إن ما تم اكتشافه مؤخرا من موقع لتخصيب اليورانيوم في مدينة قم الإيرانية قد دفع إلى التشكيك مرة ثانية في النوايا السلمية لبرنامج إيران النووي. فهل يمكن تفسير الأمر على أن بوادر التعاون الأخير من جانب إيران تعد دليلا على تحول في النوايا الإيرانية، أم أن هذا التعاون هو ضرب من التقية السياسية التي يراد منها تمكين طهران من كسب بعض الوقت ريثما يتمكن الإيرانيون من تطوير برنامج الأسلحة النووية الخاص بهم؟
يقول ماكس فايبر في عمله الرائد: إن الأخلاقيات التي تنطوي عليها الديانة السائدة في المجتمع يمكن أن تسهم في تشكيل عوالم أخرى من السلوك داخل هذا المجتمع. وبالرغم من أنه كان يشير إلى الأخلاق البروتستانتية والروح المسيطرة على الرأسمالية، فإن السلوك الإيراني الذي شهدناه مؤخرا يوحي بأن هذا المبدأ يمكن تطبيقه على سياقات أخرى. ويثير العرض المسرحي الذي قامت به إيران مؤخرا فيما يتعلق بشرعية وجود منشأة تخصيب اليورانيوم الخاصة بها في مدينة قم، إمكانية فهم لعبة إخفاء برنامج المنشآت النووية التي تلعبها إيران مع الغرب باعتبارها مقاربة تم استقاؤها من مبدأ "التقية" عند الشيعة.
وينطوي المذهب السائد للشيعة، وهو الشيعة الإثنى عشرية، على مفهوم التقية كوسيلة مقبولة لحماية حياة أولئك الذين يخشون من التعرض للأخطار نتيجة الجهر بممارسة معتقداتهم الدينية. وهكذا تؤدي التقية إلى خلق حالة من الخطر الوجودي الذي يتهدد الإنسان ولا يمكن اتقاؤه إلا من خلال إخفاء معتقداته وأفكاره وقناعاته.
ولطالما أصرت إيران على اعتبار وصول إسرائيل إلى امتلاك أسلحة نووية خطرا يهدد وجودها. وفيما وراء ذلك، ترى طهران أن احتكار امتلاك الأسلحة النووية من جانب فئة منتخبة من الدول هو أمر يخلو من الإنصاف، وعلى ذلك يتعين على إيران أن تكون قادرة على اتخاذ التدابير التي تقربها من إمكانية الوصول إلى هذه الأسلحة على قدم المساواة مع إسرائيل. ومع ذلك، تنكر إيران أن منشآتها ذات الكفاءة النووية العالية يراد منها تصنيع أسلحة حربية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد قام قادة الجمهورية الإسلامية بإيقاف برنامج للأسلحة النووية في عام 2003. وقد حدث هذا بالرغم من وجود أدلة متزايدة من جانب المخابرات البريطانية والفرنسية والأمريكية والإسرائيلية تفيد بأنه إذا ما كان البرنامج النووي قد توقف بالفعل، فإنه قد تم استئنافه منذ ذلك التاريخ.
ماذا نصدق؟
ونجد أن المزاعم الإيرانية تناقض نفسها، بل والأهم من ذلك أن الدليل الذي عثرت عليه وكالات الاستخبارات الدولية يفيد بأن الهدف الكامن وراء المنشأة الواقعة في مدينة قم المقدسة هو في نهاية الأمر هدف تحكمه توجهات تسليحية. ويزعم التقرير الأحدث والأكثر جدلا الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعنوان " الأبعاد المحتملة للبرنامج النووي الإيراني أن " الهدف من منشأة قم هو تطوير رأس نووي يتم إطلاقه باستخدام النظام الصاروخي شهاب 3 . ويذكر التقرير أن صواريخ شهاب-3 المملوكة لإيران قادرة على استهداف الشرق الأوسط وأجزاء من أوروبا. وقد أشارت المزيد من الأبحاث إلى أن إيران قد قامت بالنظر في إيجاد آليات لتشكيل اليورانيوم المخصب على هيئة أشكال تشبه الحربة، وهي قدرة ذات جدوى محدودة خارج نطاق التكنولوجيا العسكرية. وهكذا فإن كل هذه الدلائل في مجملها قد أدت إلى التشكك في مدى صدق النوايا السلمية لإيران، على الأقل فيما يتعلق بالمفاعل الذي تم اكتشافه مؤخرا.
لقد بات واضحا لدى الإيرانيين من جراء الضغط الدولي على إيران أن العالم ليس لديه أدنى استعداد أو تقبل لأن يشهد تطوير إيران لقدرات نووية. ومع كثرة دواعي القلق، يعتبر الدافع الرئيسي للقلق متمثلا في أنه بينما قد تعي إيران كدولة مغبة نشر مثل هذا النوع من الأسلحة، فإن الاضطراب الذي تموج به الدولة الإيرانية ووجود علاقات تربطها بكيانات لا ترقى إلى مرتبة الدول قد يكون من شأنه وضع القدرات النووية الإيرانية في أيدي قوى أقل تعقلا.
لقد ظلت إيران تلعب على أحبال الضغوط التي يمارسها النظام الدولي من جهة، ثم على وتر رغبتها في تطوير قدرات نووية من جهة ثانية. وإذا ما أخذنا في الاعتبار الضعف المتنامي الذي يحاصر النظام الحالي، فستبدو إيران أكثر حرصا على اكتساب سلاح قد يجعلها تبدو أكثر قوة.وبالنظر إلى الاحتمالات الراهنة، فقد بحثت إيران عن طريقة لكسب الوقت ريثما تسير قدما في برنامجها النووي. ولكن هل لنا أن نفسر الأمر على أن الهوية الدينية للإيرانيين قد زودتهم بحل ناجع يحفظ لهم ماء الوجه على الصعيد الدولي، ويتيح لهم تطوير سلاح تدعي إيران أنها بحاجة إليه من أجل سلامتها؟
وإذا ماكانت إيران بالفعل بصدد تطبيق نوع من التقية السياسية لكي يتيح ذلك للنظام فرصة تطوير قدرات نووية، فإن ماتم مؤخرا من اكتشاف لموقع تخصيب اليورانيوم في قم، من المرجح أنه قد زاد هذه الجهود تعقيدا، على الأقل في الوقت الراهن. لقد فسر العالم غياب الشفافية من جانب إيران، بالإضافة إلى تنامي الأدلة التي تثبت تمسك الإيرانيين بإنتاج سلاح نووي، على أنه بادرة على أهمية ممارسة المزيد من الضغوط والرقابة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن سياسة التقية لن تصبح ذات ثمن باهظ فحسب، من جراء العقوبات والعزلة الدولية، بل سيثبت أنها مستعصية على التطبيق.
الغبار النووي: التأثير على عملية التقارب
في السنوات السابقة، كان تطبيع العلاقات مع إيران من أولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة وحلفائها. ولكن بالرغم من ذلك فإن التطورات الأخيرة قد زادت من العقبات التي تقف في طريق التقارب. فالمحادثات التي جرت في جنيف بين إيران ودول 5 + 1 (أعضاء مجلس الأمن الدائمين وألمانيا) قد أتاحت أمام إيران الفرصة لتحسين العلاقات السياسية والاقتصادية. وتضمنت المحادثات المشتركة مناقشات حول الأمن الإقليمي والتعاون في مجال التكنولوجيا النووية المدنية. لكن مع ذلك، أصرت إيران على موقفها المعارض، والذي تمثل في إجرائها اختبار لصاروخ شهاب 3 في 28 سبتمبر، مما أظهر بوضوح الأثر السلبي للتطورات الأخيرة على عملية التقارب.
ووفقا لما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز في المقال الذي نشرته في الرابع من أكتوبر، فقد وافقت الدول الست على إستراتيجية ثنائية المسار للشراكة مع إيران كلما كان ذلك ممكنا. ووضعت بديلا يتمثل في اتخاذ تدابير أكثر حزما إذا ما فشل النهج الأول. و في حين كان صدور مثل هذه التصريحات متوقعا من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، إلا أن العالم كان يراقب باهتمام بالغ ردود الفعل الروسية والصينية باعتبارها وسيلة لقياس مدى تأثير السرية الإيرانية على العلاقات الدبلوماسية الدولية.
فقد فشلت المعلومات الاستخباراتية السابقة حول الأهداف العسكرية للبرنامج الإيراني في إقناع روسيا والصين في الماضي بأن إيران تشكل تهديدا للاستقرار الدولي. ولكن مفاجأة اكتشاف منشآت نووية في مدينة "قم" الإيرانية قد غيرت من موقف موسكو. ففي مقال نشرته وكالة رويترز الإخبارية ذكر الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف أن "هذه الاكتشافات تعد مصدر قلق بالغ".
و بالرغم من أن رد فعل الصين كان أقل وضوحا، فإن العقوبات المقترحة تضمنت فرض حظر على تصدير المنتجات البترولية المكررة إلى إيران. ومثل هذا الحظر من شأنه أن يكون له تأثير خطير على العلاقات التجارية بين الصين وإيران. ونظرا لضرورة اشتراك الصين في اتخاذ مثل هذا التدبير، فقد أصبح من الواضح بشكل متزايد أن لعبة الاستغماء التي تلعبها إيران مؤخرا قد ألهمت روسيا والصين بالموافقة على فرض عقوبات اشد صرامة من تلك المعمول بها حاليا.
محادثات جنيف: نقطة تحول أم محاولة للتضليل؟
و قد وافقت إيران بالفعل خلال الاجتماع الذي عقد في جنيف في الأول من أكتوبر على السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية للوصول إلى فحص المنشآت النووية الموجودة في مدينة قم. و قد حددت الوكالة موعدا لزيارة المنشآت في الخامس و العشرين من أكتوبر. وفى الإسبوع التالي للاجتماع الذي عقد في الأول من أكتوبر، تمكن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محمد البرادعي، من زيارة طهران لبحث إمكانية فحص هذه المنشآت.
و بالإضافة إلى هذه التدابير التعاونية، فقد وافقت إيران أيضا على نقل الجزء الأكبر من وقودها النووي إلى دول أخرى لتخصيبه. وقد وصف المحللون هذه الخطوة بأنها خطوة مفاجئه، إلا أنهم رحبوا بها، حيث إنهم يرون أنها ستقلل مؤقتا من قدرة طهران على صنع قنابل نووية.
وقال محمد البرادعي خلال زيارته لإيران:"إنني أرى أننا ننتقل من مرحلة المواجهة إلى مرحلة الشفافية والتعاون. و لكنني ما زلت، بطبيعة الحال، أدعو إيران إلى أن تظهر المزيد من الشفافية بقدر الإمكان." و تعد هذه الدعوة إلى الشفافية التي يرددها المجتمع الدولي دليلا على أن العالم يرى أن إيران لا تسعى في الحقيقة سوى للحصول على التكنولوجيا النووية من أجل استخدامها في أغراض الطاقة.
و قد أسفر تعاون إيران عن تقييم إيجابي للمحادثات من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا. إلا أن كلتا الدولتين قد أكدتا أنه بالرغم من أن هذه المحادثات قد تكون دليلا على استعداد إيران للتفاوض، إلا أن كلتيهما لا ترغبان في "إجراء المحادثات لمجرد إجراء المحادثات فقط" . وقد أصر السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة على أن "إيران أمامها فترة محدودة من أجل التوصل إلى تسوية شاملة بشأن برنامجها النووي".
و بالرغم من أهمية الخطوات التعاونية التي أظهرتها إيران، فإنه لا ينبغي أن تعتبر دول 5 + 1 مسالة التعاون الإيراني أمرا مفروغا منه. فوجود المنشآت النووية في مدينة قم الإيرانية يعد دليلا واضحا على فشل الجهود الأمريكية في ثني إيران عن مواصلة برنامجها النووي من خلال الوسائل الدبلوماسية. و بالرغم من ضرورة المشاركة، ينبغي لدول 5 + 1 أن تأخذ في اعتبارها توصيات مايكل ليفي. فقد أكد مجلس العلاقات الخارجية بشأن تصدير الانتشار النووي على أهمية السماح بوجود بديل للعقوبات. فقد أوضح أن العقوبات قد أثبتت حتى الآن عدم فعاليتها. ولا ينبغي أن تنسى دول 5 + 1 أن إيران قد تم ضبطها على حين غرة، و لم تكن قد أخذت حذرها بعد، والكثير من التعاون الذي تظهره الآن يمكن أن يكون جزءا من عملية خداع نووية إستراتيجية كبرى.