تقارير ووثائقدراسات وبحوث

الرئيس عبدالله السلال: منقذ الثورة اليمنية - أدوار ومواقف

لطفي نعمان يكتب عن أول رئيس في اليمن الرئيس المشير عبدالله السلال: المشير السلال: منقذ الثورة اليمنية - أدوار ومواقف


في ذكرى رحيله، قدّم المشير عبدالله يحيى السلال شهادته في “وثائق أولى عن الثورة اليمنية” بصفته قائد ثورة 26 سبتمبر 1962م ومنقذها من الإخفاق، ومن أول رؤساء الجمهورية العربية اليمنية".

إذْ تولّى مهام الرئاسة بعد 45 عاماً من ميلاده، 1917م، بقرية شعسان بسنحان محافظة أو لواء صنعاء، ثم دراسته بمكتب الأيتام، وفي غضون شبابه ارتاد خلالها السجون الإمامية ثلاث مرات، أُولاها: عقب عودته وأول بعثة دراسية عسكرية يمنية إلى العراق عام 1937م دامت عاماً واحداً، وثانيتها: بعد توزيع منشورات مضادة للإمامة وشخوصها. دامت شهوراً، وثالثتها: إثر فشل ثورة 1948 الدستورية، فاقتيد إلى سجن نافع بحجة الذي “بناه الشياطين” -حد تعبيره، ثم إلى سجن القاهرة بحجة أيضاً حتى أُفرج عنه في العام 1955م.

تدريب العكفة:
وقبل أن يُعرف سجيناً من الأحرار اليمنيين، الدستوريين والعسكريين، عُين بعد عودته من العراق مدرباً للعكفة؛ الجيش غير النظامي، الذي أفتر أفراده حماس مدرّبهم بعدم التزامهم وانضباطهم، ممّا بخر آماله في تطبيق ما تعلّمه ببغداد لبناء جيش حديث. ولكن تسنّى له بعمله في “العكفة”، الاطلاع على كيفية تعامل الإمام يحيى نفسه مع المواطنين الشاكين من ظلم العمّال وإحالته إياهم لبطانة تفترس مقدراتهم ثم تعيدهم إلى المشكو منهم وهم المرتبطون بهم بما يقدّمون من رشاوى وإتاوات وهدايا مصدرها أقوات المساكين!

العسكري المعتقل:
ثم انتقل السلال من تدريب “العكفة” إلى تدريس طلاب مدارس الإصلاح والأيتام والإرشاد، وحاز تشجيع وزير المعارف سيف الإسلام عبدالله، إلا أن ذاك التشجيع جنى عليه، بانتقاله إلى وزارة المواصلات للعمل على جهاز عتيق لم يمكّنه المسؤول عنه من العمل عليه، بل وزاد الأخير في إيغار صدر وزير المواصلات سيف الإسلام القاسم ضدّه، بنقل أحاديثه ومقارنته بين وضعي العراق واليمن.

وكان ذلك ممّا سبب أيضاً في اعتقاله الأول، إضافة إلى شكوى واحتجاج إيطاليين من إلقائه للعلم الإيطالي أرضاً لفرط تأثره بدعاية تأهب موسوليني لاحتلال اليمن بعد استعماره الحبشة. أفضى اعتقاله عاماً بعد مُحاكمة جرت نتائجها لصالحه (…)، إلى مُراجعة الخيِّرين ثم أمر إمامي بإطلاقه عقب تعرّض الإمام يحيى لحادث سير، ومطالبة أخيه علي السلال بالإفراج، فيما انشغل الناس بإنقاذ الإمام!

أعيد ثانية إلى وزارة المواصلات إنما إلى وظيفة لم يكن يعرف عنها شيئاً، ولكن تزامناً مع وصول البعثة العسكرية العراقية أُعيد إلى وظيفته التي يعرفها جيّداً، في الجيش مرّة ثانية للتعاون مع أعضاء البعثة الذين اصطحبوا معهم ما تعلّم عليه من أجهزة حديثة، وما قطع شوطاً في تدريب أفراد الجيش حتى اعتقل ثانيةً، دونما سبب واضح غير تكاثر صدور منشورات سياسية مضادّة، توالت إلى الحد الذي أمطرت فيه على مقام الإمام يحيى أثناء مقابلته لعبد الله السلال بعد الإفراج الثاني عنه، والمطالبة برجوعه إلى وظيفته السابقة، بالجيش.

بث التوعية من مدرسة الإشارة:
هذه المرة، تولى إدارة مدرسة الإشارة، وكُلّف بتدريس بعض المواد العسكرية في المدرسة الحربية، مع زملاء فترته العراقية، ومشاركيه كراهية النظام المهترئ، وتمكّنه من توعية تلاميذه وتبصيره لهم بسوء الوضع الذي يعيشه اليمن. وبانتظام حركة الأحرار اليمنيين في إطار تنظيمي: (الجمعية اليمانية الكبرى)، وانتظام لسان حالها (صوت اليمن) من عدن، ومعاضدة الإعلاميين العرب من مصر للقضية الوطنية اليمنية، بإصدار مطبوعات ونشرات تلقفتها أيدي رموز الحركة بصنعاء، ومنهم السلال الذي وزّعها سراً وعلناً، أحدث هذا النشاط تأثيراً قوياً جرّأ بعض أنصار الإمام على نقده ونُصحه، دون أن يغيّر، وقد بلغ أرذل العُمر، شيئاً أو يصلح ما أفسده، بل وأقصى آمال الإصلاح.

المشاركة في ثورة 48م:
ومضت الحركة إلى ترتيب الخلاص من الإمام يحيى، لينخرط السلال بصفته العسكرية في تلك الترتيبات ويحتضن داره بصنعاء جلسات العسكريين برئاسة الزعيم العراقي جمال جميل، طيلة شهرين من أواخر 1947م حتى أول 1948م، اتفق فيها على خُطة التنفيذ العسكرية وتوزيع الواجبات والمهام، فأنيط بأبي علي قيادة الجيش واحتلال دار السعادة وقطع سلك التلغراف، واحتلال وزارة المواصلات.

وإذ تمّت العمليات على النحو المُخطط له، إلا أن القدر خبأ الفشل والإحباط لأولى محاولات التغيير العنيف، وكوفئ السلال شعبياً “بصمّل غليظة وعصي” انهالت عليه ثأراً للإمام يحيى من المواطنين المخدوعين، وألقي في سجن الرادع بصنعاء، ثم أودع سجون حجة الرهيبة، بعد ما قطع الطريق وسط مواكب “الدرداح الشعبي” والزينة “بالمغالق والقيود الثقيلة”!

من الممات إلى الحياة:
وفي سجن نافع بحجة، يضطر السلال والأحرار المساجين إلى رشوة السجانين لتنظيف المراحيض وتحويل مجراها إلى خارج السجن، فبسبب روائحها الكريهة ونفوذ الجراثيم والميكروبات قضى 800 شيخ من الزرانيق نحبهم، ولم يحن بعد موعد الأحرار الذين يستيقظ بعضهم غير مرّة على نداء خاطئ لأسمائهم،

وصادف أن تعرّض السلال نفسه لذلك الموقف بغية تقديمه قربان مذبحة تعزف لها ألحان الموت. إلى أن مرّ عامان ونصف العام حسبوا بربْع قرن من الزمان، نقل إلى قاهرة حجة واستعاد شعوره بالحياة، حتى جاء الفرج من الله وقد بلغ به اليأس مُنتهاه، إذ اقتنع سيف الإسلام محمد البدر بن الإمام أحمد حميد الدين بالإفراج عنه وعن لفيف من الأحرار ليكونوا عونه على حركة 1955م التي انقلب فيها السيف عبدالله والجيش على أبيه.

أمير حرس البدر:
واقتُرِح للبدر تأمير السلال على حرسه وقد كان، بعد مراجعة السلال للإمام أحمد، فكان منه توثيق صلاته بحاشية البدر وفيها نخبة من الشباب الوطني، واستطاع الاستمرار بوظيفته واجتياز مراحل صعبة، وتحذيرات كثيرة منه، عدّها البدر وحاشيته تشكيكاً وأوهاماً من منافسيه (الحسنيين)..أي أنصار عمّه سيف الإسلام الحسن.

تخلل العامين في حضرة البدر، لقاءاته ببعض الطلبة المبتعثين للدراسة بمصر، وعهوده المُضي في الأخذ بيد الشباب إلى ما يعلي شأن الوطن ويهيِّئ الجو الصالح والمناخ الملائم للخلاص من الطغيان.

إحباط بشائر الإصلاح:
عقب افتتاح كليتي الشرطة والحربية، تسلم أمير حرس ولي العهد، عبدالله السلال، المطار الحربي، ومنه افتتح كلية الطيران وأشرف على ما سُمِّي ب”فوج البدر”، وذاك إثر سفر الإمام إلى روما للتداوي من علله، وتفويض ولي عهده بتصريف شؤون الدّولة فترة غيابه، لكنه قطع رحلته وفاجأ الناس بعودته، ممّا أحبط مسار خروج البدر عن نهج أبيه وجدّه، بما سرّبه البدر من آمال إصلاح وبثّه من وعود تغيير بتأثير وجهود الأحرار المحيطين به مدنيين وعسكريين، فكان نصيب السلال الإبعاد عن الفوج والحرس والطيران، إلى ميناء الحديدة.

صلاته الخارجية والوطنية:
تموضع السلال كمسؤول قيادي أنشأ صلاته بعدد من الخبراء الأجانب والسفراء العرب، لاسيما المصريين، واغتنم فرص حضور مسؤولين سوفييت وصينيين لافتتاح مشروعي ميناء الحديدة، وطريق صنعاء – الحديدة، فينفرد بلقائهم ويبسط صورة البلد، ويشير إلى ضرورة مساعدة الشعب على الخلاص من مُعاناته.

وارتأت جموع من الأحرار أن سبيل الخلاص من مُعاناة الشعب يتمثّل في “تحطيم الأسطورة” أي اغتيال الإمام نفسه، ومن أجل ذلك زوّد السلال الشهيد سعيد حسن فارع (إبليس) بقنبلتين يدويتين، لتنفيذ الخُطة التي انكشفت وأودت بالشهيد سعيد إبليس إلى العذاب حتى الشهادة.

تنبؤ ملكي بأول رئيس جمهورية:
ولما لم تكن صلة السلال بعيدة عن جموع الأحرار في الدّاخل بمختلف ميولهم، ظنّ الإمام أحمد بارتباطه بمحاولة اغتياله بمستشفى الحديدة عام 1961م على أيدي الضبّاط: العلفي، اللقية والهندوانة، ولذلك كلّفه بالتحقيق في القضية، ليؤكّد صحة ظنونه أو آثامها. ومع ذلك استمر عمل السلال بميناء الحديدة وسط رقابة شديدة من عامل الميناء الذي رفع تقارير تحذيرية إلى الإمام مفادها بأنه “سيكون أول رئيس للجمهورية إذا غفل عنه”!

ولكنه عاد إلى الحرس، لدى ولي العهد، دون أن تنقطع صلاته الوطنية، ولقاءاته التي تمّت حتى في خضمّ جولات ولي العهد إلى أطراف مختلفة من اليمن المتوكلي، من الجوف إلى البيضاء، فيما أسماه السلال نفسه “رحلة مباركة” تلمسّ خلالها ضيقا شعبيا واسعا من ضيم الحكم.

انتخابه قائداً للثورة:
يصل المطاف بالسلال إلى لقاء “بوعان” الشهير مع رجال وشباب الحركة الوطنية اليمنية، ثم إبلاغ القاضي عبد السلام صبرة إياه بقرار انتخاب الزعيم -أي العميد- السلال قائداً للثورة بدلاً عن حمود الجائفي، ويفاجأ الضباط والمشايخ الأحرار بموت الإمام أحمد ممّا أغناهم عن تنفيذ خُطة اغتياله الموضوعة مبكّراً، وكذلك العدول عن اغتيال البدر لحظة تشييع الجنازة لئلا تصير مذبحة. ومع تولِّي البدر للأمر أحيط بحاشية أبيه وأنصار عمّه الحسن، ما جعل البدر -حسب رؤية السلال- مسلوب الإرادة، ومسيّراً نحو اتخاذ التدابير ضد الثورة المحتملة التي شرع البدر بتهديد ووعيد من يدبرونها.

قيادة وإنقاذ الثورة:
لذلك.. عجّل الثوّار بتنفيذ خُطة الثورة، وتم تنصيب قائدهم المنتخب زعيماً لها، لاسيما وهو أمير الحرس، وإبلاغه عبر المرحوم صالح الرحبي وأحمد الرحومي ببدء التحرّك الثوري، فبدأ اتصاله بمسؤولي الكلية الحربية، لإيصال مدرّعة إليه تقله إلى مقر القيادة، حيث حرر أمره بفتح باب قصر السلاح لتموين الثوّار بذخيرتهم لما أوشكت على النّفاد.

وأمكنه، شخصياً، تخليص الضباط الأحرار الشباب من أولى المآزق وأحرج المواقف التي تعرّضوا لها كإحباط سيطرتهم على ثكنة المدفعية، وعدم فتح باب قصر السلاح، وانصياع فوج البدر لرسائل الأخير ومطالبته إياهم بالمقاومة، فيما كان وصول السلال نسفاً لكل مثبطات الحركة، وإنقاذاً لها من الفشل.

وكانت من مفاجآت فجر الثورة وممّا كدّر مواقف الثوّار البطولية، فرار البدر وبقاؤه حياً ما اضطره إلى إرسال قوتين تتولى مطاردته الأولى بقيادة محمد الأهنومي، والملازم علي السلال، وغيرهم إلى شبام والطويلة فالمحويت، والثانية بقيادة النقيب محمد مطهر والنقيبين عبدالله صبرة وحسين المسوري وغيرهم إلى عمران فكحلان حيث علموا بوجود البدر في جبل مسور وقامت القُوة الثانية بمطاردته ومن معه.

رئيس جمهورية:
وصار سليل “حماة العورة”، كما يُقال عن أهل برط، أول “حماة وقادة الثورة”، ورئيساً للجمهورية من عامة الشعب، من أبناء سنحان، بعدما تفرّد في حكمه خاصته، أو كما قال لأحد الصحفيين الأردنيين: “نام الناس على إمام (ملو هدومه) ثم استيقظوا على إمام ب(بنطلون) في وقت لم يكن يجوز الصلاة به في عُرف اليمنيين!”.

تنازع فيه المناضل الحُر مع الحاكم العسكري والمساير للإدارة العربية، إلى الحد الذي يبعد فيه قُرابة عام عن حُكم بلده، ويكون محور صدام مع رفاقه الجمهوريين بسبب ذلك حتى حمل فوق طاقته. وقد كان لاستناده على جيش مصر في حماية الثورة حقيقة عذر واضح ما كان ليجهله أحد وهو وضع الجيش اليمني الناشئ، وحالة المزايدة التي سادت الوسط القبلي اليمني والمنقسم بين جمهوريين وملكيين، ولعلّ الفرد منهم جمهوري وملكي أو (جملكي) في ذات الوقت، والدعاء الشهير معروف: “اللهم احفظ السلال للنصف واحفظ البدر للنصف”!

لكن السلال بشجاعة فريدة، وعقلية غير مرتبكة، وسخرية فياضة في أشد اللحظات كآبة، تصدّى لأعقد المواقف وأثبت صحة رؤية الأحرار فيه بأنه “أكثر الضباط جسارة وإقداماً حين جدية العمل”، وإن عرف الناس عنه السخرية والمرح التي لازمت سعة أفقه ورحابة صدره إزاء شعب متعدد الأفهام وأسير الأوهام لزمن طويل.. طويل.. طويل، لكنه والوضع عامةً ألهماه النكات التي سرت مثلاً بين الناس، وجعلته “أستاذ السخرية الهادفة”.

الذاتية اليمنية:
وعلى الرغم من مسايرته الواعية للقيادة العربية، إلا أن الذاتية اليمنية لم تغبْ تماماً أو تتلاشى وهو الوطني المجرب والقائد الجسور، وصاحب الخصائص المميّزة، فقد احتج على اتفاقيتي جُدة 1965م والخرطوم 1967م بين طرفي النزاع السياسي العربي داخل اليمن، مصر والسعودية لما أبرمتا دون مشورته، فأصاب تجاهلهما لوجوده في مؤتمر الخرطوم عام 1967م موضعاً في نفسه جعله يعلن أنه في حل ممّا اتفق عليه بين الطرفين المصري والسعودي وغير راضٍِ عن مساعي اللجنة الثلاثية..
ويقضى الأمر إن غابت تميم ولا يستشهدون وهم شهود!
لكن سير الأمور أبداه قابلاً بخروجه في أوائل نوفمبر 1967م عبر العراق إلى مصر -بعقله- من سدة الرئاسة، إذ كان همه “الخروج بعقله” من تلك الدوامة العصيبة.. التي جعلته يحفظ الثورة، ويدّخر لها أيضاً قادتها لاسيما خلفاؤه على الحُكم والرئاسة ومواصلة النضال في سبيل بقاء الجمهورية.

الملاحظ في سيرته ومساره أثناء اعتقاله أو تحريره من الاعتقال: استمرار تركيزه على نشاط الثقافة وبث التوعية وتعليم الأجيال، سواء كانوا رهائن أو محررين.

من الحفاظ على الثورة إلى صون الوحدة:
إخراج السلال من الحُكم في 5 نوفمبر 1967م، سبق حصار صنعاء لسبعين يوماً، قضاها في العراق إلى أن نُقل للإقامة بمصر عام 1968م محاولاً في أواسط السبعينيات العودة إلى اليمن دون أن تُسفر محاولته شيئاً يُذكر، وأعيد بدعوة من الرئيس علي عبدالله صالح أوائل الثمانينيات، ليكون قريباً من محاولات إعادة توحيد شطري اليمن، ثم شاهداً على تلك الاستعادة لوضع اليمن الطبيعي.. واحداً موحّداً، لولا ما بدت من شرارات خلاف ونيران أزمة دعته إلى التوسّط بين أطرافها والمشاركة في فعاليات توقيع وثيقة العهد والاتفاق بعمّان عاصمة الأردن، ويجعل وصيته “الحفاظ على الوحدة” قبل لفظ أنفاسه الأخيرة في 23 رمضان 1414ه الموافق 5 مارس 1994م.

 

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى