هناك أزمة في اليمن تتصاعد يوماً عن يوم وتحتاج إلى مناقشة أسبابها بواقعية بعيداً عن لي أعناق الحقائق حتى ولو أتى ذلك بدافع الحفاظ على الوحدة..
ومعلوم أن ما يحدث في المحافظات الجنوبية والشرقية لليمن هو حراك شعبي بحت سببه الرئيسي الفساد والإقصاء والتهميش من قبل السلطة أضر باليمن بشكل عام وبسكان الجنوب بشكل خاص.. فهل يمكن القول إن مشروع الانفصال اليوم الذي يتزعمه نائب رئيس مجلس الرئاسة علي سالم البيض أحد أهم زعماء الوحدة اليمنية مشروع بريء من مطامع الموساد وأمثاله؟!
البحث عن الإجابة يتطلب استعراض الأسباب الداخلية ومؤشرات الاستثمار الخارجي.. ومن غير البديهي الاعتقاد بأن الجماهير الحاشدة التي خرجت للتظاهر والمطالبة بالانفصال وهي جماهير وطنية عربية موغلة في الأصالة سعت أكثر من غيرها إلى الوحدة قد أصبحت اليوم عميلة للخارج.. أو منخرطة في تنفيذ المؤامرات!!
الدوافع الشعبية
الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها السلطة التي انفردت بالحكم بعد حرب 1994 والسلطة الحالية هي عبارة عن تكوينة من مختلف المناطق والأحزاب والأيديولوجيات تحت غطاء الحزب الحاكم والمسمى المؤتمر الشعبي العام.. ولعل من بين أكثر هذه الشخصيات إضراراً بالجنوب هي التي وصلت إلى السلطة على أنها تمثل الجنوب ولم تحرص على توظيف أبناء الجنوب والارتقاء بمستوى معيشتهم..
فشل التجربة الديمقراطية والتعددية السياسية في إصلاح الأوضاع رغم الدورات الانتخابية المتعاقبة التي أفرزت حكومة اليوم غير المسؤولة وأدت في النهاية إلى يأس المواطن من تغيير الأوضاع عن طريق الصندوق.. ولم يعد بالإمكان حتى الانقلاب العسكري بسبب تركيز أغلب المناصب العليا في الدولة بيد أبناء المناطق المجاورة للعاصمة عديمة الكفاءة.. ويقابل ذلك وجود كوادر جنوبية تحمل المؤهلات العلمية المطلوبة وتتسم بالأخلاق والمسؤولية العالية ناضلت في سبيل الوحدة والديمقراطية والأمن والاستقرار لسنوات طويلة وأحيلت بعد 94 إلى التقاعد وأهينت في أبواب المباني الحكومية وبيوت المسؤولين الصنعانيين... الخ
عدم قدرة المواطن في جنوب اليمن وشرقه على المزاحمة للاستفادة من الدولة الذي من أسبابه أيضاً المسافة الجغرافية بين عاصمة الحكم وهذه المحافظات.. فالقريبون من العاصمة والمتعودون على التعايش مع طبيعة الحكم استطاعوا الارتزاق والاستفادة من الدولة بطرق مختلفة وبدرجات مختلفة..
التمرد الحوثي في أقصى شمال اليمن أرهق الدولة والجيش وليس لديه مطالب وجيهة أو على الأقل ليست مبررة للتمرد المسلح.. وتهاون السلطة معه والتجاوب مع بعض مطالبه الخادشة لسيادة الدولة أدى إلى عدم ثقة المواطن الجنوبي بالدولة خصوصاً أن فساد السلطة طال حتى إجراءات معالجة المطالب الحقوقية لأبناء الجنوب التي تعامل معها الفاسدون بانتهازية.. تتمثل شرعيتها في كون أصحابها كان لهم علم أخر ونظام حكم أخر وكانوا قادة ورؤساء وسلاطين... الخ.. والكثير من الأسباب والدوافع التي أدت بتلك الجموع الغفيرة الغاضبة إلى الخروج إلى الشوارع والمطالبة بعودة البراميل والانسلاخ عن الهوية اليمانية (رغم أن البعض منهم فيما مضى من الوقت وحتى اليوم كانوا يريدون الانفصال عن الشمال بحجة أنه لم يعد يمانياً كما يجب بل أصبح مخلوطاً بأجناس ليست ذات أرومة يمانية..).
لن أطيل في الدخول في القضية الجنوبية فقد قيل الكثير والكثير من الأسباب والدوافع التي تجعل الأزمة في الجنوب هي أزمة داخلية ليست مستوردة ومعظم الدعوات الانفصالية مبادرات داخلية بريئة من الخارج سواء التي هدفت إلى الضغط الجاد على السلطة لتصحيح الأوضاع أو التي أرادت بالفعل التشطير.. وهنا يتبين أنها بريئة نوعاً ما من الخارج.. لكن هل الخارج بريء من استغلالها..؟
الدور الخارجي
بدأت الاحتجاجات في جنوب اليمن بالمطالبة بإعادة المتقاعدين وإعادة الأراضي المنهوبة ومعالجة آثار حرب94... الخ.. وتعاطف المواطن في الشمال والجنوب مع هذه المطالب ودعمت من المعارضة والإعلام غير الرسمي.. بصفتها ستؤدي إلى جعل السلطة تعيد النظر في سياساتها.. وفقدت هذه الاحتجاجا دعم الكثير من المغلوبين في مختلف مناطق اليمن لأنها أخذت صيغة مناطقية وشطرية.. وتجاوبت السلطة مع الاحتجاجات بمعالجات شكلية وإرضاء بعض الشخوص ولم تعالج الأزمة من جذورها.. ما أدى إلى استمرارها واكتسابها ثقافة معارضة مناطقية قوية وشعارات تشطيرية كانت في بادئ الأمر تهدف الضغط الجاد.. لكن بعضها لم يكن بريئاً منذ البداية وهنا وجد الدور الخارجي طريقه من خلال الانفصاليين المقيمين في الخارج من الذين خرجوا مع الاستعمار البريطاني وحرب 94م. وكل من تضررت مصالحه الشخصية بالوحدة.
المعارضة في الخارج
أصحاب المشاريع المتضررة من السلطة لدولة الوحدة اليمنية المقيمين في الخارج، ابتدأ بنائب الرئيس علي سالم البيض الذي قدم تنازلات كبيرة من أجل الوحدة وأعلن الانفصال في 94 وفقد الانفصال والوحدة في لحظة واحدة.. ولم يكن اختياره سلطنة عمان مقراً لإقامته بعد حرب 94. وهي دولة حدودية مع اليمن وخصوصاً مع الجنوب الذي كان يحكمه ناجماً من فراغ.. فالرجل كما اتضح اليوم اختار هذا المكان لينتقم من الجميع الذي خذله والذي حاربه..لأنه لم يعد زعيم الوحدة في كتب التاريخ وتلفزيون صنعاء وعدن.. كما أنه لم يعد رئيساً لدولة الانفصال التي أعلنها في 94.
من هنا نستنج أن البيض ربما بدأ منذ اليوم الأول لخروجه من اليمن بالعمل على إفشال دولة الوحدة وتواصل مع كل اليمنيين المنتقمين من وحدة اليمن في الخارج.. كما بقي متواصلاً مع كل من يريد التشطير في الداخل (سواء في الجنوب أو في الشمال).. وقد يكون في لحظة ما وصل إلى استحالة عودة التشطير.. لكنه ربما ظل يعمل على الأقل لتوتير الأوضاع لإفشال غريمة الرئيس علي عبدالله صالح قدر الممكن..
ما يؤكد أن تحالف المشروع الانفصالي المقيم في الخارج بدأ بالتخطيط لما يحدث اليوم في اليمن منذ عام 94.. هو التنسيق الواضح بين الانفصاليين في لندن. الذين خرجوا مع الاستعمار البريطاني لكونهم كانوا أدواته في الداخل وبين الانفصاليين الذين خرجوا بعد حرب 94 والذين يفترض أنهم من الثوار الذين أخرجوا المستعمر وأذنابه من اليمن في ستينات القرن الماضي..
الدور العربي
ليس من مصلحة أي دولة حدودية مع اليمن قيام دولة جديدة على حدودها لأن نتائج أي عدم الإستقرار ستؤثر بالضرورة على هذه الدول.. وكل ما سينجم عنه هو في علم الغيب.. وإن وجد دور سلبي عربي في الأزمة الراهنة في جنوب اليمن فهو لأنظمة معدومة بعيدة جغرافياً عن اليمن وليس لها أي تأثر اقتصادي
أو اجتماعي بسقوطه.. وإن وجدت أنظمة تريد تشطير اليمن فذلك ليس لأجل اليمن فقط بل لخلق عدم استقرار في المنطقة بأسرها..
والدور العربي الذي يمكن أن يدعم الانفصال بقوة ليس دور أنظمة أو دول بل هو دور تنظيمات ومشاريع انفصالية مقيمة خارج بلدانها ومتغلغلة داخلها.. تتفق مع انفصاليي اليمن في الأهداف.. ونجاح مشروع الانفصال في اليمن هو نجاح لهذه المشاريع.. لأن اليمن سيكون بالنسبة لهم تجربة ناجحة يجب التحالف معها ودعمها من الآن لكسبها فيما سوف يأتي..
الدور الإيراني
إن لم يذهب قادة مشروع الانفصال إلى طهران فهي التي سوف تأتي إليهم.. لأنها على عداوة شديدة مع رئيس اليمن الذي أرسل بعض الألوية العسكرية لتحارب إيران أيام حرب الخليج الأولى.. إضافة إلى كونها أكبر مستثمر للأزمات في المنطقة العربية ..
كذلك لن ينجح مشروع شيعية في الشمال ما لم ينفصل الجنوب الذي هو سنّي خالص..
ومؤشرات الدور الإيراني عديدة منها أن قناة العالم كانت أو من غطى أحداث الجنوب بمفردات انفصالية.. كذلك التحالف العريق بين البيض والحوثي منذ 94.. والذي نزح على إثره بدر الدين الحوثي للبنان وإيران وعاد 97 وتمرد في 2004.
إيران كذلك تلعب في اليمن وغير اليمن على وتر النسب الهاشمي لنشر "التشيع السياسي" وهو على الأرجح ما تم بين طهران والبيض والعطاس.
الدور الغربي
لا خلاف على أن اسرائيل الكيان الذي زرع في صدر الأمة العربية والإسلامية ويعمل تحت حماية الغرب يهدف إلى تقسيم الدول العربية المقسمة أصلاً وتمزيقها.. ولا يمكن القول أن اليمن بعيد عن اهتمام اسرائيل بسبب أوضاعه المعيشية والاقتصادية فهو وطن تاريخي ولديه موقع استراتيجي وشعب مليوني يمكن أن يصبح دولة قوية في أية لحظة..
بريطانيا التي احتلت عدن لعشرات السنين وخبرت جغرافيا وإنسان مناطق جنوب وشرق اليمن وخرجت منها بقوة السلاح ولم تكن تريد الخروج من عدن إلا بسبب قوة الكفاح المسلح رغم أنها انسحبت من معظم مستعمراتها في منتصف القرن السابق لكنها كانت تريد البقاء فقط في عدن لموقعها الاستراتيجي..
الرغبة البريطانية في العودة إلى جنوب اليمن تبدو ملموسة لأنه حتى وإن لم تكن بريطانيا تريد العودة إلى جنوب اليمن فإنها تريد أن يكون هذا الجنوب عبارة عن دويلات موالية لها كما هو حادث في عمان وغيره.. والأهم من ذلك هو أنه لا يمكن لأي مشروع دولي غربي وصهيوني التفكير في الجنوب دون الاستعانة ببريطانيا.
العاصمة البريطانية لندن تعج بالمتظاهرين المطالبين ب"جنوب عربي".. وتلفزيون الانفصال يبث من لندن، وصحيفة "الأيام" التي أحدثت شرخاً في الهوية اليمنية هي إحدى ربائب الإحتلال السابق، ومسمى "الجنوب العربي" هو ماركة بريطانية الصنع.. وقد قام وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية بزيارة مسقط قبل مغادرة البيض وقال قبل وصوله إن الوضع في اليمن إلى جانب سيكون في جدول أعماله في عمان.
الولايات المتحدة الأمريكية رغم إنها أعلنت مرراً وقوفها مع وحدة اليمن واستقراره إلا أنها ليست بريئة من جعل النظام في صنعاء يصل إلى ما وصل إليه.. فهي التي مارست ضغطاً على السلطة بضرورة تسريح أعداد هائلة من الجيش.. وهي من أشغل النظام بالقاعدة ومكافحة الإرهاب ومعايير الديمقراطية الباهضة على حساب العمل الوطني..
ويتبين مما سبق إن هناك دوافع داخلية وتسلل خارجي للأزمة في جنوب اليمن وهذا موضوع طويل ويحتاج إلى المزيد من البحث والدراسة ولكننا حرصنا هنا على إيجاد المدخل الطبيعي لقراءة الأزمة..
• رياض علي
• نشوان نيوز - خاص
• يرجى الإشارة حال النقل أو الاقتباس