رئيسية

حبيش.. ذكرى من البطولة وحاضر من الغياب

على طريقتهن احتفلن عجائز قريتي الأصلاب مديرية حبيش أخيراً برحيل عهد الفوانيس.. في أول ليلة مختلفة كان الأطفال أيضاً يملؤون أرجاء القرية ضجيجاً لا يتمالكون أنفسهم من الفرح، فوصول الكهرباء يعني بالنسبة لهم مشاهدة أفلام الكرتون، رغم أن الحصول على جهاز تلفزيون حتى الآن على الأقل لا يزال مجرد أمنية، إذ تخلو منه كل بيوت القرية..

أما محمود محمد قايد (40 عاما) أحد أبناء قريتي الطيبين فقد اعتبر وصول التيار الكهربائي إلى القرية وصول الجمهورية..

حينها تساءلت في نفسي ماذا لو أن الحكومات اليمنية المتعاقبة خلال نصف قرن على قيام الثورة حملت على عاتقها الوصول إلى المناطق النائية والمحرومة وتقديم الخدمات الأساسية لأبناء هذا الشعب؟!، إذاً لما احتاج رئيس الدولة في كل مناسبة إلى الخطابات الرنانة حول الثورة والجمهورية والحفاظ على مكتسباتهما بعد ردح من الزمن..
ليس بي رغبة للحديث عن السياسة، ففي مديرية حبيش، الواقعة على بعد 27 كم تقريبا شمال غرب محافظة إب، من عناصر التفرد التاريخي والجذب السياحي ما يغني، وإن كان شبح التوريث بدأ يطل بقرنيه من جبال عميقة، حيث يتردد في أوساط الحبيشيين بأن أحد نوابهم غير المرضي عنهم يمهد الطريق أمام نجله، للوصول إلى مجلس النواب في الانتخابات التشريعية المقبلة، بعد أن وجد نفسه غير مرغوب فيه.

روائع التاريخ
حبيش حيث عيون الماء العذب المتحدرة من جبالها السامقة، وبقايا ملوك سبأ وحمير وروائع التاريخ وسحر الطبيعة.. فيها أول قبة بنيت من الحجر في اليمن، حسبما يؤكد أستاذ العمارة والآثار الإسلامية والسياحة بجامعة صنعاء الدكتور محمد علي العروسي في دراسة حول أهم المعالم والمنشآت التاريخية والسياحية في المديرية، ومن عزلة نقيل العقاب انطلقت واحدة من أولى حركات التحرير المسلحة ضد الإمامة على يد الشيخ محمد عايض العقاب في عهد الإمام يحيى حميد الدين، في عام 1919م غير أن غدر بعض مشائخ القبائل الوافدة من مناطق الصراع والثأر ساعد على إجهاضها، فاضطر العقاب إلى اللجوء إلى الأدارسة في عسير هرباً من بطش الإمام..
اشتق اسم مديرية حبيش من الاسم السبئي ذو حبيش، باعتبارها من المناطق التي سكنها السبئيون ثم المعينيون ثم الحميريون، بينما لا تزال بعض القرى والعزل محتفظة بأسمائها التاريخية مثل عزلة بني معين، التي كانت عبارة عن كيان اقتصادي وسياسي داخل مملكة سبأ، بالإضافة إلى قرى ذي عِرام وذي دومان وذي جبرة وذي مرار وذي المقلح وذي صغار بمغرم الصفاء، وعزلة الفراعي وفيها قرية سموع في مغرم المحالل وقرية ذي كربين في الصفاء وقرية ذي شاب في السعنة وقرية ذي عقيل وأكمة الأحاضي.
ويؤكد الباحثون بأن مديرية حبيش بطبيعتها الجبلية الساحرة ومعالمها التاريخية والأثرية المتنوعة واحدة من أجمل المناطق السياحية في اليمن، حيث تزخر بعشرات المساجد والقباب التاريخية التي لعبت دورا هاما في نشر العلوم المختلفة في مختلف العصور الإسلامية، إلى جانب وظيفتها الدينية وتخريج عديد علماء وفقهاء ذاع صيتهم داخل اليمن وخارجه، أمثال العلامة المفتي الأصابي صاحب منظومة (نصيحة الطلاب)، فضلاً عن العديد من الأسر والبيوت التي اشتهرت بالعلم، ناهيك عن الأدوار التي لعبها رجالات حبيش الأوائل في عهد صدر الإسلام، أمثال ذو الكلاع الحميري أحد قادة جيش المسلمين في عهد أبي بكر وعمر إبان الفتوحات الإسلامية الكبيرة، والذي تروي مصادر التاريخ أنه خرج ذات يوم في منطقة نهرة أعلى قمة في حبيش فسجد له مائة ألف، وحين بعث إليه الرسول الكريم يدعوه إلى الإسلام أسلم وأسلمت معه امرأته، وعشيرته، ثم قبائل حبيش كافة، وبعد موت الرسول دعاه أبو بكر الصديق فجاء المدينة على رأس جيش يقدر باثني عشر ألف مقاتل، عجزت عن إطعامهم ميزانية الدولة الناشئة، فلم يكن أمام الخليفة الصديق إلا أن يفرقهم في الأقاليم والأمصار لنشر دعوة الإسلام، ليكون جيش الحميري النواة الأولى للفتوحات الإسلامية الكبيرة..
ويقال إن ذي الكلاع لقب كان يطلق أيام التبابعة الحميريين على صاحب القوة، بمثابة أركان حرب الدولة، ويشير بعض الباحثين إلى وجود قلعة باسم ذو الكلاع الحميري في سورية، كما تذكر بعض المصادر أنه كان من ورث سيف عمر بن الخطاب بعد موته، وقال عنه معاوية بن أبي سفيان يوم موته لم أكن أخاف على الخلافة من علي خوفي من ذي الكلاع الحميري، وذلك كما يبدو لما يتمتع به من قوة وبأس.

سياحة منتظرة
تعد حبيش إحدى أهم المديريات التي تمثل مخلاف ذي الكلاع الحميري والتي تضم العدين، إب، ذي السفال، وغيرها..
ومن الآثار الإسلامية في حبيش مسجد بين الدور وهو عبارة عن قبة ضريحية بنيت في قرية بين الدور إحدى عزل قحزة ويرجع تاريخ بنائها إلى منتصف القرن الرابع الهجري /العاشر الميلادي وتحديدا سنة 359هجرية/963ميلادية بحسب النقش الكتابي المدون على إحدى القطع الحجرية التي تظهر في الواجهة الجنوبية لبيت الصلاة، وتكمن أهمية هذه القبة في كونها تمثل واحدة من أقدم القباب المعروفة في العصر الإسلامي وأول قبة بنيت من الحجر في اليمن.
أما مسجد مروحة الذي يقع في إحدى قرى عزلة نقيل العقاب فيعود تاريخ بنائه إلى سنة 811هجرية/1409ميلادية وفقا لنص نقش كتابي على أحد الألواح الخشبية الموجودة في السقف، وأعيد بناؤه في سنة 1183هجرية/1718ميلادية.
وهناك العديد من المساجد والقباب التاريخية في المديرية منها: قبة الشهاب وقبة الزوم ومسجد الثوماني وجامع الرسيعة وقبة الشيخ صلاح والجامع الكبير بظلمة ومسجد وقبة الفراوي الذي يعود تاريخ بنائهما إلى القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، ويقعان في قرية الفراوي من عزلة الصدر بمديرية حبيش والقبة الضريحية في جهته الجنوبية.
وتزخر مديرية حبيش بالعديد من الحصون والقلاع التاريخية المنيعة، وأشهرها قلعة "خدد" بارتفاع 295 متراً تقريباً عن سطح البحر، وفي جبال هران (بكسر الهاء وتشديد الراء) توجد بقايا أسس قلعة هران التي كانت تشغل قمة ذلك الجبل المنيع ووجود عدد من مدافن الحبوب المنحوتة في الصخر التي يرجع تاريخها إلى عصور ما قبل الإسلام وكذلك في جبل الخضراء.
ويؤكد أستاذ التاريخ العروسي أن الحصون والقلاع التاريخية تكاد تكون موجودة في غالبية عزل المديرية حيث تدل أسماء بعض القرى والمحلات على أنها كانت مناطق محصنة بقلاع منيعة مثل المصينعة في السعنة بعزلة الفراعي والحصن في بيت البتول بعزلة بني معين والحصن في مغرم خير موضع في عزلة السُّلْق، وحصن "يفوز" وحصن "عزان" الشهير في بني عواض.
وتعد مدينة وَحاظة (بفتح الواو والحاء) من أشهر المدن التاريخية وتقع في أعلى جبل حبيش عزلة شباع شمال مدينة إب واشتهرت قديما بقصورها العظيمة ومنشآتها المائية، وقد ذكرها الهمداني في كتابه (صفة جزيرة العرب) بأن وحاظة تشابه مدينة ناعط في القصور والكروف وبأن للمدينة قلعة حصينة تسمى شباع.
ولاتزال مديرية حبيش تحتفظ بالعديد من المعالم والمنشآت التاريخية والسياحية وتتفرد بأهم عناصر الجذب السياحي، الذي يمكن أن يشجع أصحاب الشركات والوكالات السياحية إلى إدراجها ضمن البرامج السياحية إلى جانب لفت عناية الباحثين إلى أهمية وضرورة القيام بدراسة تاريخ وأثار وتراث هذه المديرية، التي آنَ لها أن تستعيد دورها الريادي في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية اليمنية، وأن تدخل حيز الوجود وتشملها خيرات الثورة بعد عقود من التغييب والحرمان بفعل الركود الذي نجح في إبقاء هذه المديرية ذكرى من البطولة وحاضراً من الغياب..

معاناة وابتزاز
جاء في بعض أدبيات محافظة إب بأن حبيش تعتبر من المناطق النائية، ليس لبعدها الجغرافي عن مركز المدينة، بل سبب كونها متأخرة تماماً في نسبة المشاريع.. هذا الوضع المأساوي أفرز في الأخير شريحة كبيرة من مستحقي الضمان الاجتماعي الذي لم يخلُ هو الآخر من استغلال وابتزاز، كما تحدث لل"الغد" بعض أبناء الدائرة 93 (إحدى الدائرتين المكونتين للمديرية)، حيث تحاول بعض لجان صرف مستحقات الضمان الاجتماعي ربط الصرف بالبطاقة الانتخابية وباسم النائب الحالي لكي يتوهم البسطاء أن هذا النائب هو من يعطي المستحقات وأنه إذا تم تغييره فسوف تقطع أرزاق هؤلاء، وهو أمر يعد مخالفة يعاقب عليها القانون.
حبيش - بالطبع - كغيرها من مناطق اليمن التي تأثرت كثيراً بموجات الجفاف وقلة الأمطار في السنوات الأخيرة، لكن معاناة الناس هناك من انعدام مشاريع مياه الشرب تبدو واحدة من المعضلات التي تمثل جانباً من المعاناة، حيث يسير الأطفال والنساء لجلب الماء على ظهور الحمير وعلى رؤوس النساء مسافات بعيدة، وفي قرى جبل خضراء يمكنك مشاهدة أرتال النساء والأطفال والحمير يعملون على مدار اليوم لهذا الغرض، خصوصاً أيام الشتاء، على الرغم من وجود مشروع مياه ظل متعثراً منذ 15 عاماً، ولايزال في طور الإنشاء، ورغم وصوله إلى بعض القرى إلا أنه لا يغطي حاجة الناس، فهو يصل إلى القرية بمعدل ساعة خلال الأسبوع وبسعر يتجاوز سبعمائة ريال للوحدة.
وبحسب الشيخ عبد ربه العواضي أحد وجاهات المديرية، فإن حبيش بحاجة إلى مجموعة سدود ضخمة تعمل على تغذية المياه الجوفية، وتوفير مياه الشرب للمواطنين والري للمزارع بما يحسن معيشة المواطنين ويقلل من معاناتهم جراء وعورة التضاريس.
ولأنها من مناطق الانحدار الشديد أو ما يسمى بمناطق البرزخ بين السهول والجبال، فإن مديرية حبيش تحتاج لشبكة محكمة من الطرق تربط بين قراها وعزلها على الوجه الذي يتواصل فيه الناس بشكل سلس وبما يسهل كذلك عملية التنمية، سواء بمعناها الخدمي الواسع الذي تساهم فيه الحكومة، أو التنمية المجتمعة المتمثلة في الإعمار والفلاحة وتحسين عملية التسويق والتبادل التجاري وغير ذلك.
ويرى الشيخ العواضي أن المديرية بحاجة إلى حملة تعريفية بآثارها ومعالمها، بقدر ما هي بحاجة كذلك إلى "زيارة كريمة من الرئيس علي عبدالله صالح، الذي نثق بأنه سيعود من هذه الزيارة بكثير من الرؤى الهامة حول حقيقة الواقع الخدمي فيها"، معبراً في هذا الصدد عن شكره للواء عبد ربه منصور هادي نائب رئيس الجمهورية الذي زار حبيش أكثر من مرة في العام 2007، وكان لزيارته الفضل الكبير في تحريك بعض المشاريع المتعثرة منذ عام 1992 كالكهرباء، رغم أن المديرية كانت أول مديريات اللواء الأخضر بالنسبة لإدخال الكهرباء في خطة مشاريع الدولة، مع ذلك لا تزال بعض العزل إلى الآن بدون كهرباء كما هو حال نقيل العقاب، لكن العواضي قال إن هناك جهوداً تبذل حالياً مع محافظ المحافظة أحمد الحجري باتجاه عمل حقيقي وملموس للمديرية، وبشكل يشمل كافة العزل، وذلك عن طريق المجلس المحلي الذي يبذل جهوداً مشكورة في هذا المضمار.

"حبيش وبسْ"
لقد تذكرت وأنا أُعدّ هذه المادة عن حبيش ما ذكره علي بن عبدالله الوزير عن نفسه في كتابه "حياة أمير" حين أرسله الإمام يحيى حميد الدين على رأس جيش لإخضاع اليمن الأسفل بعد ظهور العديد من حركات التحرر فأوصاه قائلاً: " حبيش وبس"، بمعنى إذا استطعت أن تخضع حبيش فلا تهتم بما عداها وانطلق مباشرةً إلى تعز، ولعل ازدياد حالة البؤس والحرمان في هذه المديرية سوف تقلب الطاولة على أولئك الذين يتسلطون على رقاب أهلها ويصرون على إبقائها في عهد الفوانيس "والقطرنة" ويعملون على قتل الروح الثورية فيها، حيث ازدادت معدلات تسرب الطلاب من المدارس بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية ونزحت مئات الأسر عن مزارعها إلى المدن هرباً من شبح الجوع وانعدام مشاريع الصحة والمياه والطرقات والكهرباء وسائر مقومات الحياة..

زر الذهاب إلى الأعلى