لم يهدأ اليمنيون طيلة تشطيرهم من الحروب داخل كل شطر، وما إن تهدأ حروب الشطر فيما بينه حتى يسعى لتوحيد الشطر الآخر معه.. حدث هذا مرات عديدة في تاريخ اليمن المشطر، غير أن حروب استعادة الوحدة كانت أكثر جلاء بعد قيام الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر.. حيث كان أولها بعد سنوات قليلة على خروج آخر مستعمر بريطاني. إضافة إلى حرب استنزاف شطرية عرفت بحرب المناطق الوسطى أو حرب الجبهة..
يومذاك كانت الوحدة شعاراً مقدساً في اليمن وغير اليمن، ولم يكن أحد يجرؤ على المساس بهذا الهدف الوطني الكبير، ناهيك عن مجرد المطالبة ببقاء التشطير، إلا إذا كانت مذيلة بالسعي من أجل الوحدة في ظروف أفضل.
لقد دفع اليمنيون على مدى قرون الكثير من الدماء من أجل توحدهم، والخشية اليوم، هو أن تنسى هذه التضحيات ويجد اليمنيون أنفسهم بحاجة إلى المزيد من الدم!!
فأيا كانت الظروف الصعبة التي يعيشها اليمنيون اليوم في ظل وحدتهم، فبالتأكيد أنها لن تكون أسوأ من التشطير.. ومن عرف مرارة التشطير هو الذي يدرك اليوم أن النضال من أجل إصلاح الأوضاع تحت ظل الوحدة أسهل وأنبل من الدعوة إلى التمزق من جديد..
منذ 94 وحتى اليوم، 15 عاماً مضت دون حدوث حرب في اليمن.. إنها لمدة طويلة من والسلم والاستقرار لم يشهدها اليمنيون منذ قرون.. فهل ما يحدث اليوم في اليمن هو ما يمكن أن نوصفه ب"خرمة الحرب"؟!
في هذا التقرير يسلط الباحث اليمني المتميز شاكر أحمد خالد الضوء على إحدى صفحات اليمن المعتمة.. أيام حرب المناطق الوسطى، أو ما سمي ب"حرب الجبهة".
تقرير/ شاكر أحمد خالد
يطلق على أصحابها صفة التمرد، وتعرف بحرب المناطق الوسطى وأحداثها. بينما كان النظام الحاكم في عدن، يعد نشاط «الجبهة الوطنية» بمثابة نضال مشروع ضد قوى الرجعية. بل إنه اعتبرها كأداة من أدوات تحقيق الوحدة اليمنية بطريقته الخاصة آنذاك.
وبعيدا عن تعدد الأسماء والمسميات، وكذلك الحسابات السياسية التي أرهقتنا من تناول كثير من المواد الصحفية. فإن أحداث المناطق الوسطى المنسية، تعتبر من أهم السنوات الملتهبة في تاريخنا اليمني المعاصر. وقد ارتفعت عدة أصوات مؤخرا من أبناء تلك المناطق التي كانت مسرحا رئيسيا للمواجهات، مطالبة بالتعويض، وإعارة المناطق الوسطى جزء من الاهتمام.
وهي بذلك، تعتبر بأن الفرصة مواتية للظهور على المسرح السياسي، كما آخرين، ونفي تهمة التخريب التي التصقت بشريحة واسعة من أبناء تلك المناطق. وقد تبدو الحسابات السياسية كثيرة، لكن ما يهم أن تلك السنوات تعد مجالا خصبا للعمل الصحفي الممنوع حتى الآن.
ومنذ فترة ليست قليلة وأنا أفكر بعمل مشروع ما عن «حرب المناطق الوسطى»، وكما أن المعوقات كثيرة، فكذلك تبدو الأسباب كثيرة وملحة لعمل كهذا، أقله أن تلك الأحداث والسنوات تكاد تكون مغيبة عن التاريخ اليمني الحديث إلا ما ندر. إضافة إلى أنني لا أريد من ملك الموت الاقتراب أكثر مما اقترب الآن من شخصيات تلك الأحداث التي ورد ذكرها في المراجع القليلة.
ففي منطقتي شرعب على الاقل، أشارت مذكرات الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر -رحمه الله- إلى أسماء شخصيات نعرف أن في جعبتها قصصاً وروايات عن تلك الأيام تفوق خيال التصور. لكن أي عمل سيظل ناقصاً إذا لم يشمل مناطق كالسدة والنادرة ومناطق في ذات المحافظة وأخرى في محافظة البيضاء وريمة ووصاب وغيرها.
أتأمل أحيانا بكثير من الحزن إلى صور من تبقى من كل «جباهي»، وهو الاسم الذي كان يطلق على عضو «الجبهة الوطنية»، وكيف كانت تثير كل ذلك الفزع والرهبة في نفوس أبناء المناطق الوسطى.
إنها سنوات الدم والنار وحكايات لا تنتهي عن حوادث القتل بدم بارد.. سنوات تفشت فيها الشائعات وانتشرت فيها الأساطير وكانت مادة ثرية للزوامل الشعبية.
عن الجبهة وتمجيدها، قال أحدهم: «يا جبهة الفخر والصمود هيا بنا نحو العنيد»، وعن الإخوان المسلمون، ردد آخر قائلا: «يا خونجي جبان يا راعي الزنار قد قسمنا يمين أن نحرقك بالنار». وربما لم يدر في خلد عناصر الجبهة أن هؤلاء الخونجيين كما سموهم، سوف يثأرون ويؤكدون ذات يوم، كما هو حاليا، بأن دورهم كان له الأثر الحاسم في إنهاء المواجهات، والقضاء على أسطورة الجبهة التي لا تقهر.
وبالرغم من أن بعض الكتابات ترجع البدايات الأولى لأحداث المناطق الوسطى إلى فترة الستينيات. إلا أن هناك شبه إجماع على أن المرحلة الأهم في نشاط الجبهة كانت في الفترة التي أعقبت مقتل الرئيس إبراهيم الحمدي، ومع تولي الرئيس علي عبدالله صالح الحكم في 17 يوليو من عام 1978م، وقد امتد نشاطها الملتهب نحو خمس سنوات.
وبحسب مؤلف كتاب «الحركة الإسلامية والنظام السياسي في اليمن- من التحالف إلى التنافس» الباحث ناصر الطويل، فإن فترة الرئيس الحمدي عرفت بتراجع النشاط المسلح لفصائل اليسار. مرجعا سبب ذلك إلى أن الحمدي «من الناحية العملية وحتى الفكرية كان قريبا من تيار اليسار، فهو يتحرك على نفس الأرضية وله نفس المطالب ويرفع الشعارات نفسها».
ومع ذلك، فقد تشكلت الجبهة في عهده، وتحديدا في 11 فبراير 1976م من اتحاد خمس قوى يسارية هي: الحزب الديمقراطي الثوري، ومنظمة المقاومين الثوريين، وحزب الطليعة الشعبية، وحزب العمل اليمني، واتحاد الشعب الديمقراطي.
وفي كتاب «ألف ساعة حرب» للدكتور عبدالولي الشميري، يؤكد أن الجبهة كانت تتمتع بدعم كامل من الدول الاشتراكية في أنحاء العالم وتمتلك إمكانات دولة بكامل معداتها. ويقول إنه «كان من المعلوم بالضرورة أن أرقاما عالية من الميزانية السنوية للجماهيرية الليبية وضعت تحت تصرف الجبهة، وإن مجمل المساعدات السوفيتية تساوي مساعداتها العسكرية لجمهورية إثيوبيا تقريبا».
وفيما أكد بأن خبراء عسكريين من الحبشة قد ساعدوا الجبهة، أضاف قائلا: إن «الإمكانات الرهيبة من الأموال والكميات الوافرة من الأسلحة الحديثة استمالت قلوب الطامعين والأميين في الأرياف الشمالية التي انطلقت منها المقاومة المسلحة وانضم إليها رعاة الأغنام وضباط في الوحدات التي كانت تحت سيطرة الأحزاب الاشتراكية، وجنود فروا مع الرائد عبدالله عبدالعالم وضباط قدامى كانوا قد نفذوا عمليات اغتيالات دموية خلال فترة القاضي الإرياني».
وبالإضافة إلى النشاط المسلح الذي كانت تقوم به الجبهة في المناطق الوسطى بدعم من النظام الحاكم في الجنوب آنذاك، فقد اندلعت بين النظامين الشطريين حربان رسميتان، الأولى كانت عام 1972م، والثانية في 1979م، وفيها مني جيش الشمال بخسارة فادحة، لم يخفف من سوئها سوى تدخل بعض الدول وكذلك الجامعة العربية.
ومع تدخل الجامعة العربية وعقد قمة الكويت بين الرئيس علي عبدالله صالح وعبدالفتاح إسماعيل، إلا أن النشاط المسلح للجبهة لم يتوقف في عدد من مناطق محافظات صنعاء وذمار والبيضاء والجوف ومأرب وبشكل أكبر في محافظتي تعز وإب.
ويقول الدكتور عبدالولي الشميري إن «رقعة التخريب اتسعت في كل من وصابين وعتمة وفي ريمة.. ومن تلك المحافظات كان معظم المقاتلين والقياديين للجبهة حتى بلغ عدد المقاتلين في الجبهة خمسة عشر ألف مقاتل تقريبا يتمتعون بكفاءة عالية من التدريب والخبرة على خوض الحروب».
وبينما تحدث الشميري عن حالة الإغراء والتغرير الذي اتبعته الجبهة في كسبها للولاءات. أشار الباحث ناصر الطويل إلى أن ثمة شبه إجماع لكل من قابلهم على أن الظلم الاجتماعي بصوره المتعددة كان من أهم العوامل التي سهلت انتشار اليسار ومكنته من الاستيلاء على عدد كبير من المناطق.
وفي فترة الرئيس علي عبدالله صالح الذي عقد عدة اتفاقيات مع قيادات الجبهة لكنه كان على الدوام الطرف الأضعف أمام قوة وهيبة الجبهة. حتى أن كثيراً من المصادر التابعة لحزب التجمع اليمني للإصلاح تشير إلى أن نظام الرئيس علي عبدالله صالح كاد أن يتعرض للانهيار أمام الضربات المتلاحقة للجبهة، وعادة ما يتم الاستشهاد بإبرام الطرفين اتفاقاً سرياً يقضي بإعطاء الجبهة المشاركة في عدد من الوزارات السيادية، قبل تدخل «الإخوان المسلمين» آنذاك وتغيير كفة المواجهة.
وعند هذه النقطة تحديدا، بدأت دوائر حركة الإخوان المسلمون التفكير جديا بمشاركة النظام حربه ضد الجبهة. لكن تلك المشاركة، كما يقول الطويل، لم تأت إلا بعد إثارة جدل غير قصير داخل مؤسسات الحركة حول الجوانب الشرعية والأمنية والسياسية لقرار المواجهة العسكرية، فقد كان هناك رأي يخشى من استهداف السلطة للحركة بعد انتهاء المعارك ويحذر من تكرار ما حدث للإخوان المسلمين في مصر بعد مشاركتهم في حرب فلسطين عام 48م حيث تم نقلهم من ميدان المعركة إلى سجون السلطة.
وطبقا للمصدر السابق، واجهت الحركة في البداية عدم ثقة الرئيس بقدرتها على المواجهة بتقديم إجابة عملية، حين كلفت أحد أعضائها وهو الأستاذ عبدالسلام خالد كرمان بمواجهة عناصر الجبهة في منطقته بمخلاف شرعب، وقد أثبتت هذه التجربة نجاحاً باهراً. على أن أولى المواجهات المعتبرة بين الطرفين اندلعت في منطقة خبان بمحافظة إب، وتكللت بانتصارات حاسمة، كما أدت إلى تراجع كبير ونكسة هي الأولى من نوعها لعناصر الجبهة.
ثم استمرت المواجهة بوتيرة متشابهة تقريبا، اذ يؤكد الدكتور الشميري أن الجبهة تكبدت جراء تلك التجربة الناجحة للمقاومة الشعبية خسائر فادحة تقدر بألف قتيل ومالا يقل عن ألفي جريح ومنيت بهزائم متتالية أفقدتها هيبتها وأزالت الشائعات الرائجة حولها. أما الخسائر البشرية جراء تلك المواجهات، فقد قدرت بزهاء خمسمائة قتيل وألفي جريح ومشوه.
وفي مذكراته، يشير الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر إلى تلك المرحلة بقوله «في الوقت الذي كنت أدفع رجالي من المقاتلين من مشائخ حاشد في جبهات القتال، كان شباب الحركة الإسلامية الذين كنت على تنسيق كامل معهم يؤدون أدواراً هامة في عدة مناطق من أهمها خبان والنادرة وعمار وشمير وشرعب، وبحمد الله نجحنا وتأكدت القناعة لدى الرئيس أننا نعتبر سندا له وأننا قد تحملنا العبء الأكبر في الدفاع عن الوطن والعقيدة».
ومثلما تشير المصادر الحزبية المتعددة للإصلاح إلى أن دور حركة الإخوان المسلمون آنذاك كان له الأثر الحاسم في إنهاء تلك المواجهات خصوصا بعد تعزيز كفة نظام الرئيس علي عبدالله صالح عسكريا وتفاوضيا.
فمن المفارقات أن دور الرئيس علي ناصر محمد لا يقل أهمية في هذا السياق بعدما تعددت لقاءاته المعلنة وغير المعلنة مع الرئيس علي عبدالله صالح، وقد تم إيقاف نشاط الجبهة في عهده وبقرار سياسي منه. وما يزال ذلك الدور يكتنفه الغموض غير ما ذكر من أن الرئيس علي ناصر محمد كان غير متحمس لدعم الجبهة وكان راغبا في بناء علاقات طبيعية مع النظام في الشطر الشمالي.
وخلافا لمصادر مختلفة حددت انتهاء المواجهات المسلحة بين النظام والجبهة في يونيو 1982م بعد التقاء علي ناصر محمد وعلي عبدالله صالح والاتفاق على ذلك.
يشير كتاب «ألف ساعة حرب» إلى نقاط مضيئة حول ذلك، ومنها أن عدة لقاءات جرت بين علي عبدالله صالح وبين علي ناصر محمد، وأن الرجلين كانا يشتركان في مطبخ الإعداد والترتيب لإزاحة كابوس التيار الفتاحي (عبدالفتاح إسماعيل) المعتمد على قوة عسكرية متينة من جنرالات مدينة لحج. ليؤكد بأن الاتفاق الذي جرى بين الطرفين في منتصف أغسطس من عام 1983م كان هو آخر مسمار في نعش الجبهة الوطنية.
• شاكر احمد خالد
• [email protected]
• خاص بنشوان نيوز