استهداف الإمامة المساجد ودور العلم: تاريخ من الدمار
ثابت الأحمدي يكتب حول استهداف الإمامة المساجد ودور العلم: تاريخ من الدمار
ثمّة دُويبةٌ صغيرةٌ من الحشرات، اسمُها "جُعَل". لا تعيش إلا في الدِّمنِ والأماكنِ المتسخة، فإذا ما تم نقلها إلى أماكن الورد تمرض، فتموت. وفي هذا قال الشاعر:
إنَّ الصَّنيعةَ للأنذالِ تفسدُهم كما تضرُّ رياحُ الوردِ بالجُعَلِ
وما أشبه الحوثية في اليمن بهذه الحشرة؛ حيث لا تنتشرُ إلا حيثُ انتشرَ الجهل، ولا يكونُ لها وجودٌ إلا بين محدودي التعليم والثقافة، ولهذا فهي ضد النور.. ضد التعليم.. ضد الثقافة.. ضد المعرفة. ومن هنا نعرف سرَّ استهدافهم المتزايد دومًا للتعليم، ودُور العبادة ومراكز الثقافة والتنوير. إنه السّلاح الاستراتيجي الأقوى الذي يخشونه أكثرَ من خشيتهم للبندقية والمدفع. واستهداف الإمامة للتعليم والثقافة في اليمن قديم، ذلك أنهم يريدون تخليق أتباع كيفما اتفق، لا صناعة أجيال مستنيرة بالعلم؛ لأن سوءاتهم ستنكشف بالعلم، وكل الإمامة سوأة.
وقبل استقراء معالم التدمير الممنهج لدور العلم والثقافة والمساجد وهي السياسة المتبعة لدى كرادلة الإمامة قديما وحديثا تجدر الإشارة إلى أن هذا الكيان يرى في نفسه أنه الوحيدُ الذي يحقُّ له دون غيره احتكارَ العلم وتمثيله والتعالي به على الناس؛ كون علمهم حد اعتقادهم علما لدنيا بالوراثة من جدهم رسول الله.
يقول إمامهم عبدالله بن حمزة في رسَالَةٍ وجهها إلى أهل مارب أيام حُكمه: ".. واعلموا أنا أولادُ الرجل الصَّالح، صلى الله عليه، الذي شرع هَذِه الشَّرائع، وسنَّ هَذِه السُّننَ، وأوضحَ رسوم العدل، وطمسَ رسومَ الجور، فنحنُ أعلم النَّاسِ بآثاره وسُننه وطرائقه وعلومه، فلا تهلكوا أنفسَكم بالجهالة، والعملِ على غير بصيرة، واعلموا أنا روينا عن أميرِ المؤمنين أنه قال: أيها الناس، اعلموا أن العلم الذي أنزله الله على الأنبياء في عترة نبيكم، فأين يُتاه بكم عن أمر تُنُوسِخَ من أصْلاب أصْحاب السَّفينة؟
هَؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهفِ لأصْحابِ الكهف، وهم بابُ السِّلم، فادخلوا في السِّلم كافة، وهم بابُ حطة، من دخله غُفر له.. واحْمدوا الله الذي أوصَلكم وقتًا تقتدون في دينِكم بعترة نبيِّكم، تأخذون الحَق من أهْله، وتقتبسون النور من معدنه، وتنتسبون إلى العترةِ الطاهرة التي خُلقت من طينةٍ عليين، ورُبيت في حُجورِ النبيين.." إلخ. انظر: مجموع مكاتبات الإمَام عبدالله بن حمزة، بتحقيق عبدالسلام الوجيه، ص: 18.
لقد أبقى الأئمَّةُ اليَمَنَ معزولا على نفسِه، ومنغلقًا على ذاتِه، حتى لا يرى الشَّعبُ نورَ العلم، فتنكشفَ حقيقتُهم على الملأ.
هدّم الإمام عبدالله بن حمزة مساجد المطرفية وأربطتهم العلمية كاملة، وكانت تمثل حينها جامعات علمية مبكرة، فانتشر العلم، وبدأت الخرافة تنمحي، متجاوزين ما يسمى بأفضلية آل البيت، فقام ابن حمزة وقتل طلاب العلم وهدم مساجدهم وأربطتهم كاملة في سناع ووقش، وقَدْ قَال بعد أن تمكن من القضاء عليهم: "أريد أن أجْعلها سُنَّة باقيَة يعملُ بها من قَام ودعَا من أهْل البيت فيما بعد". انظر السيرة الشريفة المنصورية، أبو فراس بن دعثم، 95/3.
وحينَ غزا آلُ شرف الدين الطاهريين إلى رداع قاموا بالسَّيطرة على أضخم مكتبة علمية في اليمن ومصادرتها، وكانت من ضِمن المنهوبات والغنائمِ، فضاعتْ دررٌ ونفائسٌ عظيمةٌ بين هَذِه الحروب التي يكون من ضمنِ أهدافِها إلى جانب القضاء على الخصْم، أيضا القضاء على ما يحملُ من موروثٍ وثقافةٍ وآثار، مع أنَّ هَذا الموروثَ هو أولا وآخرا ملكُ بلدٍ وحَضارةٍ وأمَّة، وليس ملكَ أشْخاصٍ بعينهم؛ بل لقد بلغَ الحالُ بالفئاتِ المهزومةِ في كثيرٍ من الصِّراعاتِ التَّارِيْخِيَّةِ أن اضطُرتْ إلى إحراقِ ما بحوزتها من وثائق أو مخطوطاتٍ بنفسها، خشيةَ مداهمة جند وأتباع الإمامة لمنازلهم وبيوتهم، فتكون من القرائنِ التي تدينُهم بأي توجهٍ أو موقف.
وذكر المؤرخ محمد علي الأكوع في كتابه: المدارس الإسْلاميَّة في اليمن، أن الإمَام المهدي محمد بن أحمد بن الحسن صَاحِب المواهب، ت: 1130ه، كان أول من سعى في خراب المدرسة العامرية في رداع، لأنها في اعتقاده من آثار كفار التأويل، وكفارُ التأويل لا حرمة لهم ولا قربى، لولا أن القاضي علي بن أحمد السماوي تصدى له بقوة، محذرا إياه من مغبة ذلك. فتوقف المهدي، واكتفى بهدم شرفاتها برًا بيمينه؛ لأنه كان قد أقسم على هدمها.! انظر: المدارس الإسْلاميَّة في اليمن، ص: 338.
لقدْ كان أولُ ما عَمله الإمَامُ يحيى عندَ دُخوله صَنعاء بعد انتصاره على الأتراك العثمانيين وقَدْ رحلوا عن اليَمَنِ أن هَدمَ دار المعلمين التي بناها الأتراكُ لليمنيين، وقضى على كثيرٍ من المعَالم الحضاريَّةِ التي من شَأنها أن تنيرَ عقولَ الشَّبابِ والنَّاشِئة.
ويذكرُ العلامة محمد المجاهد عن جيوش الإمام يحيى حين دخلتْ تعز ".. أنهم بدؤوا بمهاجمةِ المتبقي من المدارسِ الرسُوليَّةِ والمساجدِ، فكسَّروا الزخارفَ، وقشروا القبابَ، بحثًا عن كنوزٍ وراءها، فكان وهْمًا مُدمرًا، ثم مزقوا مكتبةَ الأشرفيَّة تمزيقا بغيضًا، وكانتْ عامرةً بروائعِ كتب الحقبِ والمخطوطاتِ النادرة، حتى إنه لم يبق فيها أثر". انظر: مدينة تعز غصن نظير في دوحة التَّارِيْخ العربي، 206.
وفي عَهده منع اليَمنيين من شِراء الراديو، وأيضًا منع السَّماح بدخول الصُّحف التي كانت تصدرُ في عدن خلال فترة حُكمه، أو التي تأتي إليها من خارج عدن. ويُسجلُ القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيس الجُمْهوريَّة العَربيَّة اليَمَنِيَّة الأسْبق قصتَه مع الراديو وهو في تعز عام 1947م بقوله:
".. تاقتْ نفسي لشِراء جِهاز، ولكن كيف لي بذلك وقَدْ كان شِراءُ الراديو ممنوعًا تحت حُجة أنه يذيع أغاني يحرمُ استماعُها؟! وبعثتُ رسَالَة رجاءٍ إلى الإمَام يحيى أطلبُ فيها السَّماح بشراءِ راديو للاستماعِ إلى الأخْبار وما يُذاع من برامجَ ثقافيةٍ وعلميَّةٍ، وجَاء الجوابُ بقلم الإمَام يحيى نفسِه على ظَاهرِ رسالتي يأذنُ بشراء الراديو.
ويقول: "ومثلُكم ممن لا يلهو بسَماعِ الملاهي" ليؤكدَ بذلك أنَّ منعَ اقتناءِ أجهزة الراديو على المواطنين إنما باعثُه خوفُ الفتنةِ عليهم بما يُذاع من الأغاني المحرَّمة، ولما أمِنَ عليَّ الفتنةَ أذنَ بالشِّراء. أسجلُ الحادثةَ لأعطي للمطلعِ صورةً عن العزلةِ التي كانتْ مضروبةً على اليَمَنِ في عهدِ الإمَام يحيى، إلى حد أنَّ المواطنَ يحتاجُ من أجلِ أن يقتنيَ جهاز راديو إلى إذنٍ خاصٍ من الإمَامِ وبقلمِه، وكانت أشْبه ما تكون بدائرةٍ مغلقةٍ لا يزورها أحد، ولا تزور أحدًا. انظر: مذكرات الرئيس القاضي عبد الرحمن بن يحيى الإرياني، ص: 130
وحين بدأتْ أجهزة الراديو تتسللُ بعد ذلك عن طَريْقِ التجارِ والمغتربين كان النَّاسُ يستمعون للراديو في سِريَّةٍ مُتناهيَة، خشيَة أنْ تطالهم عُيونُ الإمَام، ومن ثم تنزلُ بهم العُقوبة؛ أمَّا حين تم تأسيسُ إذاعةٍ خاصَّةٍ بدولة الإمَامِ فلمْ يكن بثُّها يتجاوزُ غير سَاعتين إلا ربعًا فقط، مقتصرًا على برامجَ تقليديةٍ، وظلَّ نشرُ الأغاني عملا محرمًا حتى وقتٍ متأخرٍ من عقد الخمسينيَّات. أنظر: الثقافة والثورة في اليمن، عبدالله البردوني، ص: 426 فما بعدها
وحين ولَّى الإمَام يحيى ابنَه إسْماعيل وزارةَ المعارف لم يكن بوسْعه، وهو الوزير أن يُدخل طالبًا في أي مَدرسَةٍ إلا بموافقةِ أبيه، كما لم يكنْ في مقدورِ نجله الآخر وزير الصِّحةِ أن يُدخلَ مريضًا في المستشفى إلا بموافقة أبيْه، ولا في مقدورِ وزيرِ المواصلاتِ أن يوظفَ سَاعيَ بريدٍ إلا بموافقة الإمَامِ نفسِه، كما ذكر ذلك البردوني، وأيضا مذكرات العزي صالح السنيدار، ص: 270.
ولنستمع هنا لشهادةٍ تَاريْخيَّةٍ بقدر ما تبعثُ على الأسَى والحزنِ، بقدر ما تثيرُ من السُّخريَّة، رواها الدكتور مصطفى الشكعة، وقَدْ كان قريبًا من الإمَامِ يحيى، خاصَّة خلالَ سنواته الأخيْرة. يقول: "والحكومةُ اليَمَنِيَّةُ لا تؤمنُ بالأطبَّاء، ولا بالعلاج الحديث، وترى أنَّ الأطباءَ يفِدون ومعهم الثورة، كما ترى أنَّ العلاجَ الحديثَ رجسٌ من عملِ الشَّيطان؛ ولذلك فقد شَجَّعت الشَّعبَ على العِلاج بالتمائمِ، وقَدْ شَاهدتُ بنفسي تمائمَ كان يكتبُها الإمَامُ يحيى، ملكُ اليَمَن، لكي تَستشفي بها الرعيَّةُ، وحتى يكونَ العلاجُ ناجحًا، كان يتقاضى عن كل حجابٍ "تميْمة" نصفَ ريال يمني. إنه ثمنٌ رخيصٌ ولا شك، لأنه يشتملُ على الكشْفِ والدواء معا"!! انظر: مغامرات مصري في مجاهل اليمن، ص: 126.
مضيفا: ".. وعلى عهدي باليَمَنِ كان في الدَّولَةِ كلها ثلاثةُ أطبَّاء، واحدٌ في الحديدة، واثنان في صَنعاء..". نفسه، ص: 126.
وفي واحدةٍ من الحماقاتِ التاريخيَّة، وسِيَاسَة الهمجيَّةِ والحقد التي اتَّبعها هَؤلاء أن عمدَ الإمَامُ يحيى عام 1928م إلى مُصادرة الوقف على أكبر مَدرسَة دينيَّة، عُرفت عند البعض بجامعة الأشاعرة، كانت تُدرِّسُ مختلفَ فنون العلم، في زبيد بتهامة، ولمدينة زبيد شهرتُها العِلمِيَّة التي تجاوزتْ المحليَّة إلى القُطرية، وتوافد عَليْها آلاف المُريدين على ما يزيد عن ثمانمائة عام، وتخرج منها آلاف العُلماء في مختلف المجالات، ولم يبق بعد تلك المصادرة، إلا المدارسُ الصغيرةُ، والكتاتيبُ الأولية؛ وتبع ذلك مصادرة العديد من أموال الأوقاف وإغلاق المدارسِ في أكثرِ من مكانٍ على طول اليَمَنِ الأسْفَل. انظر: ثورة 26 سبتمبر في اليمن، جلوبوفسكايا إلينا، ص: 154.
وخاطب الإمَامُ أحمد الطلابَ أثناء افتتاح مَدرسَة ابتدائية بالعاصمة صَنعاء إبان حكم أبيه قائلا: "من أرَاد منكم أن يتعلم غير الفاتحةِ وأركان الوضوء وضعتُه في فمِ المدفع" انظر: اليمن.. الثورة في الجنوب والانتكاسة في الشمال، د. محمد علي الشهاري، ص: 13.
ومما يزيد مقولة الإمَام أحمد تأكيدًا، ما ذكره العزي السنيدار في مذكراته عن النقيب حمود شريان، أحد أعيان بكيل، حين خاطبَ أحد الأمراء بلهجته المحلية قائلا: "أنا مستغربٌ لأعمال الإمام، كأنهم يدرسون دراسة أخرى؛ أما نحن فلا يسمحون لنا بالقراءة إلا إلى سورة الزلزلة، وأنتم تقرؤون مطلع مطلع.. كيفه"؟؟ مذكرات العزي السنيدار، ص: 91.
وذكر العلامة إسماعيل بن علي الأكوع في كتابه هجر العلم ومعاقله في اليمن نص رسالة لصهر الإمام أحمد، وهو المفتي أحمد بن محمد زبارة الذي وجَّه رسَالَة للشهيد الزبيري، ينصحُه هو ورفاقه بعدم الاهتمامِ بالقبائل وأبنائها، وتركهم على حالهم، قائلا: ".. وإن من الأوفق لهم ألا يسعوا إلى تحسينِ وضع القَبَائلِ وتعليمهم، وإدخال الوسَائلِ الحديثةِ لإسعادِ أهل اليَمن، من بناء مدارسَ ومُستشفياتٍ وطرقاتٍ، وأنَّ عليهم السمعَ والطاعةَ للإمام وإن ضرب ظهرهم.. وأنه لا حاجةَ لهم من التعليم غير معرفة فروضِ العبادة، وأن الأولى والأجدر بالقبيلي أن يبقى فلاحًا، فلا يحتاج إلى نعال، ولا إلى ملابس، ولا إلى علاج؛ بل يجبُ أن يستمرَّ في جهالته وشقائه وبؤسِه ومرضِه، بجوار ثوره ومحراثه وماشيته". انظر: هجر العلم ومعاقله في اليمن، 604/2.
إن ما ارتكبه، ويرتكبه الحوثي اليوم من تدمير وهدم للمساجد وأيضا الأربطة والمراكز العلمية، ابتداء من دماج في صعدة، مرورا بعمران وصنعاء وحجة وبقية مناطق اليمن يأتي في إطار القضاء على خصومه السلفيين بدرجة رئيسية، بذريعة محاربة الإرهاب، وهو ادعاء سخيف ومكشوف أمام الرأي العام، كون هذا المساجد تهتم بتخريج طلبة العلم الحافظين لكتاب الله وسنة رسوله. وهؤلاء هم أخطر الناس على مشروعه الفارسي الخميني، لذا يعمد إلى القضاء على الفكر السني الوسطي المعتدل بالقضاء على الجماعة ذاتها، ليخلو له الميدان. خاصة وقد ذاق الأمرين من طلاب مركز دماج في صعدة الذين واجهوه متسلحين بالعلم والعقيدة أكثر من السلاح التقليدي فصمدوا شهورا بين نيران أسلحته في الوقت الذي سقطت معسكرات كبيرة في غضون أيام.
مساجد طلبة العلم ومراكزهم وحلقاتهم أخطر الأسلحة على الحوثي، لذا كانت _ ولا تزال _ من أولى أولوياته. وقد صرح بذلك علنًا زعيمُ مليشياتهم العسكرية أبو علي الحاكم بأنهم تذوقوا المر في دماج.
وثمة مسألة أخرى، فإن الحوثي يرى في كل فكر أو ثقافة تخالف فكره وثقافته خطرا يجب مواجهته، لأن أفكاره الزائفة، وثقافته الكهنوتية تتبخر وتتلاشى أمام فكر الشباب المنتمي إلى عقيدته الصحيحة، ولن ينسوا الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله وهو يفندُ أباطيلهم ويرد على شبهاتهم منذ عقود حتى توفاه الله.
- مجلة المنبر اليمني