ظهيرة الأحد 19 يوليو الجاري سألت شرطياً كان يقف عند مدخل الطريق المؤدية من الحبيلين إلى حبيل جبر (مديرية ردفان) عمَّا إذا كانت هذه الطريق هي التي ستوصلني إلى منزل النائب الاشتراكي ناصر الخبجي الذي أريد اجراء مقابلة معه.
أجاب الشرطي بحياد: نعم. وفي نقطة متقدمة على الطريق إلى أحد أبرز قادة الحراك الجنوبي كان ينتظرني دليل لإيصالي إلى منزل مضيفي في قرية «الذنبة»، إحدى قرى مديرية حبيل جبر بردفان، التي تقع في قلب جبال ردفان، على الشرق من تبة «لحمر» التي شهدت معارك مسلحة قبل 3 شهور بين المواطنين والجيش الذي أراد التمركز فيها.
خلاف الحال قبل أسابيع، تنعم مديريات ردفان الأربع حالياً بالهدوء. ولم ألحظ في طريقي أية أجواء شحن. وفي منزل ناصر الخبجي الطبيب الذي جهد في هذا الحوار من أجل تطبيب الجراح الناجمة عن جريمة «حبيل جبر» التي أودت بحياة 3 من أبناء القبيطة، كانت الجدران مزينة بصور شهداء منذ اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963، وحتى شهداء الحراك. لا تظهر في «بانوراما الشهادة». هذه صور لشهداء أحداث زنجبار التي لم تكن قد وقعت بعد!
يعتمد ناصر الخبجي نبرة معتدلة في مواقفه قياساً إلى آخرين في قيادة الحراك، وآرائه. وهو أحد مؤسسي حركة «نجاح» التي أعلن عن قيامها في إبريل الماضي، والتي تُعد المكون الأبرز والأوسع انتشاراً بين مكونات الحراك.
توقف الخبجي عن ممارسة مهنته الأصلية (الطب) لأن «السياسة حملته إلى البرلمان. لكن البرلمان الذي لم يُعد موضعاً لإنجاز التسويات السياسية، ولا حتى محفلاً لتبادل الآراء، حمله على مغادرة العاصمة والعودة إلى ردفان، الأغنية التي كانت في الستينات «في فم كل ثائر»، ليساهم في اندلاع الحراك السلمي الذي شهد طفرات متعاقبة خلال العام الأخير، قادت بعض ناشطيه وأنصاره إلى التورط، بالخطاب والسلاح معاً، في العنف.
وفي هذا الحوار يعرض الطبيب والبرلماني والحركي، إلى التطورات الأخيرة التي شهدتها المحافظات الجنوبية والشرقية، والأسباب التي أدت إلى انحسار خيارات الحراك لصالح خيار «فك الارتباط».
إلى الحوار:
> ما توصيفك للوضع في اليمن عموما؟
- الخطورة أن الأوضاع تتفاقم وتتصاعد كل يوم، دون أي معالجات حقيقية للمشاكل. وهناك صمت غير طبيعي، إما أنه من أجل مزيد من تعقيد ظروف البلاد وإما أنهم يعتبرون ما يحدث سحابة صيف.
> تتحدث عن الأوضاع داخل المحافظات الجنوبية والشرقية؟
- بل بشكل عام. هناك ملفات كثيرة معقدة وتتفاقم: ملف القضية الجنوبية، ملف صعدة، ملف الإرهاب، ملف الفساد، الوضع الاقتصادي... وكلها ملفات معقدة.
> تتحدث عن السلطة؟
- بل عن المجتمع برمته. قضية صعدة ليست مشكلة إدارية، بل هي وطنية، والسلطة غير قادرة على حلها دون التعاون مع قوى سياسية قادرة. وللأسف فإن المعارضة، وأقصد اللقاء المشترك، والسلطة، كل واحد يريد أن يتفرج على الآخر.
> لست محللا سياسيا يا دكتور، أنت أحد أطراف صنع هذه التعقيدات؟
- شخصيا أنا كنت خارج السياسة بالمرة، ولولا أن أوضاعنا لم يتوقف سوؤها رغم توقف حرب 94 وانتصار ما سُمِّي ب"الشرعية"، لبقيت بين الأدوية وأسرَّة المرضى؛ أنا أصلا طبيب. وكنا نتمنى (لو) أن المنتصر في 94 تعامل بجدية ووطنية. وقد كنا نقول إن الأمر مثله مثل الصراعات السابقة: طرف انتهى وطرف جاء، والمهم: العمل لصالح الناس وتحقيق مصالحهم. لكن هذا لم يحدث. لم يكن المنتصر عند مستوى المسؤولية، واليوم بدلا من أن يعتبر الحراك دعوة جادة للإصلاح يحملنا المسؤولية، كما تفعل في سؤالك.
> سؤالي هو عن مسؤولية الحراك تجاه هذا الوضع الذي تشتكي منه؟
- الحراك يطالب بحقوق، يطالب بقضية. نحن باختصار طالبنا بحقوق، ومن الطبيعي أنه مادامت دولة الوحدة، كما تسمى، غير قادرة على تلبية المطالب الحياتية لمواطني جزء منها، فعليها أن تتركهم يديرون شؤونهم، وتفك ارتباطها بهم، أو تترك لغيرها إدارة البلاد بكلها. أما العجز عن إدارة البلاد بما يوفر لأبنائها حياة كريمة، ورفض الاستماع لشكاواهم ورفض تركهم يديرون حياتهم فهذا قطع طريق على الدولة والوحدة.
> تصعيد المطالب كل يوم لا يعني أن رافعها يريد حلا، هو يعمل على تكبير كرة الثلج، وأنتم بدلا من الحديث عن الحقوق تتحدثون عن فك الارتباط، عن التشطير...؟
- لا، الأمور ليست هكذا. نحن بدأنا بالتدريج، ولم تلق مطالبنا أي استجابة، فكان فك الارتباط هو الدعوة الأخيرة. نحن لا نريد أن نغرق في الفوضى ونعود إلى السلوكيات المتخلفة في إدارة الدول والمجتمعات. وأعتقد أن هذا ظلم للوحدة. الوحدة طوق نجاة للمجتمعات، وليست طوقا يوضع على أعناقها ليخنقها، وقد أنهت حرب 94 المشروع الوحدوي.
> تُحمّلون حرب 94 فوق طاقتها في تبرير ما يحدث، لا تعترفون بالأسباب المختلفة للمشكلة؟
- الرئيس (علي عبدالله صالح) يقول إن الوحدة عمدت بالدم. ومن باب المسؤولية، كان عليه أن يتخذ إجراءات منذ 7 يوليو 94 لحماية هذه الوحدة التي قد تثبتت بالدم، لكنه لم يفعل.
كان بيننا من اقتنع أن الانفصاليين هم سبب أوضاعنا، وانتظروا؛ يمكن يكون في خير، ممكن يكون في تغيير، ممكن يكون في تثبيت دولة، تثبيت نظام وقانون؛ لكن كل يوم للأسوأ: عملية نهب، عملية سطو، طرد للموظفين، طرد للعمال، ازدياد البطالة. وكان الناس يقاومون فرديا. التراكمات أوصلتنا إلى هذه الحال. واليمن هي جزء من العالم، تتطور قدرات الناس فيه على التعبير عن أنفسهم ومطالبهم. وكان يمكن للدولة الاستفادة من التطورات في العالم أيضا في رصد وتحليل المشاكل وحلها؛ لكن دولتنا لا تزال ملتزمة بمنهج تفكير "الجمهورية العربية اليمنية". ولا أدري لماذا لا يقال لها إنها هي الشطرية، وعيا وممارسة؛ هي تعاملت مع كل نشاط ينبهها للأخطاء بعد انتصار 7/7 بالطريقة ذاتها التي تعاملت بها مع الانفصال، فوحدت الناس. نحن نذكر محاولات التنبيه التي قام بها متقاعدون عسكريون ومدنيون، وحتى محاولتنا من أجل التصالح والتسامح بيننا، كجزء من اليمن شهد صراعات دموية يريد تجاوزها، تعاملت معها الدولة على أنها خطر... هي تخاف أن تصبح البلاد بلا ثارات؛ لأنها تريد أن تنعم بفعل ما تشاء. اليوم يوجد في الحراك إصلاحيون واشتراكيون، وحتى مؤتمريون، وكل يوم يتأكد لآخرين أن السلطة ليست جادة في أي شيء، وسوف تراهم قريبا في صفوف الحراك.
> هذا الخليط، الفردي والحزبي، المنضوي تحت مسمى "الحراك"، يحمل أيضا اضطرابا في المطالب وتناقضا في الخطاب وصراعات تنظيمية وشخصية؟
- التباينات معقولة، ولكن لو رأيت جوهر الطرح ستجده واحدا. أعني أن هناك من يطرح التحرير، من يطرح استعادة الدولة، من يطرح الاستقلال... كل هذه مصطلحات هدفها في النهاية تغيير الواقع.
> الخلاف يتعلق بوظائف الدولة، أو التنوع في الحراك مثلاً، حتى التصالح والتسامح مجرد عنوان لحشد المجتمعات المحلية لمصارعة السلطة. حسن باعوم يرى نفسه مرجعية النضال، ناصر النوبة له رأي آخر، "نجاح"، الفضلي، البيض، العطاس...؟
- لا. أعتقد أنهم متفقون في الهدف.
> أنا لست مهتماً بالنوايا، أنا أتكلم عن الأداء العام والقرار الذي نلمسه، بيانات ومواقف؟
- كل الحراك الآن هدفه واحد: استعادة تقاليد إدارة شؤونه بما يحقق مصالحه. نريد هذا سواء عبر دولة الوحدة، عبر دولة جديدة، عبر فك الارتباط.
> هناك جنوبيون يعملون للهدف نفسه، أقصد إصلاح وضع الدولة عبر المؤسسات القائمة، حتى عبر المؤتمر الشعبي؟
- هناك ناس عندهم الجرأة أن يقولوا ما يريدون، وهناك ناس حتى الآن لهم مصالح معينة لا يستطيعون، وبعضهم يقول: نحن متفقون معكم، لكن غير مصدقين أن هذا الهدف يمكن أن يتحقق.
> تهيجون الناس حول شعارات تهدد الوحدة الوطنية بحجة السعي لإصلاح البلاد؟
- نحن لا نفعل هذا. نحن ضد طريقة إدارة الدولة، ونقول هذا بوضوح؛ لكننا لسنا مسؤولين عن طريقة تعبير الناس عن مشاكلهم، الطبيب لا يهتم كيف يعبر المريض عن ألمه، بل كيف يعالج هذا الألم، وبعد ذلك لن يسمع منه شكوى، بأي طريقة كانت. النظام يتهمنا بما ليس فينا لمجرد أنه يريد حماية نفسه. هو الذي يعبث بالوعي الوحدوي للناس لحماية نفسه. أما نحن فلم يصدر منا أي خطاب طائفي أو مناطقي. مشكلتنا هي مع الإدارة العسكرية للبلاد. القطاع العسكري في ردفان هو من يحكم، ولو حولت الاعتمادات المخصصة لهذا القطاع إلى ما هو في صالح الناس لكانت الدنيا بخير.
> من يعطيكم الحق في الحديث بسم الجنوب؟
- أنا مواطن في هذه المنطقة، أتحدث عن شخصي ومن معي، ولا أدعي تمثيل غيري. والأيام وسلوك الدولة هما ما يقرر كيف سيكون سلوك الأغلبية.
> في حديثكم عن الجنوب هل تتحدثون عن دولة الجنوب بعد 67 أم قبله؟ طارق الفضلي، مثلاً، أكيد ليس هدفه إرث الدولة الذي تنتمي إليه أنت. هو لديه إمارة ألغتها دولة الاشتراكي... ما يريده الاصلاحي أحمد بامعلم أو أنصاف مايو ليس هو ما يريده حسن باعوم أو ناصر النوبة. أنتم فقط تكتفون بالعنوان المناطقي كعامل وحدة جغرافية، هذا لا يكفي في العمل السياسي...؟
- لا نريد أن ندخل الآن في هذه الأشياء. معروف أنه لا يمكن أن يعود نظام الحزب الاشتراكي، لأنه كان نظاما شموليا، نظام الحزب الواحد. الآن نحن نتكلم عن تعددية سياسية، ديمقراطية، أكثر من حزب. الآن هناك وجوه جديدة، شباب، أفكارهم تختلف لكنهم متفقون على إدارة الاختلاف بوعي. مثلاً: أحمد عمر بن فريد يعتبر من الذين غادروا في 1967 (بعد استقلال اليمن الجنوبي)، التقينا نحن معه، طارق الفضلي من نفس الجيل، من الذين خرجوا في 67. أعتقد أن هذا الجيل وصل (إلى تفاهم) نتيجة نهج التصالح والتسامح الذي وجد في الحراك أو في الجنوب. أعني أن الناس أدركوا أنه لا بد أن نتوحد ونتفق.
> ألا ترى غرابة في دعوتكم للوحدة الجنوبية في سياق التنظير للتشطير؟
- (ضاحكا) لم نعد نستخدم "الوحدة الجنوبية"، بل "التلاحم الجنوبي".
> أنتم فقط موحدون ضد الخصوم، عدا هذا فإن كل طرف، حتى داخل تنظيماتكم، يقصي من يقدر عليه، لكأنكم تستعدون لدورة جديدة من الإقصاء تبدأ بإقصاء فكرة الوحدة بين الشمال والجنوب، ولن تنتهي، وصولا إلى كل قرية...؟
- التوحد (هو) في بناء دولة ذات قانون وسيادة في الجنوب. الماضي لا عودة إليه، وسنكون كلنا شركاء في القادم.
> إذاً، أنتم حاسمون في خيار توجهكم باتجاه التشطير؟
- مشكلتنا هي مع النظام السياسي.
> هذا واحد من الاختبارات التي نريد أن نفصل فيها: الحديث عن النظام السياسي يتجه إلى شكل الحكم، بينما الحديث عن الوحدة والحرب والتشطير يتجه إلى هوية الدولة. ألا يعتبر هذا قصورا أو استخفافا؟
- نحن ضد علي عبدالله صالح وحاشيته.
> لكن خطابكم ليس كحركة معارضة لعلي عبدالله صالح. الأحزاب هي التي يمكنها قول ذلك؟
- الأحزاب هي التي خذلتنا بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة (سبتمبر 2006)، كنا ننتظر بدء تنفيذ دعوة محمد قحطان إلى الخروج إلى الشارع، وكان سيكون خروجا وطنيا تحت لافتة التحالف الانتخابي للمعارضة، ليس بالضرورة لإسقاط علي عبدالله صالح، ولكن لرفض طريقة إدارة دولته حتى لتلك الانتخابات، من أجل إعادة ألق الوحدة بالتعددية والتوازن؛ لكنهم خذلونا.
> لا أعتقد أنك تنكر ما يشهده المجتمع اليوم من فرز طائفي ومناطقي. هذا عبث بالأوطان لا يمكن تبريره بمعارضة رئيس؟
- ولماذا نتحمل نحن مسؤولية هذا الفرز؟ دولة يسيطر عليها مجموعة لا تتعدى 2000 نفر يسيطرون على كل شيء، على السلطة، على الثروة، على القرار. دعنا من هذا، دولة ملتزمة لتقاليد إدارة وحكم متخلفة، الوساطة والمحسوبية هي أهم أدوات اتخاذ القرار، مؤسسات ضعيفة وهشة، مع أن الأشخاص الذين يرأسونها أقوياء ونافذون، ولكن لمصالحهم وللمقربين... (هذه الدولة) هي المسؤولة. حين يشعر ابن ردفان أنه مظلوم، وابن الضالع أنه بلا عمل، وابن عدن أن مواطنيته المحلية لا تحترم لأنه ليس ابن شيخ ولا حليف قبيلة...
بدلا من دعوة أبناء الجنوب لقبول هذا خوفا على الوحدة، يجب دعوة أبناء الشمال إلى الخروج إلى الشارع، ورفض تعبئة النظام بأن أبناء الجنوب هم أعداء الوحدة وأعداء أبناء الشمال، وهذا اعتراف ضمني بأن الوحدة مشروع شمالي. نحن نناضل لقضية، ونتمنى أن تتفق معنا قوى الشمال. لقد توحدت ردفان حين انفجرت ثورة سبتمبر، واتجه مناضلوها إلى تعز وحجة لأنهم مؤمنون بالمصير الواحد لأبناء اليمن. ونحن اليوم مستعدون للتحالف مع إخواننا في الشمال لإسقاط النظام الحالي، حفاظا على الدولة والوحدة. وحين نقول: "الإخوة في الشمال" نقصد من هم في المحافظات الشمالية والغربية، أما من هم بيننا من أي منطقة في اليمن فهم شركاؤنا، رغم محاولات النظام تصويرنا لهم بأننا أعداؤهم.
> إلى متى سيتم إبقاء ردفان رهينة الخطاب الثوري الذي يجب أن يوجه إليه النقد بدلا من مواصلته؟
- الآن نحن نناضل نضالا سلميا، يجب أن يحترم هذا النضال، والظروف العالمية تقول هذا. نحن جزء من هذه المعايير، ونتأثر بمحيطنا، سواء كان إقليميا أم دوليا. وهؤلاء الناس الذي كانوا أمس حملة سلاح وأنصار كفاح مسلح، ولديهم طبيعة تنزع إلى حمل السلاح، تحولوا إلى عمل سلمي. في 13 أكتوبر 2007 أتى الناس إلى المنصة (في ردفان) عزلا من السلاح، وأطلق الجنود النار عليهم... لو كان لدينا دولة (تتصرف بحكمة) لشجعتهم وتبنت مطالبهم، بدلا من استخدام العنف الدائم في مواجهتهم.
> "الحبيلين" و"حبيل جبر" تبدوان وكأنهما دولة مستقلة! تشكو من أن الدولة لا تمنحك الحق في العمل، وأعلام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في كل جزء من المنطقة. حتى وهو لا يزال حراكا جماهيريا يعتدي أنصار الحراك على أي صوت مخالف أو معارض. الدولة التي تشكون غيابها أنتم اليوم من يعوق حضورها. كانت دولة الحزب (الاشتراكي) تقرر أحكاما قاسية وتنفذ، اليوم إذا جاء طقم شرطة للقبض على مطلوب لتحول إلى بطل؟
- بالنسبة للحراك فقد تغير الحال كثيرا. نحن الآن نقبل بالتنوع والاختلاف، ولكن لا نريد من الذي يترك المرض الذي نشكو منه أن ينشغل بنا كيف نعبر عن هذا المرض... هذه بلاد كانت مغطاة بدولة تعمل في الأمن والصحة والاقتصاد، فجأة وجدنا أنفسنا دون أي شيء، ومطالبين بدفع ثمن من أجل ما تسمى "دولة الوحدة"، بألاَّ نعمل ولا نشكو ولا نئن... هذا ليس عدلا ولا هو سياسة.
> ردفان التي توحدت قبائلها الأربع حين سمعت بثورة في الشمال وتحركت لمناصرتها من حجة وتعز قادت وتعاضدت مع تحول عربي قومي، ها هي الآن تقود تحولا مناطقيا. ألا ترى في هذا مفارقة غريبة؟
- لا يزال لدينا الاستعداد لعمل نفس الشيء لدعم أي نشاط سياسي ضد السلطة الحالية في أي منطقة في اليمن الواحد... أنتم بس اخرجوا إلى الشارع وسنكون معكم!
> أتحدث عن التعبئة المناطقية ضد دولة الوحدة، والوظيفية ضد العسكر؟
- أتمنى أن يسأل أصحاب القرار أنفسهم هذا السؤال بمسؤولية... لماذا يحدث هذا؟ لا يصح أن يجيبوا قبل السؤال. اسألوا: لماذا هذا يحدث في ردفان؟ وفي الإجابة سيكون الحل لهذه الأوضاع التي نعيشها. وعموما، نحاول التوضيح للناس أن مشكلتنا ليست مع العسكر، بل مع قيادة النظام، وأنت تعرف أن عدد من سقطوا شهداء بلغ 13 شهيدا (المقابلة أجريت قبل حادثة زنجبار)، ولو كانت المسألة مناطقية بإمكاننا تحويلها إلى ثأر وقتل من نريد، ولكن ليس هذا هو هدفنا، هدفنا أكبر من هذا، هدفنا الدفاع عن قضية سياسية، وهذه القضية يجب أن يعبر عنها كل أبناء الجنوب بطريقة حضارية.
وما الذي يضر لو رفعوا علما يرونه رمزا وجدانيا لهم، يتوقون لما حققه لهم من خدمة حينها؟ ثم أليس هذا هو علم الدولة التي وحدتهم كإمارات وأوصلتهم للوحدة اليمنية؟
> هناك حوادث قتل على الهوية المناطقية؟
- نحن نفصل بين أدائنا السياسي في مواجهة السلطة وبين ما يجب في علاقة مؤسساتها بنا كمواطنين خارج العمل السياسي. وللأسف هي لا تقدر هذا حتى الآن، وتعمل على الزج بأدوات الدولة الإدارية في الصراعات السياسية.
> كيف؟
- حين قرر القائد العسكري في محور الضالع- لحج إنشاء مناطق عسكرية جديدة في ردفان، قبل عدة أشهر، قلنا للناس: هذا لا يخصنا كحراك، وإنما هو مسألة تخص المواطنين وأرضهم وحركتهم، وتركنا للمجلس المحلي وللناس التعامل مع القضية، وكنا فقط نساند خيارهم. والشيء نفسه نفعله مع المحكمة ومأمور الشرطة، وهي أدوات حسم هذه القضايا بين الناس، وعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها تجاه أي مشكلة، بدلا من تعقيد الأمور وتحميل الحراك المسؤولية السياسية؛ لأن هذا تهرب من المسؤولية. حادثة "العسكرية" أدنَّاها، وخرج الألوف في مسيرة صامتة بالأعلام السوداء. وكان على السلطة إذا كانت حريصة فعلا على الأمن والوحدة الوطنية، أن تتنازل عن مخططاتها التآمرية وعن استغلال الأحداث، وأن تدير الحادث بأداة أمنية إدارية، وليس بخطاب سياسي.
> من باب التدقيق المهني، الحراك شيء مفتوح، وأنت تحث الناس على تبني خطابك، وإذاً عليك تحمل مسؤولية تصرفهم بناء على هذه القناعات التي ولدتها لديهم. لا يمكن إقناع مواطن بالحراك ثم التنصل عن هذه العلاقة في مواقف ترى أنها لا تخدمك سياسيا؟
- الحراك هو رفع شعار، ومظاهرة، وليس تخريبا واعتداء. وعندما يرتكب أي شخص فعلا شاذا نطالب الدولة بأن ترينا مؤسسيتها وتتحرك في حدود القضية كجريمة جنائية، دون محاولة استغلالها سياسيا.
> نحن لا نتحدث عن المسؤولية الجنائية، بل عن المسؤولية السياسية الناتجة عن التعبئة والخطاب؟
- هل أنت معك وصاية على كل الناس؟ ثم إن الحراك ليس منظومة سياسية فيها جانب تنظيمي. أنا أعرف أنك في الحراك عندما تأتي معي في الميدان، عندما تعبر عن نفس الراية التي أعبر عنها، في حديثك في مقابلاتك في خطابك للناس، ويمكن أن يكون الحراك مخترقا.
> تتحدثون عن التنظيم والقوة، وحين نتحدث عن المسؤولية تقولون إنه ليس لكم جانب تنظيمي؟
- المسألة ليست سجالا. مطلبنا إسقاط النظام، لأنه لا يعبر عن إرادتنا ولا يخدم مصالحنا، وإذا لم يسمع (النظام) هذه المطالب فهو المسؤول عن أي تطورات أو خروج على المسارات الآمنة للحراك.
> كيف إسقاط النظام؟ بأي طريقة؟ لماذا لا يكون المطلوب الدعوة لانتخابات؟
- في صنعاء يناضل السياسيون من أجل تصحيح جداول الانتخابات والنظام الانتخابي، ومن أجل تعديلات دستورية وغيرها... هذه قد جربناها نحن. وحين انتهت حرب 94 كان أول ما فعله المنتصر أن صمم دستورا على مقاسه، لذا لم يعد أمامنا سوى قرارات الشرعية الدولية التي نطالب بتطبيقها ووضع الجنوب تحت الرعاية الدولية، وفك الارتباط سلمياً. الانتخابات تدار بعقلية حربية: ممنوع فوز فلان، ومن يفوز -حتى باسم المؤتمر- إن كان من الجنوب لا يخرج من التهمة كلما قال رأيا مخالفا. أما الذين من خارج المؤتمر فهم أصلا أعداء من قبل أن يفوزوا.
> هذا رأيك أنت. الجنوب اليوم لديه رموز وممثلون بالانتخابات في الدولة ومؤسساتها.
- إذا فلتتركنا دولة الوحدة نعمل لرؤيتنا السياسية، وسترى أن كل أبناء الجنوب، بمن فيهم أولئك الموجودين في أعلى المناصب، سيشكلون قيادة للجنوب موحدة ومتنوعة ورشيدة، يمكن، بعد ذلك، أن يجدها الشماليون نموذجا ليفعلوا نفس الشيء.
> تراهنون على أخطاء السلطة الحالية؟
- لا نريد أن نراهن. فلتعدل هي -إذاً- عن ممارساتها وسلوكياتها ورؤيتها ومنهج إدارتها، وسنكون جميعا بخير.
> تتحدث عن قيادة الجنوب قبل 94، هل تعتقد أن الاصلاحي في الجنوب يتعامل مع علي سالم البيض باعتباره رئيسا له؟
- نحن نتحدث عن وضع ما قبل الحرب. وعلي سالم البيض كان رئيسنا، وهو من قادنا إلى الوحدة، والآن نقول لهم: "اللي شبكنا يخلصنا".
> أنت كقيادي في الحزب الاشتراكي ترى، إذاً، أن البيض هو الأمين العام الشرعي للحزب؟
- لا.
> كيف إذاً تريد أن يتعامل معه الآخرون كرئيس شرعي وأنت لا تراه كذلك بالنسبة لحزبك؟
- هو يعاني مثلما نعاني نحن. أنا في البرلمان منذ ست سنوات، لا يعطونك الفرصة لتتكلم، وإذا أعطوك الفرصة عادوا ليتهمونك بالتخريب بدلا من أن يستمعوا لك. النظام هو المسكون باستخدام الوحدة لقمع معارضيه. يعني لو كان النظام صاحيا لكان عالج هذه القضايا، لكن الآن يوجد متقاعدون يقطعون رواتبهم، لماذا؟ يقول لك: تعال استلمه من الاستخبارات! (ثم) كم حضرت فعالية؟ فين الخبجي؟ هل هذا يعالج المشكلة؟
> كيف تقيّم دور السلطات المحلية بشكل عام؟ ولماذا لا تتبنون خطابا محليا يحقق مصالح مباشرة للناس ويحمي الوحدة ويطور الدولة؟
- السلطة المحلية موجودة في الإعلام فقط. عملياً المحافظ لا يستطيع أن يحدد طريقته في إدارة محافظته. اليمن كلها (تُحكم) من صنعاء، لذا لا يجدي سوى معارضة صنعاء. ( نائب الرئيس) عبدربه منصور هادي نفسه لم يستطع الافراج عن طلبة اعتُقلوا بالاتهام، لساعات كي يختبروا ويعودوا للسجن.
> ذكرت المحاور العسكرية، والآن السلطة المحلية، لماذا، إذا، لا يتجه النضال مباشرة نحو هذه النقاط، بدل الحديث الفوضوي عن التمايز والتشطير؟
- الموجود في اليمن الآن هو أسلوب وثقافة ما كان سائدا في الشمال في كل شيء. ولهذا فمدخل الحل هو الاعتراف بأزمة في الجنوب، ومن هنا سنتحدث عن الاختلالات المختلفة. القطاع العسكري حوَّلَ متحف ردفان إلى مخزن للكُدم، ولم يحترم نصب راجح بن غالب لبوزة. معسكر 14 اكتوبر في العند تحول إلى معسكر 7 يوليو، تاريخ المؤسسات اليمنية اليوم يبدأ فقط من صنعاء، أما عدن والإرث الجنوبي لليمن فقد كدنا ننساه، لولا الحراك الجنوبي.
> الأخطاء الاجتماعية الداخلية لن نصل إلى حلها لو حمّلناها فقط على السلطة القائمة. الذي فعل ذلك هم المنتصرون، وهناك إرث من الأخطاء أنتجها أداء الحزب الاشتراكي اليمني؟
- في الأخير أنت راعي الدولة المسؤول عن كل شيء، يعني مثلاً: كان واحد في الحزب الاشتراكي... أنت يُفترض أنك مسؤول عنه، تراعي هذه الأمور، إذا أنت رئيس دولة وتشعر بهذه الأشياء اعمل تصحيحا وغيِّرْ. ليس المهم من صنع الأخطاء، وتحديد السبب لا يقدم ولا يؤخر، نطالب بحلها، وإذا كانت دولة الوحدة القائمة غير قادرة على حلها فلتترك الأمر لنا وسنحل مشكلات بلادنا بأنفسنا.
> لكن الحراك لا يعبر عن هذه النقاط؟
- الحراك نشأ بعد أن يئس الناس من كل الأدوات، وليست مهمته إعادة استخدام ما لم ينفع، والدولة الراهنة لم تعترف بنا ولا بمطالبنا.
> لكن هذه لا يعبر عنها بمثل النشاط الحراكي. اليمن تحتاج تغييرا عميقا يقبل بالتنوع. حتى الحراك اليوم يريد أن يقول إن الجنوب كله واحد، وأن عدن وردفان لهما مطالب واحدة، وأن المشكلة فقط في صنعاء ويريم؟
- هذا النظام هو الذي أوصلنا لهذا.
> الحراك في خطابه ذو نزعة ريفية، وليس حراكا مدنيا، ولهذا هو عصبوي، ولا وجود فيه للمصالح الاقتصادية ولا للمرأة ولا لقضايا التنمية، ما يعني أنه لن ينجح في مسعاه، ولكنه يؤثر في الوعي الاجتماعي للناس تجاه الوحدة؟
- هذا الكلام أنت تقوله، يمكن تقوله من خلال جلوسك مع شريحة معينة. الحراك يتطور، والجميع لهم نفس المطلب. ولو سألت "عدن" ستجد أن مشكلتها هو في القمع الأمني، وإلا فمطلبها هو مطلب ردفان.
> ربما عدن تحن إلى أفضل فتراتها تحت إدارة بريطانيا، وهي الإدارة التي قادت ردفان الثورة ضدها؟
- عدن مدينة تبحث عن الأمل، عن الحرية، عن النظام، الآن يجي لك الساحل مع الجنبية يخزن جنب الأسر.
> معالجة هذا الموضوع لا تحتاج حراكا مناطقيا.
- وإذا ظل النظام يكابر يمكن أن تنشب حرب أهلية. الآن يوجد اندماج، توجد مصالح كبيرة لأبناء الشمال في الجنوب. الآن الدولة تحشد القبيطة، تتمنى أن تخلق "حراك شمالي" لكي يتضارب المواطنون فيما بينهم.
> في المحيط الدولي، الحراك يتحول إلى واحد من أهم أسباب دعم النظام الذي تقولون إنكم تريدون إسقاطه؟
- تقصد يدعمونه لكي يعمل ضد الحراك.
> لا، ليس ضد الحراك، فالعالم يدعم دولة ضد منشقين.
- هناك قرارات شرعية دولية.
> تتحدث عن دولة اسمها "الجنوب"، قانونياً ليس هناك من يمثلها، جزء كبير منها انتهى بالوحدة في 90، وجزء في 94 لصالح دولة "الجمهورية اليمنية" التي يمثلها النظام السياسي القائم ورئيسه المنتخب؟
- نحن لا نعول على الخارج كثيرا. والأنظمة العربية حالها من بعض، هي فاسدة وفاقدة للشرعية. لكننا في النهاية حركة شعبية تفرض نفسها، بقوتنا ووحدتنا، والعالم لديه مصالح في الجنوب، حيث أكبر شاطئ في المنطقة.
> إذاً، قد تتحول أداة لأي طرف خارجي يختلف مع صنعاء؟
- الجنوب كدولة مذكور كشريك مستقل في دولة الوحدة، عبر قرارات مجلس الأمن في يوليو 94 التي تحدثت عن أطراف متنازعة، وهذا هو الجانب القانوني. نحن نعمل في السياسة لتفعيل هذا التصور القانوني الدولي. نحن طرف، سواء لاستمرار الوحدة أم لفك الارتباط. الذي يحدد ذلك ليس نحن، بل تصرف السلطة في صنعاء.
> أنت ومجاميع أخرى تعملون على شرعية دولة ما قبل 1990، ولكن هذا ليس رأي أطراف فاعلة أخرى؟
- نعمل على شرعية قرارات مجلس الأمن.
> هناك أطراف جنوبية واجهت هذه الشرعية في 94؟
- تصرفات النظام القائم تعيدهم إلينا واحدا واحدا. لديك طارق الفضلي مثلا، وقد ترى عبدربه منصور هادي، هو يحمل مسؤولية الإدارة الأمنية أمام الإعلام، لكنه لا يستطيع الإفراج عن معتقل واحد.