رئيسية

العدوان على غزة.. مداخلاته وتداعياته الفلسطينية والإقليمية

إسرائيل استغلت الظروف المواتية لشن عدوانها على غزة

جاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي اتسم بوحشية منقطعة النظير، في ظروف مواتية، بل وجد مريحة، بالنسبة لإسرائيل، على مختلف الأصعدة؛ فثمة انقسام في الساحة الفلسطينية، وتضارب في سياسات النظام العربي، وثمة إجماع، وضغط، من مختلف القوى الإسرائيلية على الحكومة لشن حرب ضد قطاع غزة، بدعوى وقف القصف الصاروخي منه.

أما على الصعيد الدولي فثمة مرحلة انتقالية في إدارة البيت الأبيض الأمريكي، تتيح لإسرائيل هامشا أكبر من حرية الحركة في الشرق الأوسط.

وقد مهدت إسرائيل مناخات هذه الحرب، على صعيد الرأي العام، بإظهار حركة حماس، كحركة مناهضة لعملية التسوية، وبالأخص كرافضة لتمديد التهدئة معها، كما عملت على الترويج لصورة قطاع غزة، الذي تسيطر عليه هذه الحركة، وكأنه كيان مستقل يعتدي عليها بالصواريخ، ويهدد أمنها واستقرارها؛ على الرغم من الفارق الهائل في موازين القوى، وفي العتاد والخسائر، بين الطرفين، لصالح إسرائيل طبعا.

معلوم أن إسرائيل بذلت جهدا كبيرا، في الفترة الماضية، لقلب حقيقة الوضع، بالترويج لذاتها ك"ضحية" مسالمة(!)، وإظهار حركة حماس باعتبارها معتدية، وكحركة إرهابية؛ في تغطية على حقيقتها كدولة مغتصبة ومحتلة، وما زالت تمارس منذ أربعة عقود، على الأقل، هيمنتها القهرية وسيطرتها العسكرية على الشعب الفلسطيني، وعلى الأراضي الفلسطينية، وضمنها قطاع غزة (وإن بشكل غير مباشر)؛ هذا فضلا عن أنها كانت فرضت حصارا مشددا على القطاع، منذ فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية (2006)، وتشكيلها الحكومة.

الأنكى من كل ما تقدم، أن الخطاب السياسي الإسرائيلي، في هذه الحرب، حاول الترويج، أيضا، لاعتبار أن إسرائيل جزء من المنظومة الإقليمية في الشرق الأوسط؛ إذ بات يبرر الحرب على قطاع غزة، باعتبار حركة حماس متمردة على الشرعية الفلسطينية، وبأنها جزء من منظومة محور "الممانعة"، الذي يضم كلا من إيران وسوريا وحزب الله في لبنان؛ والتي تشكل خطرا (بحسب الادعاءات الإسرائيلية) على استقرار المنطقة، وعلى محور "الاعتدال" في الشرق الأوسط (الذي يضم مجموعة دول عربية أهمها المملكة العربية السعودية، ومصر، والأردن، فضلا عن السلطة الفلسطينية).

وفي هذا السياق، مثلا، عجت الصحف الإسرائيلية بأخبار وتحليلات زعمت أن هناك دولا عربية رئيسية طالبت إسرائيل بالتخلص من حماس. (بن كاسبيت، ويديعوت أحرونوت 18/12/2008).

أما تفسير ذلك، بحسب تسفي بارئيل، فيتمثل باعتبار أن "حماس، مثلها مثل حزب الله ليست منظمة محبوبة في أوساط الأنظمة العربية، وليس فقط لأن كليهما يمثلان الإسلام الراديكالي أو الشيعي؛ فهما أيضا يضعضعان لعبة القوى التقليدية، والتي تقرر فيها الدول العربية المتصدرة، مثل مصر والسعودية وحتى سوريا، القواعد بالنسبة لباقي دول المنطقة.

وفضلا عن ذلك، فهما يحطمان دور منظمات عربية مثل الجامعة العربية ويجعلانها هزءا، فهما يبنيان نظاما "شرق أوسطي" جديدا تكون فيه المنظمة هي الدولة". (هاآرتس 4/1/2009).

وبرأي شمعون شيفر، فإن إسرائيل "تتمتع في خطواتها السياسية بمساندة من الإدارة الأمريكية ومن عديد من الدول الأوروبية، كما تتمتع بالتماثل مع مصالح من رؤساء الدول العربية المعتدلة: مصر، والأردن، والمملكة العربية السعودية، وبعض دول الخليج.

هذه الدول تنقل إلى القيادة الإسرائيلية رسائل حادة لا تقل عن تصريحات السياسيين الإسرائيليين: "اضربوا حماس، ولا تسمحوا لهنية التحول إلى نصر الله الثاني"، هكذا يسمع أولمرت، وباراك، وليفني من محادثيهم، في هذه الحرب يجب أن تخرج حماس مضروبة ومرضوضة؛ بحيث لا ترفع الرأس لفترة طويلة"، (يديعوت أحرونوت 4/1/2008).

وفي المحصلة فقد بينت وقائع حرب إسرائيل على قطاع غزة، بمجرياتها وحجمها والأسلحة التي استخدمت بها، بأن هذه الحرب لا تستهدف حركة حماس حصرا، بل إنها تسعى لهدف أشمل، يتمثل باستكمال تدمير قدرات الشعب الفلسطيني، وشل إرادة المقاومة لديه، وفرض إملاءاتها السياسية عليه، وهذا ما يفسر القوة التدميرية والروح الوحشية التي وجهت الآلة الحربية الإسرائيلية، في حربها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ حيث استشهد حوالي 900 فلسطيني، وجرح حوالي 4000 منهم، خلال الـ15 يوما الأولى من الحرب، عدا مئات البيوت والممتلكات التي جرى تخريبها أو تدميرها.

إدارة حماس

وكانت حركة حماس، ومنذ تصدرها سدة الحكومة في النظام الفلسطيني، بعد فوزها بالانتخابات التشريعية (2006)، تبنت سياسات، وقامت بتحركات، بدت كأنها جزء من "محور الممانعة"، والذي يبدو كأنه في تعارض مع "محور المعتدلين" العرب.

وبديهي أن هذا التموضع من قبل حماس لم يلق ارتياحا من دول المحور الأول، خصوصا أن حركة حماس محسوبة على تيار "الإخوان المسلمين"، والإسلام السياسي "السني".

ومن جهتها، فإن حركة حماس لم تقم بما يمكن القيام به، من موقعها كحركة تحرر وطني، بإظهار نوع من الاطمئنان للأطراف المذكورة، فهي، مثلا، ذهبت بعيدا في علاقتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في تجاوز للخط الأحمر المسموح به، من قبل محور الاعتدال، التي باتت تتخوف كثيرا من تزايد نفوذ إيران في العراق وفي عموم منطقة الشرق الأوسط.

وكانت الحركة قد قامت بالانقضاض على "اتفاق مكة" (فبراير 2007)، بتنفيذها نوعا من "الانقلاب" العسكري على النظام الفلسطيني، والسيطرة بشكل أحادي على قطاع غزة؛ مما أدى إلى انقسام الكيان والنظام الفلسطينيين، الأمر الذي اعتبرته المملكة العربية السعودية (التي رعت الاتفاق المذكور)، خصوصا، بمثابة ضربة موجعة لسياساتها ومكانتها في المنطقة، بينما اعتبره محور المعتدلين استفزازا لهم، وورقة إضافية تعزز قوة محور الممانعة.

أما مصر فقد رأت أن حماس باتت بمثابة عامل توتير لها، خصوصا بعد اقتحام الفلسطينيين (في غزة) لمعبر رفح (في 23 يناير2008)، حيث اتهمت مصر هذه الحركة بتنظيم هذا العمل، والتحريض ضدها.

وفي مرة ثانية رفضت حركة حماس المشاركة في الحوار الفلسطيني الذي دعت القاهرة لعقده (10/11/ 2008)، بعد أن كانت شاركت بفعالية في التداول مع القيادة المصرية في صوغ الورقة المعدة لهذا الاتفاق، والتي تتضمن مبادئ أو مرتكزات استعادة الوحدة، في الساحة الفلسطينية، مما أغضب القيادة المصرية كثيرا، والتي اعتبرت أن حماس باتت تعمل وفق أجندة مختلفة (إيرانية وسورية).

وقد صادفت نهاية العام المنصرم انتهاء فترة التهدئة، وفي حينه صدرت إيحاءات من حركة حماس، وبعض الفصائل (الجهاد والقيادة العامة والصاعقة)، يوم 18/12/2008، تفيد برفضها تمديد التهدئة، بوضعها الراهن (مع الحصار والاعتداءات الإسرائيلية)، وهو أمر اعتبرته مصر خطوة أخرى تحسب على السياسات التي ينتهجها محور الممانعة، وفي مواجهة مصر، خصوصا أن حركة حماس ركزت على فتح معبر رفح، فيما بدا وكأن مسألة قطاع غزة باتت تنحصر في مجرد فتح هذا المعبر، وكأنها تصدر مشكلة القطاع باتجاه مصر بالذات (من وجهة النظر المصرية).

وهكذا، وفي يوم 19/12/2008، بدأ إطلاق صواريخ القسام على المستعمرات الإسرائيلية، ثم تلتها صواريخ جراد، وفي يوم 25/12/2008 أطلقت حماس 87 صاروخا وقذيفة هاون على المستوطنات، وهو يوم زارت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني القاهرة.

واختارت كتائب القسام اسم «بقعة الزيت» لهذه العمليات، أي إن دائرة القصف ستتسع؛ وهو ما اعتبر من قبل مصر بأنه خطوة غير محسوبة ومتهورة، وتصب في إطار تصعيد الوضع وضرب الاستقرار في المنطقة؛ وقد فهم من ذلك أن القيادة المصرية تحمل حركة حماس مسئولية ردة فعل إسرائيل، التي كانت بدورها تتحيّن الفرصة للانقضاض على قطاع غزة.

ومعلوم أن سجالا جرى بين القيادة المصرية وقيادة حماس بشأن دور حركة حماس في الإشراف على معبر رفح؛ حيث إن مصر رفضت ذلك، على اعتبار أن هذا الأمر يكرس الانقسام في الساحة الفلسطينية، وهو ما تريده إسرائيل، بينما اعتبرت حماس هذا الموقف المصري يشكل انحيازا للسلطة في رام الله.

وفيما بعد رفضت حركة حماس، والفصائل المتحالفة معها، قرار مجلس الأمن الدولي (1860) الصادر يوم 9/1/2009، الذي عمل وزراء الخارجية العرب على استصداره، باعتباره لا يستجيب مع المصالح الفلسطينية، ويستهدف هزيمة المقاومة سياسيا، بعد أن عجزت إسرائيل عن هزيمتها عسكريا.

هكذا فإن حركة حماس، وبغض النظر عن نواياها، أو مقاصدها، بدت في خطاباتها ومواقفها، وكأنها في توجهاتها السياسية ليست في تعارض مع السلطة الفلسطينية، فقط، وإنما في تعارض مع مصر والمملكة العربية السعودية، أيضا، والذي بدا كأنها حسمت خياراتها نهائيا للتموضع في إطار محور الممانعة (مع سوريا وإيران وحزب الله).

اختلاط أوراق الصراع

في محصلة كل ما تقدم، فإن أهم ما يميز هذه الحرب هو اختلاط، أو خلط، أوراقها، وكما هو معلوم فقد انقسم النظام الرسمي العربي، إلى محورين (الممانعة والاعتدال)؛ حيث وقف المحور الأول، بكل ثقله وراء حركة حماس، ومن خلف كل مواقفها، في حين أن المحور الثاني (وهو يمثل غالبية النظام العربي) وجد نفسه في وضع حرج، وفي موقف ملتبس، فهو من جهة يحمّل حماس بعض المسئولية عن تدهور الوضع، من جهة خضوعها للاستدراج الإسرائيلي لمربع المواجهات المسلحة، والتي تضر الشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى هو يريد وقف العدوان الوحشي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ورفع الحصار عنه.

وفي حين أن خطابات القوى المحسوبة على محور الممانعة اتهمت دول المحور الأول، (خصوصا مصر والسلطة) بالتآمر على حماس، وبالتالي التواطؤ ضد المقاومة، وضد القضية الفلسطينية برمتها، فإن خطابات محور الاعتدال ركزت على اتهام حماس بالخضوع للسياستين السورية والإيرانية، وأنها لا تعمل وفق أجندة وطنية وفلسطينية.

وقد كان لافتا، في هذا الإطار، الدور الكبير الذي لعبه حزب الله (في لبنان) وأمينه العام حسن نصر الله، في الحملة على دول "محور الاعتدال" واتهامها بالتواطؤ مع إسرائيل، وبالسعي لتصفية المقاومة وتصفية القضية الفلسطينية.

ووصل الأمر بسماحة نصر الله حد تحريض شعب مصر وجيشه على حكومته؛ ما اعتبرته مصر تحريضا سافرا عليها، لصالح السياسات الإيرانية.

كما اعتبر مصدر مسئول في مصر تصريحات الأمين العام لحزب الله بأنها تعبير "عن جهل مركب بحقائق الأوضاع، وأنها تكرس مأزقا كبيرا يواجهه مندوب إيران الأول في لبنان، وأن نصر الله لم يقدم إلى غزة سوى مجموعة من الخطب الرنانة أمام كاميرات الفيديو ومتشيعيه.. وأعرب المصدر عن أسفه أن يعلن أمين الحزب صراحة عداءه لمصر بشكل فج يكرس عمالته الواضحة للدولة الإسلامية الثورية التي تسعى للتأثير على بلده من خلاله.

وأكد أن مصر لا تلتفت أبدا إلى عداوات الحاقدين الجهلة الذين ورطوا بلادهم في حروب، ثم ندموا بعد ذلك، في مشهد مخز على ما فعلوا بعدما تسببوا في قتل ودمار بلادهم ومواطنيهم، ونصح المصدر نصر الله بألا يفتي أو يخطب إلا فيما يعرفه، وأن يمتنع عن تسجيل النقاط من خلال الدائرة التلفزيونية المغلقة إرضاء للمرشد الأعلى (للجمهورية الإيرانية آية الله السيد علي خامنئي)". (السفير 9/1/2008).

وكما هو معروف فإن هذه الحملة على دول محور الاعتدال، شملت أيضا الفصائل الفلسطينية، من قيادات حركة حماس إلى الجبهة الشعبية القيادة العامة (وهي فصيل مقرب من سوريا).

وكانت بعض قيادات هذا الفصيل صدّرت تصريحات مناوئة جدا لمصر، ومتحمسة لفتح الجبهات العربية، لدعم المقاومة في قطاع غزة، بكافة الوسائل، وفي هذا الإطار، قال أحمد جبريل، الأمين العام للجبهة الشعبية القيادة العامة، في تصريح صحفي له: «علينا أن نفتح كل الجبهات؛ فهناك جبهات الضفة الغربية الفلسطينية والجبهة الأردنية والسورية واللبنانية، وبالتالي لم نحدد جبهة بعينها». (الحياة 9/1/2009).

وكانت المظاهرات الجماهيرية التي حركت، أو تحركت، في أكثر من مكان، توجهت للسفارات المصرية، للاحتجاج على السياسة المصرية، وللمطالبة بالتحرك لنجدة شعب فلسطين، وفتح معبر رفح، الأمر الذي شكل إزعاجا كبيرا لمصر.

كما أن ثمة عديدا من الأقنية الفضائية، التي انحازت تماما لمواقف حماس، وللمحور الذي تمثله، وبدت وكأنها تحرض ضد محور "الاعتدال"، وتدافع عن محور "الممانعة"، خصوصا بعد رفض مطلب قطر وسوريا بعقد مؤتمر قمة عربي طارئ.

وفي كل الأحوال، فإن التركيز ظل موجها على مصر؛ باعتبارها زعيمة معسكر الاعتدال، فهي مرتبطة بمعاهدة كامب ديفيد، ومتهمة بالمشاركة في حصار القطاع، بإغلاقها معبر رفح، وبانحيازها لرئيس السلطة محمود عباس، وبرفضها التجاوب مع عقد مؤتمر قمة عربي.

وقد ردت مصر على الاتهامات الموجهة إليها، على لسان أكثر من مسئول مصري، بما فيهم الرئيس محمد حسني مبارك.

ومثلا، فقد شرح وزير خارجية مصر الموقف، من وجهة نظره، باعتبار أن إسرائيل "تسعى، منذ عام ١٩٨١ لفصل غزة عن الضفة الغربية، وهناك طرح إسرائيلي بأن تأخذ مصر غزة، وليأخذ الأردن الضفة الغربية، وبذلك تنتهي القضية الفلسطينية".

وقد حمّل حماس المسئولية عن العدوان؛ لكونها أعطت إسرائيل الفرصة على طبق من ذهب لضرب غزة"، (السفير3/1).

وبنتيجة هذا التمحور، وهذه الخطابات، باتت المواقف العربية متباعدة ومتضاربة، إلى حد تعذر عقد مؤتمر قمة عربي (كما قدمنا)، كانت دعت إليه كل من قطر وسوريا، لبحث الوضع في غزة، والاكتفاء بعقد اجتماع لوزراء الخارجية العرب في إطار الجامعة العربية.

وقد وصل الأمر إلى حد دعوة الرئيس السوري بشار الأسد إلى "عقد قمة عربية مصغرة، أو بمن حضر"، تأكيدا على أهمية انعقاد القمة في هذه الظروف الخطيرة التي تمر بها القضية الفلسطينية.

أما قطر فقد عبرت، بأكثر من شكل، عن تبرمها من عدم الاستجابة لمطلبها استضافة قمة عربية طارئة، ومن ضمن ذلك تحفظها على مضمون قرار مجلس الأمن الدولي 1680.

تزايد دور إيران وتركيا

وإذا كانت حرب تموز 2006 شهدت صعود دور إيران في الصراع العربي الإسرائيلي، بصورة غير مسبوقة، من خلال الدعم الذي قدمته لحزب الله، والذي تجسد بتنامي قدرة هذا الحزب، إلى درجة مكنته من صد العدوان الإسرائيلي، فإن حرب غزة شهدت صعود دور تركيا على المستوى الإقليمي، ليس فقط على مستوى التدخل، بل وعلى مستوى الضغط على إسرائيل لوقف الحرب، وإنما حتى على مستوى عقد مصالحة عربية عربية، وفلسطينية فلسطينية.

وكانت تركيا في فترة سابقة قد لعبت دورا كبير في التوسط لاستئناف المفاوضات السورية الإسرائيلية، بصورة غير مباشرة، ولكنها في هذه الحرب، وعلى الصعيدين الرسمي والشعبي، بدت أكثر بعدا عن إسرائيل، وأكثر قربا لتفهم المواقف العربية وتبنيها.

وقد وصل الأمر إلى حد أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أدلى بتصريحات، اعتبرت تطورا كبيرا في الموقف التركي لصالح القضايا العربية، على خلاف مواقف تركيا المعهودة المؤيدة لإسرائيل؛ إذ أعلن أردوغان صراحة أنه ينحاز للضحايا الفلسطينيين، وطالب إسرائيل بوقف حربها ضد قطاع غزة، وأدلى بتعبيرات ذات مغزى من أنه وريث العثمانيين، وأن تركيا سبق أن أوت اليهود المضطهدين الذين لجئوا إليها؛ وهي تصريحات لا شك أغضبت الطرف الإسرائيلي.

ويبدو أن هذه المواقف التركية جاءت في سياق طبيعي؛ فقد اعتبر أردوغان أنه خدع من قبل إسرائيل، التي كانت أوحت له أنها لن تلجأ لشن حرب على الفلسطينيين، خصوصا أن تركيا تقوم بوساطة للتفاوض بين إسرائيل وسوريا، كما أن تركيا حاولت الاضطلاع بدور في مجال تحقيق المصالحة الفلسطينية.

وعلى صعيد المبادرات السياسية، فقد نشطت تركيا حركتها السياسية مع مختلف الأطراف، ومن ضمنها السلطة وحركة حماس، بالإضافة للأطراف العربية المعنية.

وقد وصل الأمر بتركيا، بحسب ما نشرته صحيفة "يني شفق" التركية، إلى حد الاستعداد لإرسال قوات تركية إلى قطاع غزة، أو قوات متعددة الجنسيات من الاتحاد الأوروبي ومصر، بقيادة تركية كاملة، على غرار ما حصل في لبنان من إرسال قوات دولية بعد عدوان تموز ٢٠٠٦. (السفير 3/1/2009).

وقد يمكن تفسير هذه المواقف بسعي تركيا الطبيعي لتعزيز مكانتها في الشرق الأوسط، وفي صوغ الترتيبات الجديدة فيه، من موقع فاعل، كما أنه يأتي في سياق محاولة تركيا الحد من نفوذ إيران المتنامي في هذه المنطقة، ولتعبئة الفراغ الإقليمي، لاسيما بعد أن استطاعت إيران تحقيق نفوذ كبير لها في العراق، على الحدود الجنوبية لتركيا.

أما بالنسبة لإيران فهي لم تخف وقوفها إلى جانب المقاومة، وإلى جانب حركة حماس، وأبدت علانية مواقف مناوئة لمحور المعتدلين وخصوصا لمصر، وحرضت ضدهم بكل الوسائل، حتى إن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وصف مؤيدي إسرائيل بأنهم «سيذهبون في النهاية إلى الجحيم».

وقال أحمدي نجاد في خطاب ألقاه أمام البرلمان: «هؤلاء الذين يربطون مصالحهم بالصهاينة علانية أو سرا، عليهم أن يعرفوا أنهم سيذهبون معا إلى الجحيم»، وأوضح أحمدي نجاد: «يعتقد الصهاينة وأسيادهم أن غزة هي الحلقة الضعيفة في حركة المقاومة، وأنهم يستطيعون تعويض فشلهم السابق بمهاجمة غزة، إلا أنهم يرتكبون خطأ فادحا»، وأضاف الرئيس الإيراني: «ستكون تلك الغارات تمهيدا للانهيار الأخير للصهاينة».

ودعا الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي المسلمين للدفاع عن الفلسطينيين بكل الطرق المتاحة. (الشرق الأوسط 31/12/2009)

وقد قام عديد من المسئولين الإيرانيين بزيارات إلى كل من لبنان وسوريا، والالتقاء مع قادة البلدين، إضافة إلى اللقاء مع قادة حزب الله في بيروت وقادة الفصائل الفلسطينية في دمشق، ومن الواضح أن هذه التحركات والمواقف تعكس قلقا إيرانيا من الأبعاد المخفية لهذه الحرب، كما تعكس تصلبا فيما تعتقد أنه مواجهة معها، من قبل محور الاعتدال.

من ذلك يمكن الاستنتاج بأن أهم ما يميز حرب إسرائيل ضد قطاع غزة، أنها تجري في ظل انقسام مريع في الساحة الفلسطينية، وأنها تتم وسط تجاذبات وصراعات إقليمية حادة، وفي ظل ضغوط دولية (وأمريكية خصوصا)، من أجل فرض ترتيبات جديدة، سياسية وأمنية واقتصادية في الشرق الأوسط.

علاقة القضية الفلسطينية بمحيطها

وفي الختام، فإن نتائج هذه الحرب ستحسم بالنسبة لشكل علاقة الحركة الوطنية، بل والقضية الفلسطينية بمحيطها.

وعلى الصعيد الفلسطيني، يمكن القول بأن هذه الحرب ستترك آثارا ومنعكسات جد كبيرة، على صعيد مستقبل حركة التحرر الفلسطينية، ولاسيما بالنسبة لحركتي فتح وحماس، كما أنها ستقرر مصير الكيان الفلسطيني، ومآل عملية التسوية.

وقد جاءت هذه الحرب في ظرف كانت الساحة الفلسطينية تشهد فيه جدلا بل وصراعا حاميا من حول انتهاء ولاية الرئيس الفلسطيني أبو مازن (9/1)، وكانت حركة حماس رفضت التمديد له، كأمر واقع، بدعوى أن التمديد ينبغي أن يكون ضمن سلة توافق وطني، على ترتيب وضع السلطة والمنظمة، في حين أن حركة فتح اعتبرت أن التمديد هو تحصيل حاصل؛ لأن الانتخابات التشريعية والرئاسية ينبغي أن تأتي في وقت واحد.

وهكذا فتحت حماس مسألة الشرعية، في صراعها مع فتح على مكانة في الساحة الفلسطينية، ما يفسر مواقفها قبل وأثناء الحرب، حيث بدا أنها تستأسد للدفاع عن شرعيتها، أو من أجل تكريس شرعيتها القيادية في الساحة الفلسطينية، وهذا ما يفسر، أيضا، موقفها من المبادرة المصرية، ومن قرار مجلس الأمن الدولي؛ حيث كانت تعتبر نفسها بمثابة سلطة منتخبة يجب الإقرار بحقها في المشاركة بالقرار وفي الإشراف على المعابر.

على ذلك، فإن معركة غزة، في مآلاتها وتحدياتها، ستساهم بحسم الجدل بشأن تحديد مرجعية الساحة الفلسطينية، وبالتالي تحديد الجهة المخولة بالحديث باسم شعب فلسطين وقضيته، وهي بهذا المعنى ستحدد مكانة حركتي فتح وحماس في المجتمع الفلسطيني.

وإذا كانت الانتخابات التشريعية (2006) عززت من شرعية حركة حماس في المجتمع الفلسطيني، وصعّدتها إلى سدة الحكومة والسلطة، ثم إذا كانت عملية الهيمنة على قطاع غزة (2007) جعلت من حركة حماس شريكا فعليا، ولا يمكن تجاوزه في تقرير شئون الساحة الفلسطينية وسياساتها، فإن حرب غزة ستسهم في تحديد مصير زعامة الساحة الفلسطينية، أو بمعنى آخر ستحدد مكانة الزعامة بين حركتي فتح وحماس؛ من بين أشياء أخرى؛ لذا ففي هذه الأوضاع والأحوال من الصعب التكهن بكيفية دفع الفلسطينيين نحو لملمة جراحهم، وتعزيز اللحمة بينهم.

من ناحية أخرى فإن نتائج هذه الحرب ستقرر مصير عملية التسوية، وبالتالي مصير الكيان الفلسطيني، إما لجهة التمكن من استعادة وحدة النظام والكيان، في الضفة وغزة، أو من جهة تكريس هذا الانقسام، لكن المشكلة أن مصير هذا الكيان الناشئ والضعيف والمقيد مفتوح على خيارات أخرى من نوع انهيار السلطة الفلسطينية، وتقوض الكيان الفلسطيني، أو تصدير مشكلة الأراضي المحتلة بعيدا عن إسرائيل، من خلال ضم أجزاء من الضفة للأردن، وعودة الإدارة المصرية لقطاع غزة، أي كما كان الوضع قبل عام 1967.

وفي الختام، فإن نتائج هذه الحرب ستحسم بالنسبة لشكل علاقة الحركة الوطنية، بل والقضية الفلسطينية بمحيطها، خصوصا بعد أن بينت مجريات الحرب استفراد إسرائيل بالشعب الفلسطيني، على سمع وبصر العالم العربي كله، على اختلاف محاوره، وتباين سياساته.

أما بالنسبة لمحوري (الاعتدال والممانعة) فإن صدقية أو مكانة كل منهما، على صعيد النظام الإقليمي العربي، ستتحدد بناء على نتائج الحرب؛ التي ستسهم وإلى حد كبير بصياغة النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط.

ماجد كيالي
كاتب ومحلل سياسي فلسطيني.
اسلام أون لاين

زر الذهاب إلى الأعلى