الاحتكام إلى الصندوق عمل ديمقراطي بحت, أما الاحتياج إليه لتمرير كذبة العمل الديمقراطي كما هو الحال في اليمن فاحتيال بحت عليه..
إذا كانت المعارضة تدرك هذا جيدًا فليس عليها مناهضة مخرجات الواقع الشرعية من توريث وغيره حتى تكفر بالواقع غير الشرعي أولاً, وتترجم كفرها إلى مقاطعة كاملة وحل لأحزابها السياسية ثانيًا.
لكن مع التسليم بعدم شرعية هذا الواقع كواقع ديمقراطي هل يجب تحميل الحكومة ذلك أم الواقع الذي لا يتقبل غير هذه الصيغة للحكم ..؟
وإذا كانت الحكومة اليمنية معذورة في تنصلها من إلزامات الديمقراطية أو مبادئ النظام الجمهوري فهل من المنطق أن نجرمها أو نحاكمها بما هي ملزمة به قبل أن نعالج إلزامات الواقع الأكثر صعوبة..؟
أي أن الحكومة واقعة بين إلزام الواقع لها وبين محاكمتها بخرق مبادئ العمل الديمقراطي الذي تمارسه كشعار.
لقد فشل الرئيس الحمدي رغم عدله حين التزم للمبدأ لا للواقع, بينما نجح الرئيس حين سلك الاتجاه المعاكس, والحقيقة أن الجميع فاشلون ما لم يعمل الرئيس على تقليص صلاحيات مراكز القوى التي صارت حكومات ذات سيادة داخل حكومته, لكنه سيكون انقلابا مكلفا.
تأتي في هذا السياق قضية (التوريث) الذي تعتبره الحكومة إلزامًا واقعيًا وإن اقتضى إيمانهم بمبادئ أخرى أن يمرر بصيغة (التوريث الديمقراطي) وهو ما سيحصل.
وحين تناهض المعارضة التوريث فإنها تكلِّف الحكومة ما لا تطيق لأنها بمعية مراكز القوى (اتحاد الدول اليمنية) تضم مجموعة دول تحكمها هذه المراكز لا الرئيس ولا مؤسساته, فكيف يمكن الرئيس تجاوز هذه المعضلة..؟
قد أتخيل صورة لانتقال الحكم من الرئيس إلى آخر أيًا كان هذا الآخر لكني أريد من المناهضين تصورًا لكيفية انتقاله من (أسرة) بكاملها (كلُّها رئيس) إلى آخر عبر الصندوق دون أن تقوم القيامة ..؟
كيف يمكننا تجاوز الثقافة الشعبية التي رسِّخ فيها هذا المبدأ .. الرئيس يورث والشيخ يورث والوزير يورث وعاقل الحارة يورث ورئيس البرلمان يورث .. أي أن التوريث ثقافة سائدة وثابت يمني ..؟
ألسنا بحاجة إلى جهد جبار كي نخلق أرضية للعقل اليمني تتناسب مع العملية الديمقراطية قبل أن نحاكم الحكومة لأنها ستورث ..؟
ألن يكون أحمد علي مكسبا قد نضمن خلال وجوده في الحكم الحفاظ على الوضع ولو في حاله السيئ إلى أن نتخطى مشكلة تواضع الوعي الشعبي..؟
لماذا تراعي القوى السياسية شعاراتٍ مرفوعة ولا تراعي الواقع وحاجته ونوعية العمل الذي يتطلبه ..؟
****
يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء /الدكتور /عبد الله الفقيه .. أن التعميم في الحديث عن غياب الديمقراطية غير وارد, ويوضح ذلك بالقول : (الأمور نسبية..فلا يمكن القول بان النظام ملكي على الإطلاق. كما لا يمكن القول بأنه ديمقراطي. والمشكلة في اليمن ليست في كون النظام استبداديا بقدر ما هي في عجز النظام عن أن يكون استبداديا. فالذي يمنع النظام في اليمن من التحول إلى شيء أشبه ما يكون بالنظام السوري أو النظام العراقي في عهد صدام ليس انه أكثر ديمقراطية ولكن لأن البنية الاجتماعية والمؤسسية والاقتصادية في اليمن لا تسمح بقيام القطب الواحد. أما الثقافة فهي واحدة).
ورغم أن الدكتور الفقيه يقر بالواقع كجزء من المشكلة إلا أن هذه الجزئية لا تخدم شرعية التوريث حسب كلامه: (وبالنسبة لتوريث الحكم في اليمن فانه لا يمكن أن يكون شرعيا لأن الإقرار بشرعيته يعني نزع الشرعية عن النظام الجمهوري برمته. وإذا تم نزع الشرعية عن النظام الجمهوري فان التوريث سيكون حقا لأناس آخرين).
والأمل الوحيد للتوريث هو أن يمرر بغطاء ديمقراطي حقيقي أي عن طريق الانتخابات التي تعبر عن الإرادة الحقيقية للشعب. لكن الأوضاع الحالية لا تصب في خدمة مشروع التوريث. وسيتوقف مستقبل التوريث على الكيفية التي ستتطور بها الأمور وخصوصا على الصعيد الاقتصادي.
لعل الدكتور الفقيه حسب كلامه قد فهم من السؤال أنه يبحث عن مدخل لشرعنة التوريث في ظل نظام جمهوري بينما كان السؤال يتحدث عن التوريث كمولود شرعي لغياب هذا النظام أصلا.
أما عن دور القوى السياسية .. هل عليها مراعاة الواقع الذي يتطلب بعض الخروجات عن بعض مسلمات العمل الديمقراطي ك(التوريث) أم مراعاة الشعارات المرفوعة عنه .. فيرى الدكتور أن عليها المزج بين الاثنين لأن اليمن لا يمكن أن تتحول فجأة إلى جنة الديمقراطية وهناك عوائق شتي .. ويضيف (لكن المشكلة من وجهة نظري هي أن النظام وبدلا من أن يحاول إحداث تراكم في العملية الديمقراطية مهما كانت الإضافات محدودة في كل سنة فانه يعمل الضد..مرة يتحرك إلى الأمام وأخرى إلى الخلف. ويفترض اليوم أن يتم الدفع نحو تنافس قوي حول مقاعد مجلس النواب).
إلا أنه ومع اعترافه بعوائق شتى تعرقل العمل الديمقراطي لها علاقة بطبيعة تكوين الواقع اليمني لا يرى في ذلك ضرورة للقبول بالتوريث .. فيقول (أما قولك بان الواقع يرجح كفة التوريث فاختلف معك فيه. الأوضاع غير مستقرة وخطرة. ومستقبل البلد ذاته محل تساؤل وليس فقط التوريث).
وبخصوص كيفية انتقال السلطة إلى غير الأسرة الحاكمة رغم أنها شريك في تملكها وليستْ المالك الوحيد حتى يكون لها حق القبول بنتائج العمل الديمقراطي سواء صبت في صالحها أم لا .. فيرى أن عملية انتقال السلطة من الأسرة سهلة لولا وجود مراكز القوى الأخرى, كما جاء في مستهل رده على هذه النقطة: (ليس صعبا أبدا. فقد انتقلت من بني هاشم بعد ألف ومائة سنة وكان الناس يعتقدون أن الولاء لهم هو فريضة دينية وليس التزاما سياسيا. ستقول كان هناك حرب وسأرد عليك بأن الظروف في ذلك الوقت كانت مختلفة. وإذا رحل الرئيس في الظروف الحالية فسيكون الوضع صعبا لأنه لا التوريث ولا التغيير سيكون قادرا على ضمان الاستقرار النسبي. أما بالنسبة للطريقة التي ستحدث بها الأمور فبسيطة جدا ..سترتفع الأصوات من هنا وهناك وسيسقط التوريث بسهولة..اليمن بلد جمهوري وليس ملكية وراثية.. والمشكلة الكبيرة في اليمن لا تكمن في كون النظام عبارة عن أسرة حاكمة بقدر ما تكمن في تعدد مراكز القوى كما ذكرت في سؤالك السابق وفي ظل ذلك التعدد يصبح التوريث في غاية الصعوبة).
وعن أزمة ثقافة التوريث يرى الدكتور أن غياب البعد الأيدلوجي فيها لن يبقيها ثقافة وأن ذلك مرتبط ببقاء الحكومة التي ترسخ هذا المبدأ داخل مؤسساتها لخلق شرعية لتوريث الحكم .. يقول الدكتور (التوريث جزء من الثقافة السياسية اليمنية..لكن الثورة في شمال اليمن كانت في جوهرها ثورة على التوريث. وما يحدث اليوم هو أنه يتم تكريس ذات الثقافة التي تم رفضها بالثورة والتي كان يفترض أن يتم العمل على إضعافها بالتدريج. وأعتقد أن الخطأ الكبير الذي ارتكبه النظام هو في تعميم التوريث بدلا من حصره. فالتعميم الذي ربما قصد منه النظام إيجاد شرعية لتوريث الكرسي الأول في البلاد قد أوقع النظام في مأزق كبير. قد يقبل الناس بنجل الرئيس بشروط معينة لكن عندما تطلب منهم أن يقبلوا بنجل العليمي ونجل الشاطر ونجل القاضي السماوي ونجل الكرشمي ونجل الإرياني ونجل عبد الغني ونجل صالح مصلح ونجل علي ناصر محمد ونجل بورجي يصبح الرفض اقرب إلى التحقق..
وعلى كل حال فإن تأييد الناس للتوريث أو رفضهم له لا ولن ينبع من أسباب أيديولوجية أو عقائدية. لقد عارض الناس التوريث عبر التاريخ لأنه يوصل الضعفاء إلى السلطة وبالتالي يضعف الأمم ويقود إلى انهيارها. واعتقد أن هناك معارضة كبيرة للتوريث في اليمن اليوم وان هذه المعارضة ستزداد مع الأيام بسبب ضعف أداء النخبة الحالية والتي تسعى لإعادة إنتاج نفسها. والأمل الوحيد للتوريث هو في تفعيل النظام الحالي وتحقيق انجازات على الصعيد الاقتصادي. التوريث في اليمن بحاجة إلى معجزة اقتصادية).
إلا أن وجود ثقافة شعبية غير كافية لتقبل مناهضة التوريث لا يعني أن يتوقف العمل السياسي وأن يتركز الاهتمام على خلق أرضية له لأن الممارسة بحد ذاتها تثقيف حسب كلامه : (يتم تعلم الديمقراطية بالممارسة. والذي لا يبدأ اليوم لا يمكن أن يبدأ أبدا. ويمثل التدرج الواعي المخطط أفضل الطرق لبناء الديمقراطية. والمسألة بالنسبة لليمن أكثر تعقيدا بسبب أن الديمقراطية تمثل العقد الاجتماعي للوحدة التي قامت بين دولتين ولذلك لا مجال أمام اليمنيين سوى أن يتقدموا بالديمقراطية إلى الإمام مع مزجها بالتوافق كلما أمكن. لا أتخيل نفسي أو أحدا غيري يقف في صف الوحدة اليمنية إذا تم نزع ورقة الديمقراطية عنها. فالعبودية تتجافى مع فطرة الإنسان. والإنسان ذو الفطرة السليمة يرفض العبودية لنفسه ويرفضه لغيره).
في نهاية حديثه .. لم يقف الدكتور عبد الله ضد التوريث بل وقف في صف الواقع الذي سيحدد أو ستحدد ظروفه ما إذا كان التوريث مطلبًا وحاجة عامة أم لا, أما الواقع الحالي فلا يرى فيه مجالا له لسبب ورد في جوابه التالي : (سيتوقف جواب هذا السؤال على الظرف التاريخي الذي يطرح فيه. في الوضع الحالي يشكل التوريث اقصر الطرق لتفتيت البلاد وتجزئته. فالناس مختلفون حول الأب فما بالك بالابن).
***
رغم أن السؤال كان يتحدث عن شرعية التوريث كحاجة أو عن شرعيته كناتج لكيان سلطوي غير شرعي باعتباره يمارس ملكيته بثوب جمهوري إلا أن المتحدثين جمعوا بين عدم شرعية النظام وعدم شرعية التوريث كالكاتب والمحلل السياسي منير الموري الذي قال .. (توريث الجمهورية حتى وإن تم بغطاء ديمقراطي، سيكون الوليد غير الشرعي لعملية اغتصاب مستمرة منذ عام 1978 حتى الآن. اغتصاب السلطة جرى بأياد آثمة وبأسلوب جبان غادر، في منزل أحمد الغشمي، ومازال الغاصبون يحكمون حتى اليوم، ولكن الشرعية ستظل غائبة عنهم ولن ينالها أبناؤهم مهما فعلوا، بل سينتظرهم الحساب لأن الله العلي القدير يمهل ولا يهمل).
وهذا الرأي يتحدث عن أشياء لا نختلف أو لا يختلف الكثير معه فيها لكنه لم يتطرق إلى الواقع (القائم) وحاجته وكيفية التعاطي معه بالطرق المتاحة والمناسبة سواء كان شرعيًا أم لا.
أما بخصوص القوى السياسية ودورها المطلوب فيكتفي الماوري بتوجيه نصيحته لها وتذكيرها بواجبها بقوله : (على القوى السياسية مراعاة حقيقة واحدة هي أن الحكم الحالي يحمل بذرات سقوطه، والبلاد تنتظر من ينتشلها من أحضان مغتصبيها.
وعن أزمة مراكز القوى وحاجتها لحاكم من مواصفات الرئيس حتى تحافظ على مصالحها وصلاحياتها .. وعن التوريث كضامن أساسي لعدم انقلاب هذه المراكز على الحاكم بما قد يدخل البلد في دوامة لو قبل بعمل ديمقراطي (تداول سلمي للسلطة) .. يقول الماوري (التوريث يمكن أن يحافظ على الاستقرار في حالة واحدة فقط وهو أن يكون هناك عقد اجتماعي مسبق بقبول الحكم الملكي الوراثي، أما توريث الجمهورية عن طريق التحايل الديمقراطي، فإنه سوف يزعزع ما تبقى من استقرار هش، وسوف يتحول الخائفون من الرئيس الحالي إلى وحوش أمام نجله الهادئ المسالم، ولن يسمحوا له بالتسلط عليهم، كما أن هناك قوى كثيرة في البلاد، ترفض أن يستمر الرئيس الحالي في حكم البلاد من داخل قبره تحت مسمى توريث الحكم، أو ترشيح الإبن) ..
لا أدري لمَ صعب على البعض ذكر تصور لانتقال الحكم من الأسرة الحاكمة مع بقائها قوى مؤثرة في البلاد, فلم يتصوروا ذلك إلا مقرونًا بزوال السلطة أو بانتقالها إلى الخارج كما جاء في حديث منير (القيامة لن تقوم، والأسرة الحاكمة أصبح لديها ثروات مسروقة وأموال طائلة، مهربة في الخارج، ولن يضحي أفراد الأسرة، بهذه الثروات من أجل سلطة زائلة، ولذلك سيفر أفراد الأسرة الحاكمة مثل فرار الإمام البدر، بمجرد أن تقترب الجموع من دار الرئاسة).
لكن الماوري لا يرى أن التوريث أصبح ثقافة مجتمعية سائدة بل يرى أن : (التوريث حالة طارئة ابتكرها علي عبدا لله صالح ظنا منه أن توريث الوزارات سيعطيه الحق في توريث الرئاسة، ولكن هذه الحالة المبتكرة إذا ما قبلنا بها فهذا يعني أن الفقر سيظل من نصيب عبد الرزاق الجمل، يورثه لأنجاله وأحفاده، وليس له الحق كيمني أن يطمح للرئاسة أو الوزارة أو حتى ستر الحال في وظيفة محترمة، ولن يكون أمام أنجالك وأحفادك سوى ثلاثة خيارات هي أن يتحولوا إلى إرهابيين أو لصوص، أو في أحسن الأحوال مهاجرين مشردين في بلدان الآخرين).
ويعود ليؤكد بأن الواقع وحاجته لا يفرضان علينا نجل الرئيس ولو مؤقتا وأن القراءة التي تراه كذلك واهمة, لأسباب وردت في هذا الجزء من كلامه (أحمد علي ليس مدنيا مثل جمال مبارك كي نقول أن حكمه سيكون نقله نوعية من الحكم العسكري إلى الحكم المدني، وليس سنيا كي نقول عنه أن حكمه سيكون نقله نوعيه من احتكار طائفة معينة للمنصب الأول في اليمن، وليس جنوبيا كي نقول أن وجوده في رأس الدولة سيزيل النعرة المناطقية من نفوس الساعين للانفصال، وليس بكيليا كي نقول أنه سيطمئن أبناء بكيل بأن حاشد لن تحتكر الحكم للأبد، وليس ناشطا حقوقيا كي يطمئن دعاة العدالة بأن حكمه سيختلف عن حكم أبيه، وليس اقتصاديا كي يطمئن الفقراء بأنه سيدير شؤونه بدون سياسة التحويلات والتوجيهات، ولم نسمع له خطابا أبدا كي نطمئن أنه قادر على نطق جملة (أيها المواطنون)، ويستطيع أن يفرق بين الذي والتي. ولذلك فإن وجوده في الحكم ليس مكسبا، بل خسارة كبيرة لأنه سيقتل الأمل القائم في نفوس ملايين الفقراء والمتعبين من أبناء اليمن الذين يتوقون إلى اليوم الذي يختفي فيه أبوه لعل وعسى أن يبدأ شخص آخر الطريق نحو القضاء على إنجازات الرمز الراحل المتمثلة في الفساد والفقر والكذب والعبث.)
***
وعلى نفس المنوال السابق (تجاهل الواقع الحي) جاء حديث الكاتب الصحفي مروان الغفوري حين تجاوز السؤال المتعلق بقضية التوريث كحالة طبيعية لوضع غير ديمقراطي إلى الحديث عن أسبابه وأنه كما قال : (في دول العالم الثالث لا يكون التوريث هدفاً لنقل السلطة إلى الأحفاد، بوصفها الكنز الدفين. بل للحفاظ على الأسرار، وتأجيل " لعنة التاريخ" لأبعد مسافة زمنيّة. وطالما كان الحاكم نائماً على عش أسرار، مالية وأمنية ، "غير حميدة" فسيستميت للحفاظ عليها في غيابه، بعد موته. فالحاكم في العالم الثالث، على اختلاف عرقه، يؤمن بمقولة : يقول حميد بن منصور، من كان أبوه يظلم الناس كان القضا في عياله! الأمر ، في تصوري، ليس له علاقة بالديمقراطية. رفض التوريث يشبه تماماً مطالبة " الحاكم" بفضح أسراره، وهي المطالبة التي نفهم منطقها حين تكون من القوي للضعيف، التحقيقات الأمنية كمثال. هل ستضمن الديمقراطية الحفاظ على الأسرار؟
لا أدري لماذا (ونحن نتحدث عن شرعية التوريث في ظل غياب ديمقراطي) يُعاد الحديث عن مسألة الديمقراطية ..؟! لأنها لو كانت على ما يُرام لما وُجدتْ أزمة توريث أصلا .. لذلك لم يكن هناك جديد في حديث الأستاذ مروان عن عائق مراكز القوى أمام قيام عمل ديمقراطي حين قال : (الديمقراطية تعني : المؤسساتية، الحقوق والحريّات، التبادل السلمي للسلطة. قبل الحديث عن التبادل السلمي للسلطة لا بد من التأكد من أن " المؤسسة " قائمة، وأن الحقوق تأخذ حيزاً في الوعي والممارسة الجماهيرية. هذا السؤال التقريري يذكّر بحيلة معاوية بن أبي سفيان : لا بد من التوريث لأن خلاف ذلك سيدخل " الأمة" في دوّامة كبيرة. هل أدت هذه الفكرة لغير حروب بشعة استمرت حتى نهاية العهد العباسي، 658ه، وكلها دارت حول " ولاية العهد).
ولأننا نتفق مع مروان على أن المؤسساتية أساس للعمل الديمقراطي, سيبقى السؤال عن غيابها وعن التوريث في ظل هذا الغياب ..؟
أما عن قبول الرئيس للتوريث اضطرارا لا اختيارًا باعتباره (أي الرئيس) واحدًا من كلٍ (كلٌّهم رئيس) ولا حيلة له غير التسليم به حفاظًا على نفسه أولا وعلى البلد ثانيا ممن سمنهم لحمايته حتى أصبحوا دولاً, يعود الغفوري إلى التاريخ ليقول: (في أول الثورة حاربتها القوى التقليدية بشراسة. بعد ذلك، عندما أصبحت الملكية جزءً من الماضي، بادرت هذه القوى إلى الانخراط في خط الثورة والحداثة، بحثاً عن مكان في المستقبل. هذا ما يمكن أن يحدث عند الانتقال من الشمولية إلى الديمقراطية. دائماً ما تكون هناك قوى معادية للتغيير، قوى صلبة ومخيفة، لا تلبث أن تفقد أنيابها عندما يحرس الجميع هذا التغيير، حدث هذا في كل مكان في العالم بلا استثناء. لن يسلم الرئيس بالتحوّل الديمقراطي الصافي ما لم يلحظ يقيناً أن الأكذوبة الديمقراطية انكشفت، وأصبح الوعي الجماهيري محصناً ضد مزيد من الأكاذيب. بمعنى أن التسليم بالقواعد الديمقراطية الشفافة من قبل الرئيس سيكون نتيجة لتغيّر قواعد اللعب لمصلحة الجماهير؛ هذا الإرغام سيسري على كافة القوى " وتكرّ السبحة).
ويعود مرة أخرى ليذكر تصورًا لانتقال السلطة من الأسرة الحاكمة إلى غيرها بطرح نماذج ربما تكون مشابهة إلى حدٍ ما لكنه إسقاط لتجارب واقع قد تكون له ظروفه وحيثياته المختلفة.. كالنموذج المذكور في كلامه : (في عام 1850م كان يعمل في مصانع الحديد في برمنجهام 50 ألف طفل، وكان مجلس العموم يسن القوانين والتشريعات التي تحفظ للإقطاعية حقّها. لقد كانت البلاد ملكاً لمجموعة من الأثرياء تحرسهم آلة قانونية وأمنية تابعة. بعد ذلك بعقود قليلة كان كل شيء يتغيّر لمصلحة " أطفال برمنجهام، الهاربين من المدارس، المعاقين، أبناء الشوارع". لم تقم القيامة، لم ينفخ في الصور. لقد خرجت القوة من يد القلة مالكة امتياز الثروة والسلطة، إلى الكثرة عندما امتلكت هذه الكثرة الوعي والمعرفة والمهارة. عندما تتأكد أن المجتمع اليمني أصبح واعياً ، ومتعلّماً، بنسبة 51% تأكد عندئذٍ أن هذه هي القيامة التي ستغيّر كل شيء؛ وأن آل الأحمر سيتحوّلون، بضغط هذه النسبة، إلى مواطنين صالحين لا شأن لهم بأي امتيازات سابقة).
وحول ثقافة المجتمع التوريثية, يقول الغفوري (يقال هذا الكلام في كل المجتمعات التي تسعى للتغيير على اختلافها. عندما يفقد المجتمع ثقته بالعلاقات القانونية التي تضبط إيقاعه فإن كل فرد فيه يركض للاستحواذ على كل شيء" انجُ سعد فقد هلك سعيد". عملية التحوّل بطيئة، ولا بد أن يعيها الناس، ويعي أكثر أن القانون سيضمن له حقّه، وأن المؤسسة ستحمي مستقبله. أنت تشتكي الآن، أنا كذلك، المورث والوريث يشتكون. إحساس الجميع بحجم المشكلة سيشكل تواطؤاً جماعيّاً ضدها. هذا هو التواطؤ غالباً ما يشكل النواة الأساسية لـ" عقد اجتماعي " جديد ضد أخطاء الماضي، التوريث تحديداً هنا. على العكس منك، أتصور أن هاجس التوريث لدى الجميع هو الضمانة الأهم لنسف هذه الممارسة وإلى الأبد مع أول عملية تحوّل. فنحنُ لا يمكن أن نزيلَ سلوكاً بعينه ما لم يشكل هذا السلوك ، على مدى زمني طويل نسبيّاً، مشكلة نفسية واجتماعيّة لنا، ويتشكل لدينا درجة ما من اليقين بسلبية هذا السلوك واحتياجنا لتجاوزه.
خلاصة:
تحدث الجميع عن غياب تام أو شبهه للعمل الديمقراطي لكنهم لم ينتقدوا التوريث في سياق نقدهم لهذا الغياب, بل لأنه توريث, إذ كان يُفترض أن يتعاملوا معه كناتج طبيعي للوضع القائم.
يعترف الجميع بوجود مشكلة يُقال لها (مراكز القوى) لها تأثير في كل تفاصيل الحياة السياسية وتؤثر بشكل مباشر سواء حضرتْ هي أو مصلحتها, لدى صانع القرار عند اتخاذه أي قرار.
لكنهم نظروا للمشكلة كمشكلة ورفضوا التوريث كحل مؤقت لها, ولم يرد فيما سبق شيء منطقي كحل لتفادي ردة فعل هذه القوى تجاه رغبة الحاكم بالشروع في ممارسة عمل ديمقراطي جاد.
لم يرد في التصورات المذكورة لانتقال الحكم من الأسرة الحاكمة تصورٌ ديمقراطي إذ مثل البعض بحالة اقتضت ثورة والبعض بحالات أخرى, وخلتْ التصورات من أية كيفية ذات طابع ديمقراطي ..
وهذا يعني أن العمل الذي لا يمتلك شرعية ديمقراطية كالثورة أو ما يشابهها سيكون شرعيًا حين تكون الديمقراطية (زيف) ولا طريق لانتقال السلطة بشكل رسمي, إلا أنه يعني أيضًا أن التوريث أمر شرعي وإن لم يمتلك شرعية ديمقراطية, لأنه يمتلك شرعية واقعية..
ورد في كلام الدكتور عبد الله الفقيه ما يُشير إلى أن التوريث أو الوريث قد يكون شرعيًا أو قد يكون حاجة إن اقتضى الواقع ذلك .. وإذا كان الواقع يحدد الحاجة حسب كلام الدكتور دون اعتبار القوانين أو المبادئ الديمقراطية فإن من ينظرون إلى التوريث كمتطلب لهذا الواقع, يمتلكون بعضًا من الحقيقة.
وتأييدًا لهذه النقطة ورد في كلام الأستاذ منير الماوري : (القبول بالتوريث يحتاج إلى ثمن لا بد من دفعه كرشوة للشعب تتضمن تحسين أوضاعه أو تقديم تغيير .. تغيير جذري من نوعٍ ما, ولكن يبدو أن الوريث والمورث غير مستعدين لدفع الثمن لأنهما متعودان على تلقي الرشوة لا دفعها).