي في مؤسسات الدولة والجيش والأمن ونظام الخدمة المدنية.

إن موازنة الدولة هي الصفحة التي تنعكس عليها توجهات البلد والدولة, لأنها تبين الأولويات والأهداف التي خصصت لها الموارد العامة وحشدت الإمكانيات لتحقيقها.

وبقاء الأسس العامة لموازنة علي صالح ونظامه يلقي بظلال من الشك حول حقيقة التغيير أو التحول في الأولويات والأهداف التي يفترض أن الثورة الشعبية أدت إليها عقب 2011.

فهذه الموازنة وتبويباتها المضللة- التي تمرر من خلالها مخصصات الفساد السياسي في أعلى مستوياته,لا زالت كماهي ولم تمس موازنة الجيش والأمن التي تقارب الأربعين في المائة من الموازنة العامة- لا زالت غامضة بعيدة عن الشفافية وغير خاضعة للرقابة، وهناك تقديرات تقول إن 50٪ منها تذهب كمخصصات ونفقات خاصة ورديات وأسماء وهمية وغيرها؛ ولو أن مجمل هذه الموازنة يذهب إلى الجنود والضباط المرابطين في الثغور والجبال والمواقع بين الغبار والشموس والرياح لهان الأمر ولكانت في محلها.

كفاءة الحكومة في حماية مواطنيها وموارد البلد وبنيته التحتية وشبكة خدماته مسألة أساسية، وهي جزء مهم من الثقة أو انعدام الثقة بالحكومة وأدائها.

فلو أن المزاج الشعبي يثق بالحكومة ويثق بأن كل الموارد تذهب إلى مصارفها الصحيحة, لأحتمل حتى تخفيض الرواتب وليس فقط رفع أسعار الوقود.

خسرت اليمن في السنوات الثلاث الماضية ما يقارب السبعة مليارات دولار بسبب تخريب أنبوب النفط, وهذا تقصير جسيم لا يمكن المرور عليه مرور الكرام.

المحاصصة والتوظيف العشوائي, خلل كبير آخر يخل بمنظومة الأداء الكفؤ ويهدر كثيراً من الموارد دونما حساب للأهداف والأولويات المرتبطة بالمصلحة العامة.

وخلاصة القول إن زيادة أسعار المشتقات النفطية لم يأتِ ضمن حزمة إصلاحات متكاملة، والأهم أنه جاء من قبل حكومة لم تعد موضع ثقة من قبل المزاج الشعبي السائد، وجاء فقط لتوفير موارد مالية تغطي العجز الذي وصلت إليه الخزينة العامة للدولة دون أي رؤية استراتيجية توظف كل الموارد والإمكانيات وتضع في حسبانها العامل الاجتماعي ومصلحة الشعب.

وإذا خرج الحراك الشعبي القائم وتفاعلت السلطة الانتقالية معه إلى تشكيل حكومة جديدة بنفس عقلية المحاصصة؛ التي تستعيض عن الطرفين بأربعة, فسوف نبقى في نفس مربع الإخفاق والفشل الذي سيزداد حينئذ وفق قانون المتوالية الهندسية.

ابدأوا بحكومة كفاءات تشكلها شخصية مستقلة كفؤه وبدون محاصصات أو حسابات للنفوذ والتقاسم وستجدون الطريق الذي فقدتموه أو تعمدتم الهروب منه..

زر الذهاب إلى الأعلى