arpo28

أزمات اليمن بين إجراءات السلطة وآليات المعارضة

تستحق الاوضاع الحالية كل هذا القلق والتوتر والاضطراب، وليس صحيحا ما يقال بأن هناك تضخيم اعلامي للاحداث التي تجري في اليمن. والصحيح ان التضخيم الاعلامي هو ما تسعى اليه السلطة ومصادرها المختلفة،

، خصوصا حين يتعلق الامر بتنظيم القاعدة، وعندما تكون الظروف مواتية لجلب الدعم المالي للحكومة فقط.

وعندما تنقلب هذه الجهود الحكومية إلى الضد، تسارع المصادر الرسمية إلى القاء التهمة على الآخرين. وفي نتائج مؤتمر لندن الاخير واستحقاقاته الكثيرة، دروس وعبر لم تستقر في الاذهان بعد، كما لا يزال الطريق إلى حصد النتائج شاق وطويل ومليء بالتباينات والرغبات المتقاطعة.

لكن ما يبدو واضحا حتى الآن، هو أن المال هو العنصر الوحيد الحاضر دائما في تفكير الحكومة، ولأجله جرى التلاعب ببعض القضايا والملفات الوطنية حتى تراكمت المشاكل والازمات لتتخذ تطورات مقلقة للجيران وللمجتمع الدولي. وعندما دقت ساعة "بيج بن" في لندن، أخذت الحكومة تعيد النظر في كلفة الارباح والخسائر المتوقعة، ولهذا أصدرت اشارات مربكة للمراقبين.

فهي من ناحية، رحبت على عجل بمؤتمر لندن، وأشادت كثيرا بأهمية انعقاده. لكن مصادرها المتعددة، راحت كغيرها من مصادر عربية، تثير التحذير من مسألة التدخلات الخارجية. وعدت البيانات وبعض الفعاليات والتصريحات التي نقلتها المصادر الرسمية، كرسائل لمؤتمر لندن، وعكست المخاوف التي تنتاب السلطة وهواجسها الخاصة من فرض املاءات وشروط قد لا تتوافق مع رغبة الدعم بالمال فحسب.

وهنا تحديدا، يمكن فهم المعنى الرسمي من مسألة التضخيم الاعلامي الذي يرمى في ساحة الآخرين، وسواء تعلق الامر بالقاعدة اوغيرها من القضايا والازمات الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها البلاد. بيد أن البعض يعرف في حالات أخرى، التقليل الحكومي من قيمة المشاكل والازمات، حد تعليق قائل بأن علامات القيامة الكبرى لو بدت للحكومة في مثل تلك الحالات، لقللت وهونت من آمرها.

ويلاحظ المتابع للتصريحات الرسمية تناقضات صارخة تمتلئ بها وسائل الاعلام المحلية والخارجية. ففي الاسبوع الماضي فقط، يمكن الاشارة إلى تصريحين رسميين على خلفية ظهور الرجل الثاني في تنظيم "قاعدة الجهاد في الجزيرة العربية" سعيد الشهر في تسجيل صوتي جديد، مهددا بالسيطرة على مضيق باب المندب. التصريح الاول لمصدر في وزارة الداخلية، وصف فيها تهديدات القاعدة ب"الفقاعة"، بينما صرح وزير الخارجية الدكتور ابو بكر القربي، مؤكدا ان التهديدات يجب آخذها على محمل الجد. وقال ان " القاعدة تمثل خطرا لا يهدد امن اليمن وحده بل يهدد الامن والسلام العالميين".

ويتسائل المرء، هل اليمن الحالية، كما تبدو للمراقب في الداخل والخارج، هي الصورة التي تمناها بعض المسؤولين، وقد عملوا على بلوغها بطريقة أو بأخرى؟ انها حالة مربكة بالفعل، وكما تبدو الاوضاع مضطربة في الواقع، تضطرب الوسائل الاعلامية بقراءات وتحليلات متعددة.

في الاسبوع قبل الماضي، كتب عبد الرحمن الراشد في جريدة الشرق الاوسط يقول " إذا كنا نظن أن أفغانستان بلد المتناقضات السياسية فإن اليمن أعجوبة المتناقضات، هناك لا تعرف الحليف من العدو، ولا تميز الحكومة من المعارضة، ويصعب أن تعرف كل فريق أين يقف، ومن يشتري ومن يبيع لمن؟".

وكان بذلك يشير إلى جزيئة واحدة من تناقضات المشهد اليمني والخاصة بحادثة اعتقال فارس مناع والذي اختاره كعنوان لمقاله الناقد ب"تاجر السلاح اليمني"، مستغربا فيه الطريقة اليمنية من ايكال مهمة الوساطة بين السلطة والحوثيين في وقت سابق إلى تاجر الاسلحة.

وفي نفس الوقت أورد تصريحات أخيه حسن مناع المدافعة عنه، رغم منصبه الرسمي كمحافظ لمحافظة صعدة، وذلك قبل يوم واحد من صدور قرار جمهوري قضى بتنحية الاخير من منصبه وتعيين طه الله عبد الله هاجر بديلا عنه، وهو القرار الذي ارجع في بعض أسبابه إلى ذات المقال الناقد.

ومن المؤكد أن الراشد وغيره من مراقبين، ستتملكهم الحيرة والدهشة أكبر اذا علموا لاحقا ان قضية الاعتقال والعزل لاعلاقة لها بالاصلاحات الحقيقية، وسوف تزيد حيرتهم بعد حادثة رفع الشيخ طارق الفضلي للعلم الأمريكي في فناء منزله بمدينة زنجبار، وذلك في محاولة منه للرد على الاتهامات الرسمية له باقامة علاقة مع عناصر تنظيم القاعدة بناء على خلفيته الجهادية السابقة في افغانستان، كما قال.

************( مثلث الشيطان)

لكنها السياسة التي لا تعرف مبدأ الثوابت وتؤمن بالمتغيرات والتحولات المتناقضة. وفي اليمن، تبدو متفردة ومستعصية على الفهم نظرا لسلوك السلطة أو النظام القائم والذي يشبه "مثلث برمودا" المزعوم أو "مثلث الشيطان"، حيث تقول الروايات بأن السفن والطائرات تختفي فيه دون ان يقدم تفسيرات واضحة لما يجري. وهكذا يبدو اليمن حاليا، فعلى رغم اتفاق الجميع على اهمية دعمه والحوول دون فشله على اعتبار ان عدم استقراره أكثر مما هو حاصل الآن سيؤدي إلى مخاطر تتعدى دول الاقليم.

الا ان الاختلاف ومصدر حيرة المجتمع الدولي يتمركز حول طرق ووسائل وكيفية الدعم. فمن ناحية، يعتبر التفكير بكيان آخر يعتد به غير النظام القائم أمر غير وارد في تفكير الكثير من المفكرين والباحثين الغربيين بسبب غياب البدائل المناسبة.

وأدرك الأمريكيون والبريطانيون قبل غيرهم بأن التدخل المباشر مكلف للغاية، كما أن الضغط على النظام الحالي بقوة لتنفيذ اصلاحات مطلوبة، غير مجد أيضا الا بالتعاون معه، والسبب قد لا يعود إلى مهارة تحسب للنظام بقدر غياب دور المعارضة والمسائلة من قبل جماعات الضغط المدنية.

وفي حين، وجد العالم الغربي والشركاء الاقليميين انفسهم مجبرين للتعامل معه، فان الحديث عن اجتثاث الفساد والتأكد من طريقة انفاق الاموال وتطبيق الاصلاحات المطلوبة، مازال طويلا وشاقا في نظرهم. وللمانحين تجربة سابقة في لندن 2006م، حيث ترى مصادر دبلوماسية وغربية أن الفساد في اليمن حال دون وصول تعهدات بـ4.7 مليار دولار.

ورغم خروج مؤتمر لندن الاخير بتعهد حكومي يمني بالعمل على تطبيق الاصلاحات وبدء محادثات بشأن برنامج مع صندوق النقد الدولي. تقول بولين بيكر رئيسة صندوق السلام الذي يتخذ من واشنطن مقرا له "هذه خطوة للامام لكنها في الحقيقة لا تتعامل مع قضية انتشار الفساد على نطاق واسع .. هذا أساس الخلل في الدولة اليمنية ويجب أن يكون جزءا من جدول أعمال للاصلاح اذا كانت الدولة ستبدأ تتجه نحو الاستقرار."

وترجع المصادر الغربية بقاء الرئيس علي عبد الله صالح في الحكم لثلاثة عقود إلى تلاعبه بشبكة علاقات ومحسوبية معقدة للاحتفاظ بدعم القبائل القوية والنخبة بالجيش وقوات الامن.

وبالتالي، يؤكد تقرير نشرته وكالة "رويترز" للانباء بأن اقناعه بذلك سيكون صعبا. ويرى التقرير بأن اقناع الرئيس علي عبد الله صالح بحل تلك الشبكة ووقف الاشكال الفجة للكسب غير المشروع من بين أصعب التحديات لجماعة اصلاحية دولية جديدة باسم "أصدقاء اليمن" من المقرر أن تبدأ عملها في مارس القادم.

ويقول المحلل السياسي عبد الغني الارياني، أن اعادة الاستقرار تتطلب الية للتنسيق من هذا النوع بين المانحين الغربيين والخليجيين خاصة السعودية. مضيفا "بهذا أصبح العالم الان حليفا لليمن في التعامل مع تشوهات هيكلية عميقة في نظامه السياسي. هذه فرصة يجب الا تهدر."

ومع ذلك، يخلص التقرير إلى أن "أزمات اليمن كبيرة وستستغرق أي جهود للانقاذ عقودا وهو اختبار حقيقي لقدرة المانحين على الاستمرار".

ولاشك أن هذه الازمات تعكس في جزء منها عجز المعارضة الممثلة في احزاب اللقاء المشترك. وتبين حالة التيه التي وقعت فيه جغرافيا الوطن بين اجراءات سلطوية شكلية تنمي الفساد وبين آليات معارضة عاجزة عن التغيير أو تقديم نفسها كبدائل عن الحوثيين أو الحراك الجنوبي على أقل تقدير.

يمتلك الحوثيون مشروعا خاصا بهم ، كما أن لهم مطالب وحقوق يمكن استيعابها أو احتوائها في نظر كثيرين. الا ان المشروع الحوثي لا يغطي الوطن اليمني بكامله. وبينما اختاروا النهج المسلح لتحقيق مشروعهم، يكاد "الحراك الجنوبي" أن يفعل مثلهم، وما يجمع بين الاثنين ان كلا المشروعين لا يلبي رغبات السواد الاعظم من اليمنيين.

**********( مشروع وطني دون مستوى التحديات)

وفي المقابل، تمتلك احزاب اللقاء المشترك مشروعا وطنيا يستوعب الجميع من المهرة إلى صعدة، ولدى المعارضة توصيفات دقيقة للازمات التي تمر بها البلاد، كما تشير تجربة الائتلاف بين هذه الاحزاب المتنافرة آيدلوجيا إلى دافع وطني في منشأ التجربة. ورغم الجانب السلمي في الاداء، لكنه تحول مع الوقت إلى روتين ممل، ومعظمه يقتصر على البيانات الخطابية في المواقف العامة والقضايا المركزية.

ويلخص متابعون لاداء المعارضة وصف العجز الحاصل بالقول ان "الاداء لا يرتقي إلى مستوى الاحداث أو التحديات التي تمر بها البلاد". وتدرك المعارضة أنها لو قررت الضغط أكثر على النظام الحالي لحصدت نتائج ايجابية، مثلما فعلت في قضية تأجيل الانتخابات البرلمانية، حيث أجبرت السلطة على التراجع عن اجراء الانتخابات بشكل منفرد.

ولاتزال تحتفظ بجماهير عريضة، وأن تحركها القوي وبطريقة سلمية في الشارع جدير بلفت انتباه الخارج اليها كما حدث في "انتفاضة نوفمبر" العام قبل الماضي. والخلاصة التي يستنتجها البعض، بأن ثمة وسائل وآليات سلمية للنضال وانتزاع الحقوق عطلتها المعارضة ولم تفعلها، كما تركت الساحة نهبا لاخرين أقل عددا وعدة.

وحتى في طريقة تعاملها مع استحقاق لندن الاخير، ثمة من يرى بأنها راحت تعيد نفس اشكال الخطاب الموجه في الداخل بعد ان اثارت حول المؤتمر الشكوك والاتهامات بالوصاية الدولية على اليمن، ثم انتقدت دعمه المعلن للحكومة، وكأنها كانت تترقب منه ان يتبنى بياناتها الموجهة نحو السلطة أو الاشارة اليها صراحة في محاولة لتكريس مفهوم الجأر بالشكوى وانتظار الاقدار التي تجود بها تطورات الاحداث.

وبخلاف رؤية المعارضة، يرى مراقبون ان مؤتمر لندن مثل فرصة للجميع يمكن الاستفادة منها، وقد تضمن قائمة طويلة من الاستحقاقات، ومثلما أعطى الجانب الرسمي اليمني دعمه المعلن، فقد طالب الحكومة اليمنية بتنفيذ حزمة كبيرة من الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي من بينها بالطبع عدم تجاهل مسألة تسوية الملعب السياسي بين السلطة والمعارضة.

ويعتقد إلى حد كبير ان من ضمن استحقاقاته الكثيرة، تهدئة جبهة الحرب في صعدة والجنوب، وقد بانت بوادر هذه التهدئة خلال الايام الماضية في صعدة، وتتجه البوصلة حاليا نحو الجنوب. كما تطول قائمة الاستحقاقات لتشمل اجراءات لمحاربة الفساد والحد من تجارة السلاح.

وأسوأ هذه الاستحقاقات، هو ما أثمر سريعا في الشق الاقتصادي والمتمثل بجرعة المشتقات النفطية الهادئة. ويخشى مراقبون اعلاميون من لجوء الحكومة للشكليات فيما يخص الاصلاحات الحقيقية، وتحميل المواطن اليمني أعباء الاتفاقات الدولية التي في صالحها.

ويبقى القول ان المجتمع الدولي والشركاء الاقليميين تدفعهم مصالهم الخاصة لبحث جهود الاصلاح في البلاد والتي قد تلتقي وتفترق مع مصالح اليمنيين عموما، وطالما كان الآمن والاستقرار هو الهاجس والمصلحة الغربية والاقليمية، فهو المطلوب للجميع.

لكن الحل يبقى بيد اليمنيين انفسهم، لأنه ليس على الاطراف الخارجية الدخول في التفاصيل الدقيقة للمشاكل والازمات اليمنية خصوصا في ظل التباين حول آلية وتنفيذ الاصلاحات المطلوبة.

وربما اقتضى الامر في محطات معينة وعند التقاء مصالح النظام مع مصالح الخارج، التضحية بمصالح اليمنيين. لكن في حال تقاطعت المصلحتين، فان المطلوب من الطرف الاخير المساعدة في الضغط على النظام ودفعه للاستجابة لبعض الاصلاحات، والا فلننتظر تضارب الاردادات وتقاطع المصالح تفعل فعلها السابق، ونحصد نحن نتائج انعدام الثقة بين الشركاء المفترضين.

زر الذهاب إلى الأعلى