يوم 30 يوليو 2009 سقطت طائرة “إيرباص” اليمنيّة قبل لحظات من موعد هبوطها في “جزر القمر” وابتلعتها مياه المحيط الهندي. هلك كلّ ركّابها ولم تنج إلاّ فتاة في الثالثة عشرة من عمرها بعد أن أمضت تسع ساعات في ليلة ظلماء تتقاذفها أمواج المحيط الهندي وهي ممسكة بقطعة عائمة من بقايا حطام الطّائرة اليمنيّة المنكوبة إلى أن انتشلتها فرق الإنقاذ.
بهيّة بكّاري التي فقدت في هذه الرّحلة المشؤومة أمّها التي كانت برفقتها أدلت بعد ستة أشهر من الحادثة بشهادتها عن المأساة المروعة التي عاشتها في كتاب صدر هذه الأيّام باللّغة الفرنسيّة عنوانه: Moi Bahia La miraculée “انا بهيّة الناجية من الموت”، وقد ساعدها في إنجازه صحفي فرنسي.
أنجب التلميذات
تقول: “نعم، إني أشعر بأنّ الله كتب لي حياة ثانية، وعندما سيصبح لي أبناء سأروي لهم كيف أنّ حادث سقوط الطّائرة قد غيّر حياتي وقلبها رأسا على عقب”.
كانت بهيّة تعيش مع والدها ووالدتها وإخوتها في فرنسا التي ولدت وترعرعت بها، فهي تنتمي إلى عائلة مهاجرة، ولأنّ نتائجها المدرسيّة كانت ممتازة، ولأنها كانت أنجب تلميذات مدرستها فإنّ والدها أراد إهداءها رحلة إلى بلدها الأصلي، الذي لا تعرفه إلا من خلال الصور أو وصف والديها له.
أما والدتها التي هلكت في هذه الرحلة فقد قررت السفر إلى جزر القمر لتحضر حفل زفاف شقيقها، وكانت تودّ لو بقيت ابنتها الكبرى بهيّة في فرنسا للسّهر على شقيقتها وأخويها في فترة غيابها، ولكنّ قاسم، وهو زوجها، أصرّ على أن ترافق بهيّة أمها مكافأة لها على تفوّقها خاصّة وأنّ موعد الرّحلة تزامن مع الإجازة الصّيفيّة، وتحمّل الأب رغم دخله المحدود حباً في ابنته وتشجيعاً لها ثمن التّذكرة ذهاباً وإيّاباً والبالغ ألفا و400 أورو تقريبا.
الكابوس!
كانت الرحلة التي أهداها والدها إلى بهية هي أول سفرة لها في حياتها وأوّل مرّة تمتطي فيها الطّائرة. كانت تحلم بزيارة المنزل الذي ولد فيه والدها والتعرّف عن قرب عن بقية أفراد عشيرتها، لكنّ هذا الحلم الجميل تحوّل إلى كابوس! فأوّل ما رأته في بلادها هي جدران أحد المستشفيات، ومنه تم نقلها إلى فرنسا في طائرة خاصّة برفقة وزير التّعاون الّذي جاء خصّيصاً للاطلاع عن كثب عن ظروف الحادث الذي ذهب ضحيته عدد كبير من الفرنسيين، وفي المستشفى بباريس جاء الرئيس نيكولا ساركوزي بنفسه لعيادة بهية. لاطفها وسأل عن أحوالها واستأذنها إن كانت ترغب في التقاط صورة لهما معا. وكان الحديث يدور حولها عن “معجزة” نجاتها وعن “الحظّ” الذي حالفها، ولكنّها ورغم صغر سنّها أجابت في حزن وألم: “لا يمكن الحديث عن فتاة فقدت أمّها بأنّها محظوظة”.
وعزيزة أمّ بهيّة كانت في الثّانية والثلاثين من عمرها يوم هلاكها وقد تزوّجها قاسم بعد أن شاهدها في قريته، ثمّ أخذها معه عام 1992 إلى فرنسا التي كان يعمل ويقيم بها بمدينة “مرسيليا “بالجنوب الفرنسي، وبعد أن تحصّل قاسم على الجنسيّة الفرنسيّة أصبح يعمل في تنظيف شوارع باريس، وهو يستيقظ كلّ يوم من الثّالثة والنّصف فجرا ليقود شاحنة جمع الفضلات في شوارع العاصمة الفرنسيّة.
الأجنحة المتكسرة
كانت الطّائرة اليمنيّة المتجهة من باريس إلى جزر القمر عبر صنعاء على متنها عدد من القمريين المهاجرين في فرنسا. تتذكّر بهيّة أمّاً شابّة جميلة كانت طيلة الرّحلة تداعب رضيعها، كما تذكر طفلا أصغر منها سنا كان يضرب الكرسيّ الّذي يجلس عليه برجليه، كما تعود إلى بهيّة صورة معتمر قمري صعد إلى الطّائرة من صنعاء عائدا إلى بلاده.
بهيّة نجت من الموت نعم، ولكنّها تعيش اليوم منكسرة وفي حداد على أمّها، وهي تسهر على أخويها الأصغر منها سنّاً، وتشعر بالحزن الذي تراه كلّ صباح في عيني والدها الأرمل.
اكتسبت الطفلة بعد نجاتها من موت محقق شهرة في حيّها ومدرستها وزميلاتها لا يردن إثارة الحادث معها بعد أن لاحظن أنّها كثيرة البكاء كلما استعادت شريط الكارثة، والغريب كما تقول إنّه ورغم مأساتها فإنّ شهرتها أثارت غيرة البعض الّذين يقولون أنّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أهداها عند زيارته لها في المستشفى هاتفها الجوّال الجديد وأنّه أمر بمنح أسرتها شقّة أحسن في حيّ أرقى!
واليوم فإنّ بهيّة تريد أن تصبح طبيبة، وهي التي يتم حاليا معالجتها بسبب ما تسرّب إلى رئتيها من وقود الطّائرة الذي انساب فوق البحر الذي ابتلعها.
اللحظات الأخيرة
تتحدث بهية في كتابها عن اللحظات القليلة التي سبقت تحطم الطائرة. تقول: “طلب منّا قائد الطّائرة شدّ أحزمتنا، فقد حان موعد الهبوط. كنت أسرّح نظري عبر النّافذة للفرجة من فوق إلى ما يظهر من مدينة Moroni (موروني). فجأة شعرت بهزّة أولى أعقبتها هزة ثانيّة أكثر حدّة. لم أشدّ حزام الأمان عندما أخذت الطّائرة ترتعش كورقة شجرة آيلة للسّقوط. نظرت إلى امّي فابتسمت في وجهي لطمأنتي ومرّرت يدها بين خصلات شعري لتغمرني بفيض من حنانها. بعد ذلك سمعت صفيرا حادّا صمّ أذنيّ. كانت السّاعة تشير إلى الواحدة ظهرا و55 دقيقة أحسست كأنّ رأسي يقع في أتون”.
ثم تصف بهية ما سمعته وشاهدته بعد سقوط الطائرة في البحر. تقول: “استمعت إلى نساء يصرخن، حاولت الاقتراب من مصدر أصواتهن لمعرفة ماذا كن يقلن ولكن صخب الأمواج كان قوياً ولذلك لم أفلح في فهم ولو كلمة واحدة، حاولت أن أتّجه نحوهنّ بتحريك رجليّ ويديّ وانا ماسكة بقطعة من حطام الطائرة العائم ولكني شعرت بألم شديد وحاولت رغم ذلك ولكنّي لم أفلح، ثمّ شيئا فشيئا خفتت أصوات النّساء ولم أعد أسمع شيئا”.
وفي فصل آخر تروي بهية تفاصيل اللحظة التي تم فيها إبلاغها بأن أمها قد هلكت في الحادث. تقول: “كنت في المستشفى عندما دخلت عليّ الطبيبة النفسيّة. سألتها لماذا أمّي ليست هنا معك؟ صمتت برهة ثمّ أجابتني: لا أظنّ أنّه تمّ العثور على أمّك. إنّ هذه الكلمات القليلة قد مزّقتني وكانت أشدّ وقعا عليّ من سقوط الطّائرة، وأشدّ قسوة عليّ من ليلتي السابقة التي أمضيتها وحيدة وسط المحيط الهندي. أمّي لا يمكن أن تختفي فالأمّهات لا يختفين”.