من الأرشيف

فيدرالية اليمن.. التحديات والمآلات في ضوء العامل الخارجي والتجارب العربية ‏

رسمياً، تم إقرار تقسيم اليمن إلى 6 أقاليم ومنحها الحكم الذاتي ضمن دولة يمنية اتحادية.. ‏وهذا قرار يتعلق بكافة ‏مكونات الدولة الأساسية ‏‏(شعب، وأرض، وسلطة)، وهناك تجارب للدولة ‏اتحادية ‏ومسلمات لا يخلف حولها الخبراء، وهناك وثائق ‏للحوار وخطوات على أرض الواقع.. ‏وفي هذه المادة نحاول الإجابة على العديد من التساؤلات: ما نوع هذا التقسيم؟ ما إمكانية ‏النجاح وفقاً لما هو موجود من تجارب ‏عربية ‏ودولية؟ ما ‏إمكانية أن يحافظ على ‏الوحدة؟ وما ‏هي والمآلات والتحديات أمام هذا المسار؟

لامركزية سياسية ‏
اعتمد قرار تقسيم الأقاليم باليمن بنود وثائق مؤتمر الحوار، وبالتالي فهو تقسيم فيدرالي للحكم ‏‏إلى ثلاثة ‏مستويات (الدولة الاتحادية، الأقاليم، الولايات) ولكل مستوى سلطات (تنفيذية، ‏تشريعية، قضائية)، أي أنها لامركزية سياسية ‏وحكم ذاتي وليس كما يردد بعض المسؤولين ‏بأنه تقسيم إداري. ‏

والفيدرالية في السياق اليمني، تعني تفكيك الدولة البسيطة ‏الموحدة إلى أجزاء مستقلة ذاتياً ‏بمسمى (أقاليم)، ومن ثم إعادة تركيب هذه الأجزاء لتنتظم في دولة اتحادية مركبة من كيانات ‏‏دستورية مستقلة. تتحد شكلاً في الدستور الفدرالي أو الدولة ‏الاتحادية التي تتولى الشؤون ‏‏الخارجية والأمن القومي، لكنها تختلف عملياً في أن لكل إقليم أو جزء دستوره المحلي ‏وقوانينه ‏‏المختلفة وحكومته المستقلة. ‏

التجارب العربية ودور الخارج
التحولات التي يمر بها اليمن، ليس بعيدة عما يحصل في محيطه الإقليمي والدولي، ‏فالتجارب الدولية كما يقال ‏تُستنسخ، ونحن نعلم أن أحداث وتحولات العام 2011، مرت ‏بأكثر من دولة عربية، وترتب على ضوئها صورة ‏مختلفة للمنطقة، الأمر الذي يجعل من ‏الحديث عن الفيدرالية في اليمن دون النظر إلى التجارب العربية بشكل ‏خاص، قراءة ناقصة.. ‏وقبل أن نصل إليها نوضح عدة نقاط:‏

الأولى، أن الدولة الاتحادية (أو الفيدرالية) تنشأ بطريقتين: الأولى بتوحد عدد من الكيانات ‏المتفرقة، وكذلك نشأت أغلب ‏الدول الفيدرالية (أمريكا، ألمانيا... الخ)، وهي دول لها عوامل ‏ذاتية وظروف نشأة مختلفة، لا تفيد المقارنة في سياق المنطقة العربية. والطريقة الأخرى، أو ‏النوع الآخر للفيدرالية هو تفرق كيان دولة ‏موحدة إلى كيانات متعددة لأسباب وظروف مختلفة.. ‏ونجاح بقاء الدولة من هذا النوع يعتمد أولاً ‏على وجود دولة مركزية راسخة تستطيع أن تلبس ‏النظام المركب دون أن يؤدي لتفكك البلاد وبما يمنع ‏الاستغلال الخارجي.‏

الثانية، أن الأقاليم في اليمن تأتي في ظل وصاية أجنبية شبه مباشرة في حين أن الداخل ‏منقسم ومتخاصم. وتقول التجارب إن معظم الدول التي تطرح فيها حلول الفدرالية والتقسيم إلى ‏أقاليم، تأتي في ‏ظل تدخلات خارجية. ما يعني أن فدرلة اليمن نتيجة وقوعه في مصيدة ‏التدخلات الدولية، التي تستخدم مختلف ‏وسائل القوة والنفوذ والإعلام لفرض حلول لا تؤدي إلى ‏النجاة بقدر ما تهدد بنكبة طويلة الأمد. ‏

والثالثة، إن التجارب الفدرالية العربية هي الأقرب إلى بعضها، والسبب الرئيس في ذلك، هو ‏أن الصراع العربي ‏الإسرائيلي يتحكم بالجزء الأكبر من سياسات الدول ‏الغربية تجاه المنطقة.. ‏وفيما يلي لمحة لأبرز التجارب العربية (الإمارات، السودان، الصومال، الصومال):‏

فدرالية الإمارات
يرى الخبراء أن تجربة الإمارات العربية المتحدة كدولة فدرالية لا تصلح للمقارنة في السياق ‏اليمني، وأول أسباب ذلك أن فدراليتها جاءت استجابة ‏لتوحد عدد من الإمارات المتفرقة ولم تكن ‏دولة موحدة تفرقت إلى إمارات فدرالية. بالإضافة إلى خصوصيات أخرى تتعلق بالمكونات ‏الداخلية، فأبوظبي تمثل 86% من مساحة الدولة وهي مخزن الثروة، كما أنها دولة صغيرة ‏بالمساحة (86 ألف كم نصف محافظة حضرموت اليمنية تقريباً) والسكان (حو إلى مليون)، ‏وبالتالي لا تنطبق عليها المقارنة كدولة فدرالية ‏لأنها بوضع خاص. وهي أقرب ما تكون إلى ‏دولة مركزية اسمها "ابوظبي"، ضمت مكونات صغيرة إليها فأصبحت اتحادية.‏

فدرالية السودان ‏
جاءت فدرالية السودان في دستور العام 1973 نتيجة اتفاق مع الحركة الشعبية في الجنوب، ‏‏منح السودان على ضوئه ‏الحكم الذاتي للحركة، وتجددت الحرب بعد سنوات ولم يكن الحكم ‏الذاتي إلا عاملاً سياسياً لدعم الحركة الانفصالية.. ‏واستمرت الحروب والتمردات المدعومة من ‏جهات ‏أجنبية حتى اليوم رغم فدرالية اتفاقية نيفاشا 2005 الذي مهد ‏لانفصال الجنوب ‏رسمياً. ‏وكانت جميع هذه الحلول نتيجة التدخل الدولي، ويمكن العودة إلى العديد من المؤلفات ‏‏والاعترافات التي توثق ما حدث في السودان وكيف أنه كان عملاً إسرائيلياً استعمارياً بحتاً أدى ‏لإعاقة أكبر دولة ‏عربية وتقسيمها ولا يزال التقسيم جارياً.‏

فدرالية الصومال
بعد سقوط كيان الدولة في الصومال وقعت البلاد في مصيدة قوى إقليمية ودولية لم تطرح ‏على شعبه، غير الحلول ‏الفدرالية، بدءاً من العام 1993 على شكل مقترحات وندوات.. ‏وصولاً إلى إقرارها في العام 2002 بعد مؤتمر حوار عقد في أحد منتجعات نيروبي ‏‏بمشاركة ‏‏450 صومالياً، وبرعاية من أثيوبيا وكينيا والأمم المتحدة ودول أجنية، وعند التدقيق بتفاصيله، ‏نجده جاء لإحباط مصالحة صومالية واتفاق لإعادة الدولة ‏الموحدة وُقعت في ‏جيبوتي في العام ‏‏2000. حيث أحبطت القوى الدولية محاولة الصوماليين ‏إعادة الدولة الموحدة وذلك بإقرار ‏فدرالية ‏بلا دولة جعلت انقسام وتشرذم الصومال وكأنه قدر لا ‏مفر منه. ‏

فدرالية العراق ‏
أقر مؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد في لندن بأواخر 2002، قبل أشهر من ‏الغزو ‏الأمريكي للعراق، اعتماد الفيدرالية، وكان ‏الاجتماع برعاية وهندسة أمريكية بريطانية وبإشراف ‏من "بول بريمر".. ‏ثم أقر المحتل العراق كدولة فيدرالية في "قانون الدولة المؤقت"، قبل أن يقوم ‏المبعوث الأممي للعراق (أنذاك) جمال ‏بن عمر بمفاوضات لإعداد دستور العراق المحتل ‏الفدرالي والذي ‏جرى الاستفتاء عليه في ‏2005.‏

‏والعامل المشترك في التجارب السابقة هو أن جميعها جاءت نتيجة التدخل الخارجي أو ‏الاحتلال، وأنها خرجت من ‏مؤتمرات فندقية برعاية الأمم المتحدة وأمريكا، وأنها لم تكن حلاً ‏سحرياً، بقدر ما عملت على ضمان ديمومة الصراعات ‏والحروب وعدم نهوض البلد من جديد. ‏وهو الأمر الذي يكاد يتكرر في اليمن بكثير من جوانبه، بل إن الفريق الدولي الذي ‏أشرف ‏وهندس التحولات الفيدرالية في تلك البلدان نفسه الآن في اليمن، أو جزءاً منه. وما جمال بن ‏عمر إلا واحداً من ‏هذا الفريق. ‏

إن ثلاث تجارب عربية، وهي السودان، الصومال، العراق، كافية للقول إن الفدرالية في سياق ‏الدول التي تشهد ‏صراعات، ليست حلاً سحرياً كما يصور البعض، بل إنها الحقنة التي تعطيها ‏قوى دولية لأي بلد ليموت ‏بالتدريج أو لكيلا يقوم من جديد إذا تعرض لنكبة أو احتلال. وإذا ‏كانت الآن تطرح كحل للصراعات.. فعلينا أن نسأل: ‏ما علاقة الدول التي ترعى الحلول بهذه ‏الصراعات نفسها؟!‏

فيدرالية ليبيا
يمكن أن نضيف للأهمية، ليبيا، والتي انطلقت دعوات فدرلتها بعد سقوط نظام القذافي، ‏بالتزامن مع صعود هذه الدعوات في اليمن، وتكاد الأحداث الجارية تتشابه في كثير من ‏أوجهها، حتى كأن المُخرج في غرفة واحدة. ‏

التدويل والحلول الفيدرالية
لقد أثبتت الدراسات والتجارب، أن التدويل هو الخطر الأكبر الذي يصنع النكبات الكبرى في ‏تاريخ البلدان والشعوب، ‏ففلسطين والعراق، والعديد من الدول الأفريقية، والأغلبية الساحقة من ‏الدول المنكوبة، عند التحقق في أوضاعها نجدها ضحية قوى ‏دولية.. إذن أن المستبد المحلي ‏يمكن أن يجعل البلد معاقاً وبظل حالة من الضعف أو الفقر أو القمع. لكن القوى الدولية - ‏في هذا الظرف التاريخي، إذا ما وقعت ‏بلادٌ في قبضتها فإنها تصبح مهددة بالفناء وبحفرة ‏عميقة من الممكن أن تمتد عقوداً، ‏لأنها تتدخل بالنسيج الاجتماعي والخارطة السياسية ‏ومكونات الدولة الأساسية. ‏

‏ ويبدو التقسيم الفدرالي هو الوسيلة الأنجع لإبقاء دولة ما تحت السيطرة. فهو يصنع رؤوساً ‏متناثرة يسهل إدارتها ‏واقتيادها من القوى الخارجية التي تجد فرصتها بأن تكون صاحبة القرار ‏في أي دولة، متى ما كان الداخل متصارعاً، ‏وبالتالي فإن إشعال وتغذية الصراعات المحلية ‏تظل الضامن الأول لبقاء الخارج فوق الجميع. وأغلب التجارب تقول إن ‏أي بلد تعرض لنكبة ‏لم يقم مجدداً وليس من السهولة أن يقوم بعد تقسيمه اجتماعياً وتأسيسه طائفياً وتحولت إلى ‏ساحة ‏للحسابات الخارجية.‏

‏"اللامركزية - في ظل هكذا وضع محلي ودولي - هي وهم، فالعالم ‏في الواقع يتجه نحو ‏المركزية بحكم القطب الأوحد ‏والقوى المهيمنة. وإن نزع ‏السلطة من صنعاء، في ظل ‏ضعف ‏الدولة وعدم وجود مؤسسات للأقاليم، لن يكون ‏للسلطات ‏محلية، بل إن كل عاصمة من ‏عواصم الأقاليم ‏والمحافظات ستفقد ما لديها من صلاحيات في ‏ظل الدولة ‏الوطنية وتنتقل إلى ‏مركزية شديدة، وهي مركزية ‏العواصم الخارجية التي تتقاسم ‏اليمن الآن". ‏ ‏

الوصاية في اليمن والتحديات الواقعية التي يتم تجاهلها
معلوم، كما أسلفنا، أن ما يجري في اليمن يتم تحت إشراف وتدخل دولي يتعدي الجوانب ‏السياسية إلى الإدارية، وهنا نسأل لماذا ‏يتم تشجيع التقسيم وجعله خياراً إجبارياً مع أن معظم ‏المؤشرات الواقعية تؤكد أن ما يجري ليس حلاً؟. وفيما يلي ‏نلخص أبرز التحديات ‏والصعوبات: ‏

أولها. الاقتصاد: أن الاقتصاد كان وما زال التحدي الأبرز أمام اليمنيين، ومن المعلوم ‏والمسلم به أن الدولة ‏الاتحادية تحتاج إلى ميزانية أضعاف مضاعفة، باعتبارها تغطي نفقات ‏عدد من الأجهزة الحكومية وليس حكومة ‏واحدة.. وقرار الأقاليم أقر وثائق مؤتمر الحوار بتقسيم ‏فيدرالي للحكم إلى ‏ثلاثة مستويات في (الدولة الاتحادية، الأقاليم، الولايات) وتطبيقها حرفياً ‏يعني إيجاد 29 حكومة مستقلة.. حكومة وبرلمان وقضاء للدولة الاتحادية، وحكومة وبرلمان ‏وقضاء ‏مستقل لكل إقليم من الأقاليم الستة، وحكومة وبرلمان وقضاء مستقل، لكل ولاية ‏وعددها 22 محافظة أو ولاية. ولا تتحمل ميزانية اليمن الحالية حكومة واحدة فكيف بكل هذه ‏الحكومات؟ بالنسبة للدعم الدولي فهو مجرب في منعطفات عديدة أبرزها المرحلة الانتقالية ‏حينما لم يعطِ ‏الخارج شيئاً يستحق الذكر. ‏

ثانياً. إن هذه الأقاليم هي أقاليم افتراضية، وليست مؤسسات حكم ثابتة على أرض الواقع، ‏وبالإضافة إلى الميزانية ‏الهائلة التي يحتاجها إنشاء مؤسسات الأقاليم، فإن نظام الإقليم (الحكم ‏الذاتي) ليس نظاماً إدارياً، بل هو نظام حكم ‏يفترض أن يكون راسخاً على أرض الواقع، وإلا ‏فإنه لكي يستقر يجب عليه أن يمر بالأطوار التي تمر بها أي دولة ‏وسيكون في صراعات ‏محلية، فإما تحتكره مجموعة بالقوة أو يظل صراعاً بين المجموعات المحلية. ولنا أن نتخيل ‏‏أي ديمقراطية سيوفرها الحوثي المحافظات التي يسيطر عليها.. وبهذه الطريقة أو بأقل منها ‏ستكون جميع الأقاليم في ‏الشرق أو الغرب. ‏

ثالثاً. إن شرط نجاح الدولة المركبة هو وجود دولة مركزية قوية تمنع الاستغلال الخارجي ‏وتحافظ على وحدة البلاد ‏وتفرض نفوذها على حساب الانتماءات الداخلية. وإذا كانت مؤسسات ‏الدولة المركزية في اليمن تتعرض للهدم المنظم، ‏وتعيش حالة انقسام وضعف غير مسبوق ‏يهدد وجودها على مستوى العاصمة، فكيف يمكن أن تصبح هذه الدولة ‏اتحادية؟ ونحن نرى ‏الجيش يتعرض للاستهداف وترتفع المطالبات بإخراجه من الآن، فكيف سيكون الأمر مع ‏ارتفاع ‏النبرة المناطقية وإنشاء مؤسسات حكم ومنحها شرعية دستورية؟. فالحديث عن أي نوع ‏من الأنظمة، يتطلب أولاً، ‏دولة تفرض سيادتها على البلاد، وتسمح بجو ملائم لإنشاء أي ‏مؤسسات لامركزية تحقق مصلحة للمواطنين، أما الآن ‏فإن اللامركزية تعني تسليم رقاب ‏المواطنين في المحافظات إلى مراكز نفوذ وجماعات تدعي الوصاية على أجزاء من ‏البلاد. ‏

رابعاً: الموقع الجيوسياسي لليمن ووقوعها تحت وصاية دولية وتدخلات مباشرة، يعني أن هذه ‏الأقاليم ستقع ‏في مصائد الأجندة الدولية المتصارعة والمتحالفة، والتي تعد من الآن قوى نفوذ ‏وسيطرة لمصلحتها.‏

عامل الاقتصاد، يجعل من تحول المخرجات المكتوبة إلى واقع إيجابي ضرباً من ‏المستحيل.. لأنها وفي أفضل الأحوال تحتاج ‏أولاً لإيجاد الظروف الملائمة وإنعاش الاقتصاد، ‏وهذا بحد ذاته يحتاج إلى معجزة. والعوامل ‏الأخرى، ضعف الدولة، غياب مؤسسات الأقاليم ‏الراسخة، التدخل الخارجي، كل ذلك يجعل من هذه الحلول وبهذه ‏الظروف أمراً من الصعب أن ‏يتحول إلى واقع لمصلحة اليمنيين، على المدى القريب، إلا أنه من الممكن أن يكون عاملاً ‏يساعد على التدحرج إلى اللادولة. ‏ ومن خلال ذلك، نجد أن تشجيع الدول الوصية على اليمن ‏للقفز للفدرالية ليس موقفاً بريئاً، بل إنها هندست هذا التحول، ‏الذي يؤدي إلى نتائج مخالفة من ‏الصعب التكهن بجميع جوانبها. ‏

خلاصة:‏
‏- مخرجات ووثائق مؤتمر الحوار، إذا ما مضت، ليست عملية تحويل الدولة من موحدة إلى ‏اتحادية، ‏وإنما من الممكن أن تكون خارطة طريق للانتقال إلى مرحلة اللادولة. أو أداة ‏للتكسير، وبعد التكسير سيتضح أن "الأقاليم" وهم ‏وتستمر عجلة التقسيم إلى أدنى حلقات ‏ممكنة. ‏
‏- التقسيم الذي حملته وثيقة الأقاليم هو محاولة لإعادة الزمن إلى الوراء، ولا يحمل أية ‏ضمانات تحافظ على الوحدة أو ‏تضمن أدنى صور المواطنة، بقدر ما هو تفكيك النسيج ‏الاجتماعي، بشكل لا يحتمل معه الحفاظ على الأقاليم ذاتها. ‏فالمحافظات الأقل مساحة ‏والأكثر كثافة سكانية والأقل ثروة فصلت لوحدها، والعكس. مع الإشارة إلى أن المناطق قليلة ‏السكان ‏وفيرة الثروة، لن تكون في نعيم كما يتخيل البعض، بل ستكون صيداً سهلاً للقوى ‏الدولية. ‏
‏- لا يحافظ هذا التقسيم على وحدة اليمن، بطبيعة الحال، لأنه يقسمها إلى كتل مستقلة ذاتياً، ‏ولن يحافظ أيضاً على ‏وحدة الأقاليم، بل هو تقسيم سيتبعه تقسيم المقسم وصراعات على ‏مستويات مناطقية ضيقة وحفر أعمق، باعتبار أن ‏الأقاليم ليس لها مؤسسات تحافظ عليها. ‏
‏- هذا التقسيم إرادة دولية، لا محلية، وهو لا يحقق مصالح أي طرف محلي، سواء كان يريد ‏الوطن واحداً أو يريد ‏الانفصال بجزء من الوطن. ‏
‏- إذا ما سار هذا البلد في هذا الطريق، فالمرجح حدود الأقاليم لا تكون كما هو مرسوم، بل ‏إن الأمر الواقع ‏والحروب التي من الممكن أن تشتعل هي ما سيقرر النتائج النهائية. ذلك أن ‏الحكومة ستعجز حتماً عن إقامة وتمويل عشرات ‏مؤسسات الحكم الذاتي، وستعجز مؤسسات ‏الدولة الموجودة عن الحفاظ على نفسها في ظل المحاصصة الحزبية ‏والمناطقية. الأمر الذي ‏سيدفع النعرات المحلية والتمردات في الأطراف إلى تصعيد أعمالها ضد ما تبقى من الدولة ‏‏والمطالبة بالانفصال، أو الانفصال عملياً، بما يجعل الدولة عاجزة عن تنفيذ مهامها ومؤسسات ‏الحكم اللامركزية ‏عاجزة عن النهوض. وهذا هو الوضع المغري للقوى الكبرى بإدارة رؤوس ‏متناثرة وأمراء حرب ومناطق خضراء ‏وتحويل اليمن إلى ساحة لأجندات ضد أطراف دولية ‏وإقليمية أخرى. ‏
‏- وختاماً، إن المناط بكل مسؤول وأكاديمي، ليس القبول بالأقاليم بأنها أصبحت الأمر ‏الواقع، ذلك أن تطبيقها ونجاحها هو ‏التحدي الأكبر، وبالتالي لا يزال أمام اليمنيين الحفاظ ‏على البلاد وتجنب البلاد المزيد من الانزلاق والحيلولة دون ابتلاع "حقنة الحل" الذي أعطي ‏للسودان والعراق والصومال. ‏

‏(* ورقة عمل قدمت في ندوة سياسية أقامها مركز حياد للدراسات بالتعاون مع قسم العلوم ‏السياسية بجامعة صنعاء الاسبوع الماضي.)‏

زر الذهاب إلى الأعلى