كنّا، في نهاية سبعينيات من القرن الماضي، نتهكم على عادة الفصائل الفلسطينية في منظمة التحرير التسابق في "إعلان مسؤوليتها" عن أي حادث تفجير أو حرق أو غيره من أنواع التدمير التي كان الاحتلال يسميها "تخريباً"، حتى أنه إذا وقع حادث طرق، كنا نقول سوف يعلنون، الآن، مسؤوليتهم عنه. كنا مقتنعين أن الهدف من الإعلان هو التنافس سياسياً على الساحة العربية، لأهداف عديدة، فلا فائدة يجنيها النضال ضد إسرائيل من إعلان فصيل مسؤوليته، وإبلاغها، بالتالي، أين تبحث، ومن تعاقب.
كنت أتساءل، دائماً، لماذا لا يتركون إسرائيل تحتار، تبحث، تتخبط، تصرف الموارد في البحث عن المسؤول؟ لماذا يتبرعون لها بالمعلومات؟ لماذا لا يصمتون؟ متى يتعلمون فن الصمت؟ وما من إجابة مقنعةٍ سوى أنه لا علاقة للأمر، إطلاقاً، بالنضال ضدها، أو الصراع معها، بل بالصراع بيننا.
ولاحقاً، لاحظت أن غالبية ما يقوم به طرف عربي ضد إسرائيل كان موجهاً، في الغالب، ضد طرف عربي آخر. ولهذا، ربما كانت إسرائيل فعلاً العدو الأول في قناعة بعض الدول والقوى السياسية، لكنها لم تكن كذلك في الممارسة العملية. فقد كان الصراع العربي العربي، والتنافس بين القوى السياسية، دائماً حاضراً يمنع أي قوة من التخطيط فعلاً لهزم إسرائيل، فلم يكن هذا هدف الفعل العسكري أو السياسي. كان الصراع مع إسرائيل يستخدم كأداةً لأهداف أخرى، وما زال كذلك إلى حد بعيد. ويُستنثى كثير من القوى الشعبية والنخب الصادقة، والتي قد تُستخدم مشاعرها هي كأداة أيضا، إذا لم تتحلى بالوعي اللازم.
عندما قام شباب فلسطينيون بدهس مستوطنين وجنود، أخيراً، سارعت فصائل لإعلان مسؤوليتها. وكان من المفترض أن تكد إسرائيل بالبحث إذا كان ما جرى هو حادث فعلا، وأن تبذل في ذلك بعض الجهد. ولو كان ثمة شك أنه حادث، لا يمكن لقواتها أن تتوجه فوراً لبيت العربي لهدمه، ومعاقبة عائلته، حتى لو كانت على علم بهويته. ولثار تساؤل عن سبب قتل الشباب ومبرراته في الحادث نفسه. قد يكون ما جرى هو فعلاً عملية مخططة نفذها لشاب.
وحتى لو كانت كذلك فلا سلاح بحوزته، ولا إشارات لتنظيم معين، إذا هو شاب غاضب على الأوضاع في القدس المحتلة، ومتأثر بما رأى وشاهد من جرائم الاحتلال. وهذه دوافع صادقة تثير بعض التساؤلات والنقاشات الهامة عن نتائج ما تقوم به إسرائيل. ولا حاجة أن يعلن أحد مسؤوليته. فهذا لا يزيد بل ينقص.
وأخيراً، تبرر إعلانات المسؤولية هذه للإسرائيليين الشك بكل حادث طرق مستقبلاً إذا تورط فيه عربي، والاعتداء على هذا العربي؛ وسوف يدعون أن ثمة سوابق ترجح أن الحادث فعل مدبر. وهذا يعني أن من يعلنون المسؤولية منفصلون عن واقع حياة الناس وظروفهم تحت الاحتلال.
وأخيراً، ليس هذا نقداً للمقاومة كمنهج، بل هو نقد لكثرة الكلام. الصمت هنا أفضل من جميع النواحي. ابحث، فلن تجد في الصمت في هذه الحالات سلبية واحدة!
المجد للشهداء، والمجد والحرية للقدس. ولا يجوز أن يترك أهل القدس، وحدهم، في مقارعة الاحتلال.